في إطلالة مشهدية واسعة.. يكشف لنا الناقد والباحث شوقي بدر يوسف الكثير من أسرار الرواية الأفريقية التي يصب منجزها المعاصر الآن بشكل لافت في مشهدیة الأدب الأفریقي والعالمي في حداثته الآنية. فالأدب الأفريقي الذي استحق القول إنه: "إذا كان أدب أميركا اللاتینیة قد أتى لنا بالواقعیة السحریة فإن الأدب الأفریقى قد أتى لنا بالسحر الأسطوري في الأدب".. ذلك السحر.. الذي تحفل به الأساطير الأفريقية في شتى أنحاء القارة والذي تتردد لمئات الأعوام أثناء سرد الحكايات التي استمدت موضوعاتها من الأدب والأساطير الشعبية المتجذرة في قلب الإنسان الأفريقي، وانتقلت بالمشافهة في محكيات ومرويات ليالي السمر في حفلات القبيلة ومنتديات الإنسان الأفريقي في كل مكان.
ولم يخْل الأدب الإفريقي الحديث المدون من تأثيره الواضح، حيث اعتمد الراوي الأفريقي على الموروث الشعبي الحافل بالأساطير واستخدام عجائبية السحر والخيال الحكائي الواسع، واللغة السردية المبسطة والمباشرة تحرير العديد من الأعمال الروائية بكل ما تحمله من ثقل التجربة الأفريقية المتجذرة بين الشعوب والقبائل الأفريقية في الريف والغابة والمدينة.
وتزخر الكتابات المعاصرة في الأدب الأفريقي بالتماهى التي مع أصداء الأسطورة الأفريقية المتجذرة بقوة في أنحاء الميثولوجيا الأفريقية القديمة، باعتبار أن السحر يمثل الأداة غير القياسية (الخرافية) التي تستخدمها الشخصية الفاعلة في الحدث الأسطوري لتحقيق هدفها؛ بحكايا عن فاعليته المؤثرة والمتفاعلة مع الواقع المعيش في المجتمع الأفريقي؛ ومن ثم فإنها تحمل في ثنايها خطين متوازيين المباشر والخفي.. وبذلك ترقى في مستواها السردي إلى نماذج من الأدب الذي فرض نفسه على الساحة الأدبية داخل القارة وخارجها.
ففي روايته "حلم ليلة إفريقية" للكاتب سبريان إكوينسي يدخل بنا الكاتب إلى عالم مختلف من السحر والأساطير التي تمتزج بالواقع.. فتشكّل عالما غريباً يحبس الأنفاس. إنها رواية الأحلام والرؤى التي تتحقق والسحر الأسود الذي يؤدي مفعوله كاملاً. رواية البحث الطويل عن المعنى، والإصرار على الإنتقام والثأر الذي يجر الويلات والمصائب على الإنسان دون أن تردعه عن إصراره على تنفيذ وعيده بالثأر، ولكنه الثأر الذي ينقلب في النهاية على صاحبه، لتنتهي الرواية بمجموعة من القتلى والمشوهين.
أما روایة "دراموس" للروائى الغنينى كامارا لايى فتصور عودة الفتى الغیني "فاتومان" إلى وطنه حيث یأخذ فاتومان من أبيه كرة سحریة تمكنه من أن یرى الغیب ویضعها أثناء نومه تحت وسادته فیرى من خلالها أحلاما غرائبية عجيبة، وحلمه كرؤیا يجسد العديد من الأساطير الملئ بها السرد الأفريقي في صورته الآنية، وكما ھو الحال دائما في كتابات كامارا الذي یؤمن بالدلالات المستقبلیة للأحلام، ويحتوى الكثير في أعماله الروائية.
ظﻻل الغابة
وفي ظلال ما ترفده الرواية الأفريقية بحسب الكتاب المكان في الرواية، حيث يظل هذا المكوّن هو الحاضر بقوة في العديد من الأعمال الروائية الأفريقية خاصة في الريف والمدينة والغابة وسائر الأماكن الطبيعية التي تحتويها القارة الأفريقية. وقد تركت الطبيعة اﻷفريقية القاسية بصماتها على الشخصية الأفريقية ووسمت الراوي بالفطرية والتلقائية في التعبير.
والرواية الأفريقية ﻻ تراهن على كسر الطابوهات وإنما هي تعتمد الاتساق مع قسوة الطبيعة والبيئة وعفوية الشخصية الأفريقية هي التي توسمها بقدر كبير من (الجرأة). ولعل اقتراب الراوي الأفريقي من هذه الطابوهات الطبيعية في موقعه، بتلقائية وفطرية تتسم باﻻندفاع والمباشرة، تتماهى مع طبيعة النمط اﻻجتماعي وتبتعد عن أعراف المجتمعات المتقدمة ما يجعل المشهد يبدو وكأنه ملئ بالقسوة والصخب والعنف إلا أن الكاتب الأفريقي كثيرا ما يتناول فى سرده طبيعة الشخصية الأفريقية في تركيبتها الخاصة بعيدا عن الصدام والجرأة والعنف، بل هو يعتمد في بعض الأحيان رومانسية المشهد وطبيعية الشخصية الذكورية والأنثوية في حياتها البسيطة ومشكلاتها الخاصة والعامة، خاصة ما تفرضه ظلال الغابة، وتركيبة القبيلة، وطبائع البشر في كل مكان من القارة السمراء.
1. الجنس
يظل الجنس إشكالية وموضوعا رئيسيا في الكتابة الروائية، وهناك ثمة علاقة كبيرة بين انتشاره في الأدب في المجتمع أو شيوعه بين ألوان السرد والفنون المختلفة وبين إقبال بعض المجتمعات المتحررة على هذا النوع من المواد الثقافية في ظل ثقافة الكبت والدخول في حقول ألغام لا نعرف متى تنفجر. إلا أنه في الأدب الأفريقي له موضوعاته المتشعبة والقائمة على طقوس الأساطير والخرافات المتوارثة من قديم الزمان لدى الإنسان الأفريقي.
حين یحدثنا الروائي الكیني تشارلز مانجوا عن نفسه في رواية "ابن امرأة" فیقول": إنى ابن امرأة، سأكررھ علیك إلى أن توجعك أذناك الأشبه بأذني فیل. قط لم یكن لي أب في حیاتي الملعونة. ولم تتمكن أمي البغى أبدا من أن تعرف من كان أبي. هي ذكرى بالغة القصر، ذاك ما كانت تعرفه. كان واحدا من عشرات الرجال الذین أخذوھا إلى الفراش ولكنها لم تأبه لأن تتذكر، أي هؤلاء الرجال كنت أشبه. تلك هي أمي.
هذا نموذج لواحدة من العشرات من الروايات الأفريقية التي تتخذ من الأيروتيكية الجنسية معادلا موضوعيا لهذه الإشكالية الاجتماعية العالقة. أما الأبطال الآخرين في روايات الكتاب الأفارقة فهم إما ذكور جفاة، تقوم رجولتهم بقابليتهم الجنسیة العالیة (الفتاة من الخارج)، وبكبر حجم أعضائهم (واحدا وحدا) وبعدد النساء اللائي یضاجعهن، وإما أن قضايا الجنس المطروحة في روايات الكتاب الأفارقة تشبه إلى حد كبير ما يطرحه كتّاب الغرب من موضوعات وقضايا تخص نفس الموضوعات ولكن بنكهة أفريقية وشخصيات أفارقة وأماكن أفريقية محضة.
2. السياسة
وبعيدا عن التوجه الفكري والأيديولوجي يرصد الكاتب الأفريقي تأثير العوامل البيئية على الشخصية في الرواية الأفريقية وعلى الرواة أنفسهم. لقد كان الصدام المستمر للراوي الأفريقي مع السلطة من دواعي نفيه عدة مرات، فقد عاش الكاتب النيجيرى وول سوينكا على دروب النفي والتشرید سنوات طویلة، بسبب منجزه الفكري والأدبي في مجالات المسرح والسرد الروائي والقصصي. وقد وسمت طبيعة الشخصية الأفريقية العلاقة بالنظام. والمثال على ذلك هو إن السلطة التي عرضت عليه وبالأخص الرئاسة في بلده بعد وفاة ثاني أباشا. فرفض". في هذا المقطع، یروى سوینكا عن فترة الهروب من السلطة وفترة مراوغتها، ويكشف عن توغل إنسان الغابة في أعماق الشخصية، یقول : "أكثر ما يهمنى الآن ھو الفرار إلى خارج الوقت، حیث لا یقاطعني أحد سوى الطرائد ذات القوائم الأربع أو تلك التي تزعق فجأة في قلب الدغل فتثیر فىّ للحظة سؤالا عن جدوى اصطیادھا، ثم أقول لكن كم من الوقت یلزمني للغوص في أرجاء الغابة بحثا عنها، في تلك الأثناء یخیّم شعور آخر بوجود طریدة أكبر یمكن للحمها الدسم أن یطعم كتیبة مقاتلین ضلت طریقها في الدغل. حكما أنه الدغل، الدغل وحده، بروائحه، وأصواته المكمومة، وملمسه، وصمته الذي لا یخترقه شيء، وحده یغمرني أخیرا بتوقعات دافئة. نعم، ذلك فقط، ولیس إعادة اللحمة مع أحد أو استعادة أصوات معلقة في فضاء الذاكرة، فهل ذلك نوع من أنواع النفور من البشر؟ ربما تكون شهوة ھذه الفرار نابعة من خوفى المقموع، ألا أجد بیتي حیث تركته، وأنني عائد إلى حفرة ظاھرة في المشهد، حفرة الأساس التس نبشتها حجّرتها لسنوات قبل رحیلي، لعلني أجسّد رغبتي في امتلاك المكان.
3. الدين
يثير الكاتب إشكالية النزعة العقائدية في مجال السرد الروائي للكتاب الأفارقة، حيث نشأ صراع الهویات من تضارب النزعات الدینیة والاجتماعیة والقبلیة في المجتمع الأفریقى (روایة فتى جرئ بین الفتیان) حيث یدور صراع نفسي ومادي كبیر داخل الشخصية، فالكنیسة تعرض عليه الثقافة وتمثل العنصر الضروري للنجاح الدنیوي، بما تنقله من الأفكار التقدمیة والفكر الحدیث؛ یدور الصراع بین الوثنیة والمسیحیة، للاستحواذ على الولاء. غیر أن الإیمان بالطبقة الدینیة التقلیدیة من الأرواح والأجداد راسخ الجذور. لذا كان تأثیر الأفكار والمقاییس الغربیة الحدیثة ممثلة بالمعتقد الكاثولیكي، تطمسه وتخففه قوة المعتقدات والعادات التقلیدیة الراسخة والمتجذرة داخل العقلية الأفريقية.
ورغم أن المسیحیة الأفريقية تبدو من نوع مختلف، فهي تتقبل مبادئ وطقوس دین القبیله، حيث تسمح بالرقص داخل الكنيسة، وبتعدد الزوجات.. إلا أنه لم یكن بوسع الشخصية ترك الهدف الأساسي للعبادة القبلیة، عن طریق تقویة الحیاة والصلوات والاضاحي والسحر المتداول، فهي تظل واثقة أن بعض الحاسدین یغارون منه، وإنهم یستخدمون السحر ضدها. تعتقد الشخصية أن الكنیسة لا تفهم أمورا كهذه، وھي لهذا غیر قادرة على القیام بأعمال مضادة فعالة. ولكي تحمي نفسها، وتحمي عائلتها تلجأ للسحر. وتستعين بالعرافین وصنّاع التمائم، بل إنها تقدم الأضاحي حتى يهدأ إله القبیلة وأروح الأسلاف. والحیاة في القریة یمكن أن تصبح شدیدة الإزعاج بالنسبة للمنشق الذي یستخفف بالعادة التى شرفّها الزمن، ویرفض الاشتراك بالطقوس الدینیة والاجتماعیة السائدة. وقد تناول العديد من الرواة الأفارقة هذه القضية التي امتدت إلى اقتحام تفاصيل المسكوت عنه في أروقة الصراع بين الوثنية والمسيحية.
• الأدب الأفريقي وسلطة المصطلح
يتساءل الكاتب في مستهل بدايات الكتاب عما في بداية كتابه عما هو الأدب الأفريقي؟ ومنها يتطرق إلى ظاهرة (الأفريقية) ويحيلها إلى جوانب الصراع مع قوى خارج القارة وقوى أخرى داخلها متناوﻻ محددات المكان والزمان والمحتوى الفكري الذي يجعل منه أدبا عالميا.
ويتحدث بعد ذلك عن الرواية باعتبارها الجنس الأدبي السائد عالميا. وعن انعكاسات ذلك الواقع على الرواية الأفريقية وعن دورها وازدهارها وتألقها إبداعيا في ظل القيود التي حاول اﻻستعمار أن يفرضها على الإنسان الأفريقي المكبل أحيانا بقيود الداخل والخارج. ويناقش في ذلك العديد من الروايات، طارحا النماذج التي اختارها كتيمات متنوعة يتسم معظمها بتناول معاناة النفس البشرية.
من هنا كانت عناوين بعض هذه الروايات يبدو مثيرا ويفيض بالشاعرية. وقد استهوتني عناوين: الأشياء تتداعى. الرجل الذي مات. نبات الجلجل الأرجوانى. موسم الظل. نصف شمس صفراء. زھرة الكركدية الأرجواني. إدھاش الآلهة. طريق الجوع. عشبة فى اللیل. انجوجي يندم على طيبته. الله لیس مجبرا. بانتظار تصویت الحیوانات المتوحشة. یسوع بومبا المسكین. إرادات مالك الثلاث. الفتاة من الخارج. السماء ھي الحد. العشق المحترق. حب في عمق المحیط. البشرة الأرجوانیة. العین الأشد زرقة. اللون القرمزى. إمتلاك سر الفرحة. ھیكل رفیقى. كل هذه العناوين وغيرها.... لروایات تحمل داخلھا جینات التمرد والبحث عن الحریة الذاتیة والعامة. نماذج روائیة تمثل ھویة السرد الأفریقي تتصدرها موضوعات: "الإنسان الأفریقى المسحوق، والصراع بین السود والبیض، وتعسف الاستعمار وصلفه، والعلائق الأجتماعیة فى شكلها القبلي، الحاویة للطقوس القبلیة، والعادات، والتقالید، والرقص والغناء، والأساطیر والخرافات".
وفي سياق أسئلة الرواية الأفريقية؛ نكتشف بعض المتناقضات ومنها: الموقف من مسألة اللغات. یقول نجوجى واثیونجو: ھل أكتب بلغتي الأم أم بلغة المستعمر؟ ھل أترجم النص إلى لغتي أم إلى لغة الآخر؟
وھكذا جسدّت علاقته باللغة علاقة تشابك لا انفصام لها، وبدأ حالة من التمرد على الأوضاع. ليتخذ القرار: سوف ینبذ الإنجلیزیة كوسیة للتعبیر والتواصل الأدبي، ویشرع في التألیف بلغة الكیكویو، لیسلط في معظم روایاته عینا كاشفة على ما رافق الاستعمار من انسلاخ قومي. وفي نماذج أخرى نتساءل: ما الذى یجعل الكاتب الغيني كامارا لايى یتحول إلى مدافع عن الاستعمار؟ حيث تقدم روايته كل الأجابات المقنعة عن ھذا السؤال، لقد أراد كامارا أن تكون ھجوما شدیدا على نظام الحكم في غینیا فإذا به یقع في مصیدة الدفاع عن الاستعمار الفرنسي وتفضيله على نظام الحكم في غینیا في ذلك الوقت. ولغوي مضطلعا بدور المتحدث نیابة عن القارة الأفریقیة جمعاء. كذلك يجيب عن السؤال حول عنواني روایتي أتشیبى "أشیاء تتداعى"، و"لا راحة بعد الیوم" وأنھما مأخذوان من شاعرین غربيين حدیثین: إیرلندى وإنجلیزى، بالإضافة إلى استعارة الكتاب السود بعض عبارات ییتس وإلیوت؟
• طقوس الموت والحياة في الرواية الأفريقية
يناقش الكتاب كيف وظف الكتاب الأفارقة من عادات وتقاليد الشعوب في أعمالهم الروائية؟ مستعرضا العديد من الروايات التي تناولت طقوس الموت والحياة في أفريقيا، برز من خلالها كيف استلهم الكتاب الأفارقة تلك الملامح الأنثروبولوجية في إبداعاتهم عبر سرد الحیاة الیومیة. وعلى سبيل المثال:
في روایة الروائیة النیجیریة بوتش أمیتیشتا "مهر العروسة" تحتفي الرواية بالثقافة العمیقة للجنائز الأفریقیة، حيث الطقوس الشعبیة الخاصة بالموت التي یرقص فيها الناس ویغنون وتقوم سیدة بإنشاد مآثر الميت وفضائله. ونكتشف أن للجنازة الأفریقیة طقوسها الحارة، ورقصاتها وطبولها الخاصة. ومن هذه الطقوس أيضا إقامة كوخا خاصا للأرملة تقضى به فترة الحداد، وھي تسعة أشهر قمریة.. لا تزور أحد ولا تستحم، ولا تمشط.. شعرھا، عادة ما تقضى المرأة سبعة أشهر من الحداد قط، ولكن زوجها كان قد قص لنفسه خصلة من شعرھا واحتفظ لنفسه بها، وبما أنه فعل ذلك، فعليها فى هذه الحالة أن تبقى فى الحداد تسعة أشهر كاملة. وإذا ماتت في نهايتها كانت ھي المسؤولة عن موت زوجها أما إذا لم تمت اكتسبت الحق في أن تعیش حیاتها مرة أخرى..".
وفي رواية أخرى يحدثنا عن عادات "أبیوزا" حيث یأتي شباب الحى أو القریة ویدخلون إلى أكواخ الفتیات اللاتي وصلن سن البلوغ ویأخذون في شد أثداء الفتیات بطریقة صبیانیة حتى یشعرن بالألم، ویحدث ذلك في حضور الأھل، وعلى الفتاة أن تحمى نفسها دون أن تظھر استیاء ودون أن تسمح لفتاھا بالتوغل أكثر من ذلك.
كذلك يعرفنا الكاتب على العديد من المهن الأفريقية. مثلا تلك المرتبطة بالذهب.. نجده يصف كيف يستخرج.. يقتبس: "وعادة ما تكون ھذه المرأة قد جمعت ھذا الذھب في منابر سجویري، حیث تجلس القرفصاء على النهر، طوال شهور عدة دون انقطاع، وھي تغسل التراب وتستخرج منه – في صبر – حبیبات التبر".
ثم ينتقل الكاتب إلى وصف ورشة صناعة الذھب، وهي المهنة التي كانت تشتهر بها أسرة كامارا: "لم تبهرني مختلف أنواع الأعمال التي قام بها أبي قدر ما بهرتني – إلى أبعد درجة – مهاراته في صناعة الذھب. لم یضارعه في ھذه الصناعة أي عمل آخر، ولم تكن تعني سوى تلك اللمسة الرقیقة الرفیعة. وكان ھذا العمل دائما – وفوق ما تقدم – نوعا من الاحتفال، بل كان احتفالا حقیقیا یكسر رتابة أیام العمل العادیة.
وفى أجواء الأثارة احتفى الكتاب بهذه التيمة العالية في الرواية الأفريقية. حيث ﻻ بد للقارئ أن يتوقف عند أجواء الإثارة التي جسد فيها الكتاب الأفارقة المعاناة الرھیبة التي عاشتها الشخصيات الأفارقة السود في أميركا جراء العبودیة، ففى رواية "محبوبة" للكاتبة الأميركية الزنجية توني موريسون الحاصلة على جائزة نوبل تبرز تیمة الرق ومآسيها البشعة، حين يلحق مطاردو العبید بعائلة هاربة من الرق. نصطدم بواقعة قيام الأم مارغریت بذبح ابنتها لكي تضمن أن لا تتعرض الطفلة لكوابیس حیاة الرق التي تعرضت لها الأم.
مارغریت كانت تستعد أیضا لقتل أطفالها الآخرین لكن وصول الحراس إلى المنزل الذي اختبأت فيه العائلة أنقذهم من هذا الموت المحقق، وعلى خلفية هذا المشهد الدامي كان السيد غاینز یعتقد أنه الوالد الحقیقي للطفلة المذبوحة مارى".
ومن مشاهد تصویر الصراع بین الزنوج والبیض. نجد البیض وھم یطرحون سیث أرضا لیرضعوا حليبها، ثم یجلدونها لیرسم الجلد شجرة عذاب على ظهرها إلى الأبد، ویعلقون جثة بول ف. على الأشجار بلا قدمین أو رأس، ویحرقون سیكسو قبل أن یطلقوا عليها النار، وقبل ھذا وذاك یسخّرون العبید لفلاحة الأرض ویؤجرون عملهم للآخرین، ویبیعونهم في بعض الأحيان ویشكلون عصابات الكلوكس كلان لإعدامهم ومناوئتهم دون محاكمة، ویؤجرون النساء الزنجیات لراغبي المتعة، ﻻ رحمة بلا ثمن. وحين يوافق مستر جارنر على أن یشتري ھال حریة أمهم بعمل ھال أیام الآحاد لمدة خمس سنوات، فلیس ھذا إلا لأن الأم قد أصبحت غیر ذات نفع بعد أن كسرت حرقفتها، ثم لأنه ضمن أن (الزوجین الشابین ھال وسیث) سوف یوفران له نسلا بلا مقابل".
ومن التقنيات اللافتة يتحدث الكاتب عن الرمزية في الرواية الأفريقية، مستشهدا باستخدام أمادو كرووما شیفرة الحیوانات في الغابة كرمز لتفسیر مغزى حیوانیة الإنسان، منذ بدء نشأتها الأولى، وكیف أنها لا تزال موجودة في عقله ووجدانه وتفاعله من خلالها مع الحیاة، فغریزة الحیوانیة یوصف بها الإنسان في الحروب والجنس، وأحیانا من خلال التعامل مع البشر في حالات الانتقام والرغبة في القتل بوحشیة. ليدلف من خلال ذلك إلى توظیف الحیوانات في الأدب الأفریقى ويعد ذلك عند كل روائى أو شاعر أو كاتب مسرحي بمثابة توظیف للحیوانية في النفس البشریة، بل ھو: "فك شیفرة السلوك البشري بسلوك ھذا القرین الحاضر أبدا واقعیا ورمزیا، إن لم یكن مادیا. ویمكننا أن نذھب أبعد فنقول إن حضور الحیواني یؤطر حضور البشري بل هو یلتهمها في تعبيره، فكأن اللحظة التي یصفها باختین في معرض حدیثه عن رابلييه بقوله: "الجسد ینفلت من حدوده ویلتهم العالم"، منطبقة تماما على الواقع في الرواية والسرد الأفریقي، فهو عالم قاس وعنیف، فالطاغیة قبل أن یصبح طاغیة كان یطارد "قبیلة الناس العراة" لصالح المستعمر، أي یطارد أھله في روایة "بانتظار تصویت الحیوانات المتوحشة"، وفي روایته "الله لیس مجبرا" تتحدث الروایة عن صبي یصبح جندا مرتزقا یصطاد الناس. غریزة الافتراس والاصطیاد ھنا تبدو بشریة الشخصية أكثر في تعاملها من حيوانيتها وحتى مفردات المدیح التي تتوالى من أفواه باقي الشخصيات تصبح في هذه الحالة تتوافق مع الواقع المعيش في هذه الرواية المتميزة.
وفي روایته "الله لیس مجبرا" والتي تبدو في المتملقین تؤطر البشرى بصفات حیوانیة بحتة. كذلك تبدو تقنية اﻻنزياح مستشهدا برواية "حبة قمح" لنجوجى واثیونجو وهو من أبرز روائیي كینیا. يقول الكاتب: اتبع الكاتب تكنیكا یخلو من الانسیابیة في تسلسل الأحداث والزمان، ففي الوقت الذي یأخذ السرد طریقه في قص حدث أو تسلیط ضوء على موقف ما ینتقل في نفس الوقت إلى أسلوب آخر منعطفا إلى حدث آخر جدید یأخذ حیزا أكبر من مساحة السرد. ثم یعود متراجعا إلى الحدث الأول فیتمه، مما یترك انطباعا لدى المتلقى أن صانع الخطاب السردي إنما أغواه في جره إلى موقف لم یخطر على باله.
ھذا الانتقال السردي في الأحداث یتكرر مرارا، ویسیر في إیقاع ھادئ لا توجد فيه انعطافة خارقة أو انتقال صادم. الروایة بسعتها الخطابیة تتیح مثل ھكذا الإنتقالات على عكس القصة القصیرة التي هي جنس سردي أیضا يتم فيها الانتقال إلى حدث آخر بطریقة صادمة، وتقطیع حاد بحیث یمكن استشفاف التحول من أول عبارة أو استهلال كمدخل".
وقد عمدت الرواية الأفريقية إلى استخدام التقنيات الحديثة في رفد العديد من منجزها الروائي الخاص مما أهل العديد من الكتاب الأفارقة إلى الخروج إلى المشهد الروائي فى العالم كله.
ولا شك أن الروائیین الأفارقة في ظل ھذه المجرة الروائیة الأفریقیة قد حققوا إنجازا إبداعیا مدھشا أدھش العالم بأسره. لتدخل الروایة الإفریقیة منحنى التحولات في تراكم منجزھا، وقد تمیز الكثیر من إنجازها الذي تحوّل في الأدب العالمي إلى ظاھرة لافتة تستحق التقدیر والحضور والإعجاب، بعد كثیر من التهميش والتعتیم.
لقد أسقط الكاتب والناقد شوقى بدر يوسف على المشهد السردي الأفريقي ضوءا مبهرا یعّرف القارة الروائیة والمنجز السردي فيها، وھو في أرفع حالات توهجه وتألقه وحضوره على المستوى الخاص والعام. أشعرنا أن ما كتب عن الروایة الإفریقیة في منجزھا الحدیث قلیل من كثیر، وجعلنا نتوق إلى معرفة المزيد من هذا المشهد الذي بدا بأنه قد غزا العالم بمنجزه وأصبح له بصمته الخاصة في المشهد السردي على المستوى العالمى.
ولم يخْل الأدب الإفريقي الحديث المدون من تأثيره الواضح، حيث اعتمد الراوي الأفريقي على الموروث الشعبي الحافل بالأساطير واستخدام عجائبية السحر والخيال الحكائي الواسع، واللغة السردية المبسطة والمباشرة تحرير العديد من الأعمال الروائية بكل ما تحمله من ثقل التجربة الأفريقية المتجذرة بين الشعوب والقبائل الأفريقية في الريف والغابة والمدينة.
وتزخر الكتابات المعاصرة في الأدب الأفريقي بالتماهى التي مع أصداء الأسطورة الأفريقية المتجذرة بقوة في أنحاء الميثولوجيا الأفريقية القديمة، باعتبار أن السحر يمثل الأداة غير القياسية (الخرافية) التي تستخدمها الشخصية الفاعلة في الحدث الأسطوري لتحقيق هدفها؛ بحكايا عن فاعليته المؤثرة والمتفاعلة مع الواقع المعيش في المجتمع الأفريقي؛ ومن ثم فإنها تحمل في ثنايها خطين متوازيين المباشر والخفي.. وبذلك ترقى في مستواها السردي إلى نماذج من الأدب الذي فرض نفسه على الساحة الأدبية داخل القارة وخارجها.
ففي روايته "حلم ليلة إفريقية" للكاتب سبريان إكوينسي يدخل بنا الكاتب إلى عالم مختلف من السحر والأساطير التي تمتزج بالواقع.. فتشكّل عالما غريباً يحبس الأنفاس. إنها رواية الأحلام والرؤى التي تتحقق والسحر الأسود الذي يؤدي مفعوله كاملاً. رواية البحث الطويل عن المعنى، والإصرار على الإنتقام والثأر الذي يجر الويلات والمصائب على الإنسان دون أن تردعه عن إصراره على تنفيذ وعيده بالثأر، ولكنه الثأر الذي ينقلب في النهاية على صاحبه، لتنتهي الرواية بمجموعة من القتلى والمشوهين.
أما روایة "دراموس" للروائى الغنينى كامارا لايى فتصور عودة الفتى الغیني "فاتومان" إلى وطنه حيث یأخذ فاتومان من أبيه كرة سحریة تمكنه من أن یرى الغیب ویضعها أثناء نومه تحت وسادته فیرى من خلالها أحلاما غرائبية عجيبة، وحلمه كرؤیا يجسد العديد من الأساطير الملئ بها السرد الأفريقي في صورته الآنية، وكما ھو الحال دائما في كتابات كامارا الذي یؤمن بالدلالات المستقبلیة للأحلام، ويحتوى الكثير في أعماله الروائية.
ظﻻل الغابة
وفي ظلال ما ترفده الرواية الأفريقية بحسب الكتاب المكان في الرواية، حيث يظل هذا المكوّن هو الحاضر بقوة في العديد من الأعمال الروائية الأفريقية خاصة في الريف والمدينة والغابة وسائر الأماكن الطبيعية التي تحتويها القارة الأفريقية. وقد تركت الطبيعة اﻷفريقية القاسية بصماتها على الشخصية الأفريقية ووسمت الراوي بالفطرية والتلقائية في التعبير.
والرواية الأفريقية ﻻ تراهن على كسر الطابوهات وإنما هي تعتمد الاتساق مع قسوة الطبيعة والبيئة وعفوية الشخصية الأفريقية هي التي توسمها بقدر كبير من (الجرأة). ولعل اقتراب الراوي الأفريقي من هذه الطابوهات الطبيعية في موقعه، بتلقائية وفطرية تتسم باﻻندفاع والمباشرة، تتماهى مع طبيعة النمط اﻻجتماعي وتبتعد عن أعراف المجتمعات المتقدمة ما يجعل المشهد يبدو وكأنه ملئ بالقسوة والصخب والعنف إلا أن الكاتب الأفريقي كثيرا ما يتناول فى سرده طبيعة الشخصية الأفريقية في تركيبتها الخاصة بعيدا عن الصدام والجرأة والعنف، بل هو يعتمد في بعض الأحيان رومانسية المشهد وطبيعية الشخصية الذكورية والأنثوية في حياتها البسيطة ومشكلاتها الخاصة والعامة، خاصة ما تفرضه ظلال الغابة، وتركيبة القبيلة، وطبائع البشر في كل مكان من القارة السمراء.
1. الجنس
يظل الجنس إشكالية وموضوعا رئيسيا في الكتابة الروائية، وهناك ثمة علاقة كبيرة بين انتشاره في الأدب في المجتمع أو شيوعه بين ألوان السرد والفنون المختلفة وبين إقبال بعض المجتمعات المتحررة على هذا النوع من المواد الثقافية في ظل ثقافة الكبت والدخول في حقول ألغام لا نعرف متى تنفجر. إلا أنه في الأدب الأفريقي له موضوعاته المتشعبة والقائمة على طقوس الأساطير والخرافات المتوارثة من قديم الزمان لدى الإنسان الأفريقي.
حين یحدثنا الروائي الكیني تشارلز مانجوا عن نفسه في رواية "ابن امرأة" فیقول": إنى ابن امرأة، سأكررھ علیك إلى أن توجعك أذناك الأشبه بأذني فیل. قط لم یكن لي أب في حیاتي الملعونة. ولم تتمكن أمي البغى أبدا من أن تعرف من كان أبي. هي ذكرى بالغة القصر، ذاك ما كانت تعرفه. كان واحدا من عشرات الرجال الذین أخذوھا إلى الفراش ولكنها لم تأبه لأن تتذكر، أي هؤلاء الرجال كنت أشبه. تلك هي أمي.
هذا نموذج لواحدة من العشرات من الروايات الأفريقية التي تتخذ من الأيروتيكية الجنسية معادلا موضوعيا لهذه الإشكالية الاجتماعية العالقة. أما الأبطال الآخرين في روايات الكتاب الأفارقة فهم إما ذكور جفاة، تقوم رجولتهم بقابليتهم الجنسیة العالیة (الفتاة من الخارج)، وبكبر حجم أعضائهم (واحدا وحدا) وبعدد النساء اللائي یضاجعهن، وإما أن قضايا الجنس المطروحة في روايات الكتاب الأفارقة تشبه إلى حد كبير ما يطرحه كتّاب الغرب من موضوعات وقضايا تخص نفس الموضوعات ولكن بنكهة أفريقية وشخصيات أفارقة وأماكن أفريقية محضة.
2. السياسة
وبعيدا عن التوجه الفكري والأيديولوجي يرصد الكاتب الأفريقي تأثير العوامل البيئية على الشخصية في الرواية الأفريقية وعلى الرواة أنفسهم. لقد كان الصدام المستمر للراوي الأفريقي مع السلطة من دواعي نفيه عدة مرات، فقد عاش الكاتب النيجيرى وول سوينكا على دروب النفي والتشرید سنوات طویلة، بسبب منجزه الفكري والأدبي في مجالات المسرح والسرد الروائي والقصصي. وقد وسمت طبيعة الشخصية الأفريقية العلاقة بالنظام. والمثال على ذلك هو إن السلطة التي عرضت عليه وبالأخص الرئاسة في بلده بعد وفاة ثاني أباشا. فرفض". في هذا المقطع، یروى سوینكا عن فترة الهروب من السلطة وفترة مراوغتها، ويكشف عن توغل إنسان الغابة في أعماق الشخصية، یقول : "أكثر ما يهمنى الآن ھو الفرار إلى خارج الوقت، حیث لا یقاطعني أحد سوى الطرائد ذات القوائم الأربع أو تلك التي تزعق فجأة في قلب الدغل فتثیر فىّ للحظة سؤالا عن جدوى اصطیادھا، ثم أقول لكن كم من الوقت یلزمني للغوص في أرجاء الغابة بحثا عنها، في تلك الأثناء یخیّم شعور آخر بوجود طریدة أكبر یمكن للحمها الدسم أن یطعم كتیبة مقاتلین ضلت طریقها في الدغل. حكما أنه الدغل، الدغل وحده، بروائحه، وأصواته المكمومة، وملمسه، وصمته الذي لا یخترقه شيء، وحده یغمرني أخیرا بتوقعات دافئة. نعم، ذلك فقط، ولیس إعادة اللحمة مع أحد أو استعادة أصوات معلقة في فضاء الذاكرة، فهل ذلك نوع من أنواع النفور من البشر؟ ربما تكون شهوة ھذه الفرار نابعة من خوفى المقموع، ألا أجد بیتي حیث تركته، وأنني عائد إلى حفرة ظاھرة في المشهد، حفرة الأساس التس نبشتها حجّرتها لسنوات قبل رحیلي، لعلني أجسّد رغبتي في امتلاك المكان.
3. الدين
يثير الكاتب إشكالية النزعة العقائدية في مجال السرد الروائي للكتاب الأفارقة، حيث نشأ صراع الهویات من تضارب النزعات الدینیة والاجتماعیة والقبلیة في المجتمع الأفریقى (روایة فتى جرئ بین الفتیان) حيث یدور صراع نفسي ومادي كبیر داخل الشخصية، فالكنیسة تعرض عليه الثقافة وتمثل العنصر الضروري للنجاح الدنیوي، بما تنقله من الأفكار التقدمیة والفكر الحدیث؛ یدور الصراع بین الوثنیة والمسیحیة، للاستحواذ على الولاء. غیر أن الإیمان بالطبقة الدینیة التقلیدیة من الأرواح والأجداد راسخ الجذور. لذا كان تأثیر الأفكار والمقاییس الغربیة الحدیثة ممثلة بالمعتقد الكاثولیكي، تطمسه وتخففه قوة المعتقدات والعادات التقلیدیة الراسخة والمتجذرة داخل العقلية الأفريقية.
ورغم أن المسیحیة الأفريقية تبدو من نوع مختلف، فهي تتقبل مبادئ وطقوس دین القبیله، حيث تسمح بالرقص داخل الكنيسة، وبتعدد الزوجات.. إلا أنه لم یكن بوسع الشخصية ترك الهدف الأساسي للعبادة القبلیة، عن طریق تقویة الحیاة والصلوات والاضاحي والسحر المتداول، فهي تظل واثقة أن بعض الحاسدین یغارون منه، وإنهم یستخدمون السحر ضدها. تعتقد الشخصية أن الكنیسة لا تفهم أمورا كهذه، وھي لهذا غیر قادرة على القیام بأعمال مضادة فعالة. ولكي تحمي نفسها، وتحمي عائلتها تلجأ للسحر. وتستعين بالعرافین وصنّاع التمائم، بل إنها تقدم الأضاحي حتى يهدأ إله القبیلة وأروح الأسلاف. والحیاة في القریة یمكن أن تصبح شدیدة الإزعاج بالنسبة للمنشق الذي یستخفف بالعادة التى شرفّها الزمن، ویرفض الاشتراك بالطقوس الدینیة والاجتماعیة السائدة. وقد تناول العديد من الرواة الأفارقة هذه القضية التي امتدت إلى اقتحام تفاصيل المسكوت عنه في أروقة الصراع بين الوثنية والمسيحية.
• الأدب الأفريقي وسلطة المصطلح
يتساءل الكاتب في مستهل بدايات الكتاب عما في بداية كتابه عما هو الأدب الأفريقي؟ ومنها يتطرق إلى ظاهرة (الأفريقية) ويحيلها إلى جوانب الصراع مع قوى خارج القارة وقوى أخرى داخلها متناوﻻ محددات المكان والزمان والمحتوى الفكري الذي يجعل منه أدبا عالميا.
ويتحدث بعد ذلك عن الرواية باعتبارها الجنس الأدبي السائد عالميا. وعن انعكاسات ذلك الواقع على الرواية الأفريقية وعن دورها وازدهارها وتألقها إبداعيا في ظل القيود التي حاول اﻻستعمار أن يفرضها على الإنسان الأفريقي المكبل أحيانا بقيود الداخل والخارج. ويناقش في ذلك العديد من الروايات، طارحا النماذج التي اختارها كتيمات متنوعة يتسم معظمها بتناول معاناة النفس البشرية.
من هنا كانت عناوين بعض هذه الروايات يبدو مثيرا ويفيض بالشاعرية. وقد استهوتني عناوين: الأشياء تتداعى. الرجل الذي مات. نبات الجلجل الأرجوانى. موسم الظل. نصف شمس صفراء. زھرة الكركدية الأرجواني. إدھاش الآلهة. طريق الجوع. عشبة فى اللیل. انجوجي يندم على طيبته. الله لیس مجبرا. بانتظار تصویت الحیوانات المتوحشة. یسوع بومبا المسكین. إرادات مالك الثلاث. الفتاة من الخارج. السماء ھي الحد. العشق المحترق. حب في عمق المحیط. البشرة الأرجوانیة. العین الأشد زرقة. اللون القرمزى. إمتلاك سر الفرحة. ھیكل رفیقى. كل هذه العناوين وغيرها.... لروایات تحمل داخلھا جینات التمرد والبحث عن الحریة الذاتیة والعامة. نماذج روائیة تمثل ھویة السرد الأفریقي تتصدرها موضوعات: "الإنسان الأفریقى المسحوق، والصراع بین السود والبیض، وتعسف الاستعمار وصلفه، والعلائق الأجتماعیة فى شكلها القبلي، الحاویة للطقوس القبلیة، والعادات، والتقالید، والرقص والغناء، والأساطیر والخرافات".
وفي سياق أسئلة الرواية الأفريقية؛ نكتشف بعض المتناقضات ومنها: الموقف من مسألة اللغات. یقول نجوجى واثیونجو: ھل أكتب بلغتي الأم أم بلغة المستعمر؟ ھل أترجم النص إلى لغتي أم إلى لغة الآخر؟
وھكذا جسدّت علاقته باللغة علاقة تشابك لا انفصام لها، وبدأ حالة من التمرد على الأوضاع. ليتخذ القرار: سوف ینبذ الإنجلیزیة كوسیة للتعبیر والتواصل الأدبي، ویشرع في التألیف بلغة الكیكویو، لیسلط في معظم روایاته عینا كاشفة على ما رافق الاستعمار من انسلاخ قومي. وفي نماذج أخرى نتساءل: ما الذى یجعل الكاتب الغيني كامارا لايى یتحول إلى مدافع عن الاستعمار؟ حيث تقدم روايته كل الأجابات المقنعة عن ھذا السؤال، لقد أراد كامارا أن تكون ھجوما شدیدا على نظام الحكم في غینیا فإذا به یقع في مصیدة الدفاع عن الاستعمار الفرنسي وتفضيله على نظام الحكم في غینیا في ذلك الوقت. ولغوي مضطلعا بدور المتحدث نیابة عن القارة الأفریقیة جمعاء. كذلك يجيب عن السؤال حول عنواني روایتي أتشیبى "أشیاء تتداعى"، و"لا راحة بعد الیوم" وأنھما مأخذوان من شاعرین غربيين حدیثین: إیرلندى وإنجلیزى، بالإضافة إلى استعارة الكتاب السود بعض عبارات ییتس وإلیوت؟
• طقوس الموت والحياة في الرواية الأفريقية
يناقش الكتاب كيف وظف الكتاب الأفارقة من عادات وتقاليد الشعوب في أعمالهم الروائية؟ مستعرضا العديد من الروايات التي تناولت طقوس الموت والحياة في أفريقيا، برز من خلالها كيف استلهم الكتاب الأفارقة تلك الملامح الأنثروبولوجية في إبداعاتهم عبر سرد الحیاة الیومیة. وعلى سبيل المثال:
في روایة الروائیة النیجیریة بوتش أمیتیشتا "مهر العروسة" تحتفي الرواية بالثقافة العمیقة للجنائز الأفریقیة، حيث الطقوس الشعبیة الخاصة بالموت التي یرقص فيها الناس ویغنون وتقوم سیدة بإنشاد مآثر الميت وفضائله. ونكتشف أن للجنازة الأفریقیة طقوسها الحارة، ورقصاتها وطبولها الخاصة. ومن هذه الطقوس أيضا إقامة كوخا خاصا للأرملة تقضى به فترة الحداد، وھي تسعة أشهر قمریة.. لا تزور أحد ولا تستحم، ولا تمشط.. شعرھا، عادة ما تقضى المرأة سبعة أشهر من الحداد قط، ولكن زوجها كان قد قص لنفسه خصلة من شعرھا واحتفظ لنفسه بها، وبما أنه فعل ذلك، فعليها فى هذه الحالة أن تبقى فى الحداد تسعة أشهر كاملة. وإذا ماتت في نهايتها كانت ھي المسؤولة عن موت زوجها أما إذا لم تمت اكتسبت الحق في أن تعیش حیاتها مرة أخرى..".
وفي رواية أخرى يحدثنا عن عادات "أبیوزا" حيث یأتي شباب الحى أو القریة ویدخلون إلى أكواخ الفتیات اللاتي وصلن سن البلوغ ویأخذون في شد أثداء الفتیات بطریقة صبیانیة حتى یشعرن بالألم، ویحدث ذلك في حضور الأھل، وعلى الفتاة أن تحمى نفسها دون أن تظھر استیاء ودون أن تسمح لفتاھا بالتوغل أكثر من ذلك.
كذلك يعرفنا الكاتب على العديد من المهن الأفريقية. مثلا تلك المرتبطة بالذهب.. نجده يصف كيف يستخرج.. يقتبس: "وعادة ما تكون ھذه المرأة قد جمعت ھذا الذھب في منابر سجویري، حیث تجلس القرفصاء على النهر، طوال شهور عدة دون انقطاع، وھي تغسل التراب وتستخرج منه – في صبر – حبیبات التبر".
ثم ينتقل الكاتب إلى وصف ورشة صناعة الذھب، وهي المهنة التي كانت تشتهر بها أسرة كامارا: "لم تبهرني مختلف أنواع الأعمال التي قام بها أبي قدر ما بهرتني – إلى أبعد درجة – مهاراته في صناعة الذھب. لم یضارعه في ھذه الصناعة أي عمل آخر، ولم تكن تعني سوى تلك اللمسة الرقیقة الرفیعة. وكان ھذا العمل دائما – وفوق ما تقدم – نوعا من الاحتفال، بل كان احتفالا حقیقیا یكسر رتابة أیام العمل العادیة.
وفى أجواء الأثارة احتفى الكتاب بهذه التيمة العالية في الرواية الأفريقية. حيث ﻻ بد للقارئ أن يتوقف عند أجواء الإثارة التي جسد فيها الكتاب الأفارقة المعاناة الرھیبة التي عاشتها الشخصيات الأفارقة السود في أميركا جراء العبودیة، ففى رواية "محبوبة" للكاتبة الأميركية الزنجية توني موريسون الحاصلة على جائزة نوبل تبرز تیمة الرق ومآسيها البشعة، حين يلحق مطاردو العبید بعائلة هاربة من الرق. نصطدم بواقعة قيام الأم مارغریت بذبح ابنتها لكي تضمن أن لا تتعرض الطفلة لكوابیس حیاة الرق التي تعرضت لها الأم.
مارغریت كانت تستعد أیضا لقتل أطفالها الآخرین لكن وصول الحراس إلى المنزل الذي اختبأت فيه العائلة أنقذهم من هذا الموت المحقق، وعلى خلفية هذا المشهد الدامي كان السيد غاینز یعتقد أنه الوالد الحقیقي للطفلة المذبوحة مارى".
ومن مشاهد تصویر الصراع بین الزنوج والبیض. نجد البیض وھم یطرحون سیث أرضا لیرضعوا حليبها، ثم یجلدونها لیرسم الجلد شجرة عذاب على ظهرها إلى الأبد، ویعلقون جثة بول ف. على الأشجار بلا قدمین أو رأس، ویحرقون سیكسو قبل أن یطلقوا عليها النار، وقبل ھذا وذاك یسخّرون العبید لفلاحة الأرض ویؤجرون عملهم للآخرین، ویبیعونهم في بعض الأحيان ویشكلون عصابات الكلوكس كلان لإعدامهم ومناوئتهم دون محاكمة، ویؤجرون النساء الزنجیات لراغبي المتعة، ﻻ رحمة بلا ثمن. وحين يوافق مستر جارنر على أن یشتري ھال حریة أمهم بعمل ھال أیام الآحاد لمدة خمس سنوات، فلیس ھذا إلا لأن الأم قد أصبحت غیر ذات نفع بعد أن كسرت حرقفتها، ثم لأنه ضمن أن (الزوجین الشابین ھال وسیث) سوف یوفران له نسلا بلا مقابل".
ومن التقنيات اللافتة يتحدث الكاتب عن الرمزية في الرواية الأفريقية، مستشهدا باستخدام أمادو كرووما شیفرة الحیوانات في الغابة كرمز لتفسیر مغزى حیوانیة الإنسان، منذ بدء نشأتها الأولى، وكیف أنها لا تزال موجودة في عقله ووجدانه وتفاعله من خلالها مع الحیاة، فغریزة الحیوانیة یوصف بها الإنسان في الحروب والجنس، وأحیانا من خلال التعامل مع البشر في حالات الانتقام والرغبة في القتل بوحشیة. ليدلف من خلال ذلك إلى توظیف الحیوانات في الأدب الأفریقى ويعد ذلك عند كل روائى أو شاعر أو كاتب مسرحي بمثابة توظیف للحیوانية في النفس البشریة، بل ھو: "فك شیفرة السلوك البشري بسلوك ھذا القرین الحاضر أبدا واقعیا ورمزیا، إن لم یكن مادیا. ویمكننا أن نذھب أبعد فنقول إن حضور الحیواني یؤطر حضور البشري بل هو یلتهمها في تعبيره، فكأن اللحظة التي یصفها باختین في معرض حدیثه عن رابلييه بقوله: "الجسد ینفلت من حدوده ویلتهم العالم"، منطبقة تماما على الواقع في الرواية والسرد الأفریقي، فهو عالم قاس وعنیف، فالطاغیة قبل أن یصبح طاغیة كان یطارد "قبیلة الناس العراة" لصالح المستعمر، أي یطارد أھله في روایة "بانتظار تصویت الحیوانات المتوحشة"، وفي روایته "الله لیس مجبرا" تتحدث الروایة عن صبي یصبح جندا مرتزقا یصطاد الناس. غریزة الافتراس والاصطیاد ھنا تبدو بشریة الشخصية أكثر في تعاملها من حيوانيتها وحتى مفردات المدیح التي تتوالى من أفواه باقي الشخصيات تصبح في هذه الحالة تتوافق مع الواقع المعيش في هذه الرواية المتميزة.
وفي روایته "الله لیس مجبرا" والتي تبدو في المتملقین تؤطر البشرى بصفات حیوانیة بحتة. كذلك تبدو تقنية اﻻنزياح مستشهدا برواية "حبة قمح" لنجوجى واثیونجو وهو من أبرز روائیي كینیا. يقول الكاتب: اتبع الكاتب تكنیكا یخلو من الانسیابیة في تسلسل الأحداث والزمان، ففي الوقت الذي یأخذ السرد طریقه في قص حدث أو تسلیط ضوء على موقف ما ینتقل في نفس الوقت إلى أسلوب آخر منعطفا إلى حدث آخر جدید یأخذ حیزا أكبر من مساحة السرد. ثم یعود متراجعا إلى الحدث الأول فیتمه، مما یترك انطباعا لدى المتلقى أن صانع الخطاب السردي إنما أغواه في جره إلى موقف لم یخطر على باله.
ھذا الانتقال السردي في الأحداث یتكرر مرارا، ویسیر في إیقاع ھادئ لا توجد فيه انعطافة خارقة أو انتقال صادم. الروایة بسعتها الخطابیة تتیح مثل ھكذا الإنتقالات على عكس القصة القصیرة التي هي جنس سردي أیضا يتم فيها الانتقال إلى حدث آخر بطریقة صادمة، وتقطیع حاد بحیث یمكن استشفاف التحول من أول عبارة أو استهلال كمدخل".
وقد عمدت الرواية الأفريقية إلى استخدام التقنيات الحديثة في رفد العديد من منجزها الروائي الخاص مما أهل العديد من الكتاب الأفارقة إلى الخروج إلى المشهد الروائي فى العالم كله.
ولا شك أن الروائیین الأفارقة في ظل ھذه المجرة الروائیة الأفریقیة قد حققوا إنجازا إبداعیا مدھشا أدھش العالم بأسره. لتدخل الروایة الإفریقیة منحنى التحولات في تراكم منجزھا، وقد تمیز الكثیر من إنجازها الذي تحوّل في الأدب العالمي إلى ظاھرة لافتة تستحق التقدیر والحضور والإعجاب، بعد كثیر من التهميش والتعتیم.
لقد أسقط الكاتب والناقد شوقى بدر يوسف على المشهد السردي الأفريقي ضوءا مبهرا یعّرف القارة الروائیة والمنجز السردي فيها، وھو في أرفع حالات توهجه وتألقه وحضوره على المستوى الخاص والعام. أشعرنا أن ما كتب عن الروایة الإفریقیة في منجزھا الحدیث قلیل من كثیر، وجعلنا نتوق إلى معرفة المزيد من هذا المشهد الذي بدا بأنه قد غزا العالم بمنجزه وأصبح له بصمته الخاصة في المشهد السردي على المستوى العالمى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق