اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

التشكّيل اللّغوي في ديوان "للنخلة دين عليّ" للشاعر يوسف الباز بلغيث بقلم : عقيلة شنيقل ـــ باحثة دكتوراه ــ جامعة باجي مختار ــ عنابة ــ الجزائر


تمهيد:
يزخر المتن الشعري المعاصر بإيحاءاتٍ ورموزٍ مكثفةٍ تجعل النص قيثارة تستكين لها الأفئدة، فصار كتلةً من الإيماءات يستودع الشاعر فيها طاقته وشاعريته، فأدرك أنّ اللّغة البسيطة لم تعد قادرة على احتواء تجربته فراح ينفخ فيه من وحي إبداعه ليرسم دلالة جديدة للكلمات ويصبغها بمعانٍ جمة من صنعه تدعى اللّغة الجمالية " فمن أهم سمات اللّغة الانفعالية أو الجمالية أن تكون ذات خصائص متميزة خاضعة لتفرد الفنان وأسلوبه في صياغة التركيبة الفنّية الخاصة داخل الصورة الشعرية و أن يجعل من أصول اللّغة
وأساليبها المألوفة أسسًا ينطلق منها نحو الإضافة والتعميق واكتساب الكيان التعبيري المتميّز" (1) الاستراتيجية التي من شأنها فتح المجال أمام القارئ لكثرة التأويلات وتعدّد القراءات ، و في بحثنا هذا نحن بصدّد كشف مميزات الكتابة البازية و التفتيش عن المعجم اللّغوي للشاعر في عملنا الموسوم ب " التشكّيل اللّغوي في ديوان للنخلة دين عليّ للشاعر يوسف الباز بلغيث" نسعى من خلاله إلى رصد البنيات اللّغوية و الوقوف على طبيعة اللّغة لدى الشاعر.
الإطار العام للديوان:
للنخلة دين علي ديوان شعري يطرح الشاعر من خلاله العديد من القضايا، حاول الباز من خلاله توجيه رسالة مغزاها الحب والجمال والسلام والوطنية، جمع الشاعر في ديوانه بين بعديين رئيسيين يؤكّدان النظرة الواقعية و الرومنسية التي ينتمي إليها، و لا غرابة فالشاعر يغرف من لغة الضاد وقاموس القدامى، فالكتابة البازية تشعر القارئ بتشابه مع شعراء لهم وزن في تاريخ أمتنا تجمعه وإياهم الرصانة والفصاحة والبلاغة وقوة التعبير واللّغة الجزلة، ففي ديوانه " للنخلة دين عليّ" مزج الشاعر بين قضايا رومنسية وأخرى وطنية ، طرح موضوعات حب وعاطفة من خلال جملة من القصائد أبرزها قصيدة " حوائي" يقول فيها:
سيحي فراشًا على الربوات في الذات ** هن الشذى لعبير الروح.. نشواتي
لا تنكري وجعي النواح لا تثبي ** فوق الأنين ..كلا الهمّين آهاتي
هل تذكرين حنيني،،لهفتي،،قلقي** وهج الضلوع..سجين البين، بحّاتي
تنسل بين ضلوعي خلسة ودمي**أسقي بها فرحي المهجور في ذاتي
أو رعشة سبقت أضغاث خمرتها **تنأى بأخيلتي..تسلو بأنّاتي
كم يعتريها هفيف البوح دون أسىً**يروي لها ولهي فيها ومأساتي
هناك تسكن حوائي وأشرعتي** فيها مسدّلة شطر المنارات" (2)
إضافةً إلى البعد الرومنسي فقد تفاعل الشاعر وتأثر بحوادث و ظواهر أثقلت كاهل أمتنا في أيامنا الأخيرة، ما يؤكّد الحس المرهف للشاعر واحتكاكه الكبير بالواقع ونزوله للمجتمع مصورًا بلغته أهم القضايا التي تشغله ، ففي قصيدة مهداة للطفل السوري عيلان عبد اللّه الكردي رحمه الله في قصيدة " للشام تهون الحياة.." قصيدة مغلفة بتفاؤل يقول فيها:
"أيا نسمة الشام دكّي الضباب
بأحلامه يوم ضاق الأفق
تناثر منك الندى في الغياب
لكِ الله من نسمة في ألق
وللشام قلبي يسوق الحياة
بأحلى الزغاريد..لن تحزنا" (3)
فالشاعر هو الناطق باسم مجتمعه راح يتضامن مع ما يحدث من انتفاضات في البيئة العربية ويأخذ منها موضوعا لقصائده، وهنا تأكيّد على علاقة الأخوة بين البلدين الجزائر وسوريا ، عندما راح يتفاعل مع أحداث سورية الأخيرة مبشرا أنّ موسم الإزهار سيحلّ حتما على الشام.



جمالية العنوان:
"للنخلة دين عليّ" تركيب شفيف ممضمخ بمدلولات العطاء والكرم، يشعر من يقرأ العنوان بعلاقة متينة بين الشاعر والنخلة، يأخذنا العنوان مباشرة إلى قصة مريم والنخلة ، فالشاعر تفاعل مع النص القرآني واستلهم من قصة مريم، يقول سبحانه وتعالى في سورة مريم: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" (4)
من يتأمّل في العنوان يشعر بالعلاقة الوطيدة بين مريم فارتبط اسمها بالنخلة المباركة وبين الشاعر ودينه على النخلة ، فكأنّ النخلة حق على الشاعر ومن واجبه رد الدين، ويزيد هذا الدين أكثر مع كلمة " عليّ " فمن خلال النص القرآني و من خلال النص الشعري نلتمس علاقة تشابه، تصب وجوه الشبه بينهما في : الكرم، الجود، السخاء، العطاء، الحب، الحنان، التسامي والرقي، هي المدلولات المتفق عليها منذ القديم حول هذه الشجرة المباركة، وهذا ما تقرّ به النصوص التراثية، الدينية والأدبية من خلال أشعار الجاهلية مثل امرئ القيس.
بعد الولوج للمتن الشعري يتضح لنا أنّ النخلة عند الباز تتّخذ صورتين :
فقد يقصد بها الوطن و ماله من دور كبير في صقل مواهبه وتمكنه من لغة الضاد وفيها رمز للأصالة والمحافظة كما توحي بالهوية وتعبّر عن مقوّم أساسي من مقومات الجزائر، فقد يرمي الشاعر بالنخلة على أنّها الجزائر، فقد تتهيئ النخلة وتأخذ صورة الجزائر، يقول في قصيدته المعنونة ب " موال إلى عروس المدائن "
أنت الجزائر يكفي الاسم من ألق**حتى ألملم باقي الوجد من ألقي
تبقين فاتنتي دهرا ومن أزلٍ ** أحيا بلوعتك الهيفاء فاندفقي (5)
وقد يقصد بالنخلة من جهة أخرى المرأة، هي الملهمة والملاذ الذي توحي للشاعر، وهذا ما تؤكّده العديد من القصائد المندرجة ضمن هذا الديوان، يقول في قصيدة "عاشقة منتصف القلب" :
"يا ويح من شرب الغرام
بكأس عاشقة تدكّ بقلبها
لهبًا، وتحسبه بكلّ
جنونها ــــ أسفا ـــ سعادة
...وتبيح شنق عواطفي
قبل الزلال والعواطف
قدر كلّ قصيدة حبلى
بأوزان زيادة" (6)
فالنخلة في كلا التصورين سواء الوطن أو المرأة دين عند الشاعر لما تقدّمه من عطاء و حب و حنان و كرم ..
المستوى الإيقاعي:
نوّع الباز في ديوانه بين الشعر الحر و الشعر العمودي، محاولا من خلال ديوانه الجميع بين الماضي والحاضر، الأصالة والمعاصرة، وبما أنّه بصدد الحديث عن ظواهر ماضية وأخرى معاصرة فالمقام منه يستدعي التنويع بين النمط الخليلي والآخر الصافي الحر، فجمع بين النمطين وهو دليل على تمكن الشاعر من النظم والطاقات الفعالة التي تتميّز بها الكتابة البلغيثة ، فأمطر على ذائقة القارئ ثمرات زكية من خلال نخلته، ولتوضيح هذا التنوع في الإيقاع انتقينا النماذج الآتية:
قصيدة حفرية الأحزان(7)
وقف الغريب يسائل الجدرانا***ونقوش حزن تعتلي الوجدانا
وَقَفَلْغَرِيْبُ يُسَاْئِلُ لْجُدْرَاْنَاْ***وَنُقُوْشَحُزْنِنْ تَعْتَلِلْوِجْدَاْنَاْ
///0//0///0//0/0/0/0 ///0//0/0/0//0/0/0/0
متفاعلن متفاعلن متفاعل متفاعلن متفاعلن متفاعل
البحر: الكامل، يوحي بطول النفس والحزن والملل، ومن العنوان تتضح هذه الدلالات وصولا للمتن، تفعيلاته الأصلية:
(مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ)
أصابه زحاف الإضمار مُتْفَاْعِلُنْ (/0/0//0) أي تسكين الحرف الثّاني، والقطع متفاعل (/0/0/0) أي حذف الحرف الآخير، وتسكين ما قبله.
القافية (دَاْنَاْ) (/0/0) الروي: النون
عصفورة تشتاق بسمة عشها**دوحًا يناور بالندى الأغصانا
والحرف يسلو بالخيال صبابة**قد حيّر الاكوانا والأزمانا
قصيدة مدّي العراجين يا مصر..(8)
الحبّ لبّى صدى الأشواق يامصر**وأنت شمس سرت بالقلب ..أم سحر؟
اَلْحُبْبُ لَبْبَىْصَدَلْأَشْوَاْقِ يَاْمِصْرَاْ**وَأَنْتِ شَمْسُنْ سِرْتِ بِلْقَلْبِ أَمْ سِحْرُوْ؟
/0/0//0/0//0/0/0//0/0/0 //0//0/0/0//0/0/0//0/0
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل متفعلن فاعل متفعلن فاعلاتن
البحر البسيط وتفعيلاته الأصلية هي: ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل)
أصابته علل وزحافات مثل الخبن متفعلن والقطع فاعلن
القافية: سِحْرُوْ(/0/0) والروي هو حرف الرّاء.
لاتعذليني فخمري ملئ آنيتي **وكيف أسأل عن ذنب به سكر
قصيدة أناءات حلم (9)
ها أنا نار على صدر الغدير
هَاْ أَنَاْ نَارُنْ عَلَىىْ صَدْرِلْغَدِيْرِيْ
/0//0/0/0//0/0/0//0/0
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
ها أنا طير بكى شدو الخرير
هَاْ أَنَاْ طَيْرُنْ بَكَى شَدْوَ لْخَرِيْرِيْ
/0//0/0/0//0/0/0//0/0
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
البحر هو: الرمل تفعيلاته الأصلية (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن)
القافية هي: رِيْرِيْ(/0/0) الروي هو الرّاء
المستوى التركيبي:
لكلّ شاعر معجمه اللّغوي و أسلوبه المتميّز في صناعة الألفاط وسبك بعضها البعض، وللباز منهجه في النسج، فاعتمد على جملة أساليب التقدّيم والتأخير والحذف والحوار في ديوانه مشكًلا أسلوبًا بازيًا متفردًا به، عمد من خلاله إلى خلخة النظام اللّغوي العام راسمًا مشوشًا ذهن القارئ و مغيّبا لمدركاته الحسية ، ومن بين مواطن الخرق نذكر مايلّي:
التقدّيم والتأخير: من نماذج التقدّيم والتأخير نذكر الآتي:
"للنخلة دين عليّ" قدّم الشاعر الخبر شبه الجملة " للنخلة " على المبتدأ" دين عليّ" ، فمنح الشاعر الأسبقية للنخلة لما يكنه لها من واجب التقدّير من جهة و لعطاءاتها وكرمها عليه مسبقا وما يؤكّد هذا العطاء هو الدين الكبير الذي يحمله على عاتقه إكرامًا لها.
الحذف:
الحذف لغة الشاعر، فالحذف في الشعر ضمنيًا يحمل إفصاح، فحذف الشاعر لكلمة ليس معناه قطع نهائي وإنّما في الحذف بناء وإفصاح ومهمة تنتظر القارئ، ففي الحذف يشرع القارئ في عمله أي إكمال النص الأصلي، ولجوء الباز للحذف ليسَ عيبًا وإنّما تمكنًا منه ورغبته في بث روح القارئ روحًا جديدة على ديوانه، ومن أمثلة الحذف في الديوان نذكر الفراغات في قصيدته" نقر على جرح سنبلة" مملوءة بفراغات تنتظر القارئ إكمالها:
"يدغدغ الأصيل
حلمها ك " لوحةٍ"..
بريشة الفرح..
مراقصًا ألوانها.." (10)
حلمها كلوحة جميلة بريشة الفرح رسمت /مراقصًا ألوانها البراقة، فعمد الشاعر على حذف الأوصاف لبلاغة الصورة.
الحوار: لجأ الشاعر للحوار في العديد من القصائد أسلوبًا شاعريًا في النظم ،فقال في قصيدته" أوّاه":
"هل تسمعنّ بثلج الجمر؟..أسأله
لا أسمعنَّ وزاد العجب بلواه"(11)
وفي الحوار رغبة في مشاركة القارئ أنّاته وخلق تفاعل و دينامية بين القارئ ونّصه، ما يجعل النص أكثر انفتاح وحيوية، حتى يعتقد القارئ أنّ القصيدة نظمت على لسانه مفصحةً عن حالته.
المستوى الدلالي: يغرف الباز من معاجم متنوعة، فلاشك أنّه يستلهم من قاموس القدامى والمعاصرين مشكّلًا لغة جديدة تحت قالب التجريب، فنفس الشاعر تواقة للجديد آخذًا من رصيد القدّيم شعاعًا لكتاباته، فتشكّل ديوانه من جملة من الحقول، تكاثفت جميعًا في الإخراج العام للعمل الإبداعي، وفيما يلّي أبرز الحقول الدلالية التي بنيَّت على إثرها لغة الديوان:
حقل الحب: الشوق، فاتنة، النشوة، الروح، القلب، الرعشة، مهج العشاق، الفراشة، العرس، الفرحة، الرقص، اللّحن، الهمس، الزقزقات، البسمة، الوجدان، الفؤاد، التوق، الحلم، الصبابة، اللّهفة...
حقل الحزن: أواه، الجمر، الهم، الجرح، الأنين، الآهات،الأنات، المأساة، الهموم، الدمع، الحرقة، اللّيل، المجمرة، اليتيم، المكلوم، المفخخ، التشرد، الخوف، الحرمان، الأغصان، الظلمة، الدموع...
حقل الوطن: الجزائر، مصر، سورية، الأردن، البلد، الشام، دجلة الخيرات، بغداد، تونس، الأوراس، سيناء...
حقل المرأة: حوائي، الصبية، النساء، البنت، السمراء، ، الصبايا، هاجر، سعاد، هند، نجلاء، فاتني...
حقل الطبيعة: النخلة، التين، الرمان، القلعة، البحر، المرجان، الروابي، السواقي، الشمس، النجمات، الأنهار، السماء، الصحاري...
تتّحدّ هذه الدوال فيما بينها ليؤلف بينها الشاعر بلغيث و ينسج نصًا شاعريًا، تتآلف فيها مفاهيم عديدة تقوم في الأساس على مبدأ التعارض لتأتلف فيما بينما، فتأخذ الواحدة قيمتها مع رفيقاتها.
الصورة الشعرية: ممّا لا شك فيه أنّ التصوير والخيال هو اللّبنة الأولى التي يتميّز بها النص الأدبي عن النصوص الأخرى، فالخيال هو الأساس الذي يجعل النص أكثر شاعرية " لا يمكن للقصيدة أن تكتسب قيمتها إلا بما يمكن أن تزخر به من صور تعبيرية ينشئها خيال الشعر بالتعامل مع بقية الملكات الأخرى" (12) فسرّ جمالية القصيدة هو قدرة المبدع على كثافة التصوير والتلميح و الإيماء، و الشاعر الباز في ديوانه " للنخلة دين عليّ " شكّل معجمًا تصويريا مغلفّاً برموزٍ جماليةٍ أضفت رونقًا على القصائد، والآن سنعرج لرصد بعض الصور الشعرية:
التشبيه: الديوان يعّج بتشبيهات متنوعة ما يوحي بقدرة الشاعر على الخروج عن المألوف وتمكنه من التصوير والإيماء، وهو الأمر الذي يضيف نكهة جمالية للقصائد، فالتشبيه من الصور البيانية التي تؤسطر النص و تخرجه في حلّة شاعرية ، ومن أمثلة ذلك في الديوان نذكر:
"هيمان يرقب كالسكران ليلاه"شبه الشاعر العاشق بالسكران وجه الشبه بينهما الأرق والتيه والعذاب، فالشاعر هنا يصرخ مكلومًا من هبوب الشوق.
" يادمعة المشتاق كوني نسمة//تسري وتطفئ جمرتي وعذابي//هبي ملاكا كالنخيل مشرشفا//بالتمر مزهوًا بخير ثيّاب "(13) صورة بلاغية ترسم جو بهيج لدى القارئ، فشبه دموع المشتاق ونسمتها بالنخيل وثمراتها، فالباز هنا يترجى الدموع أن تكون كالنخيل وما تجود به من ثمرات، فدموع المشتاق من شأنّها التخفيف عن الأنات و الأحزان.
الاستعارة: من الاستعارات التي ابتكرها الباز في ديوانه نذكر:
"ياويح من شرب الغرام": شبه الغراب بمشروب (ماء)، حذف الماء وأبقى على قرينه الشراب، فالشاعر هنا يتحسر ويتأسف على من يدخل حيّز العشق، فيقول ياويحه، فكأنّ الغرام من دون وعي، ففي الشرب دليل على اللّاوعي و اللاّقصد.
"تبيح شنق عواطفي": شبه العواطف بإنسان حذف الإنسان وأبقى على قرينه تدل عليه، إنّها الشنق، ففي العادة العواطف لا تشنق، العواطف شيئ معنوي بينما الشنق فعل مادي، في الصورة بلاغة وتأكيّد على المعاناة واليأس والأنّين الذي يعيشه العاشق، إنّ الاعتماد على الاستعارة في النصوص الشعرية من شأنّه توصيل الرسالة في أجمل صورة،" فالشاعر يوسع من معنى المصطلحات ويزيد في تفاعلها، فالاستعارة تعني وجود فكرتين لشيئين مختلفين يعملان معًا، هما: المشبه والمشبه به، وهما مرتكزان على فكرة أو عبارة مشتركة بينهما"(14) فالتلميح أبلغ من التصريح، وأسلوب الاستعارة يعمل على توصيل المعنى المراد تبليغه بطريقة سحرية تدغدغ القارئ وتأسر مخيلته.
الكناية: للكنابة دور مشرق في جمالية النص الشعري، لهذا تهافت عليها الشعراء في كتابتاهم وراحوا ينسجون كلام له معنين، أول قريب و آخر بعيد من صنعه وهو دليل على تميزه، ف " للكناية قيمة إبلاغية، وينطوي التعبير الكنائي على مقدار من التأثير النفسي"(15) ففي قول الباز مثلاً الناي المكلوم: كناية على الشاعر المعاصر المجروح لجرح أمته، إنّه المغرد الذي راح يأخذ من تيمة الحزن موضوعا لكتاباته، فكتابات الشاعر المعاصر مستلهمة من واقع أمته ومآسيها، فصار نايا جريحا لجراح أمته.
" يدور حولها الفراش زاهيا" عمد الشاعر إلى استحضار رمز الفراشة المعطى الصوفي الذي يلجأ إليه المبدع ليعزّز من صورة العشق والحب ، فالفراشة رمز للفناء يستحضرها الشاعر ليبعث من خلالها صورة المحب.
خاتمة:
من يغوص في عوالم الكتابة البلغيثة حتما سيغرق في بحر لغته الفضفاضة المغلفة بمعانِ عميقة تعبر عن تخوم الشاعر وتشربه من لغة الضاد.
تجربة بلغيث في الكتابة الشعرية جمعت بين نمطي القديم والحديث ، على المستوى الإيقاعي عندما سلك النهج الخليلي، والبحر الحر ، فجمع بين أصيل ومعاصر راغبًا في استشراف المستقبل.
عمد الباز إلى خلخلة النظام اللّغوي العام، فاستعمل أساليب جمالية كالتقدّيم والتأخير والحذف والحوار، وما لهذه الأساليب من قدرة كبيرة في تشويش ذهن القارئ و كسر أفق انتظاره.
لجأ الشاعر إلى التصوير و كثافة التخييل، فابتكر لغة إيحائية وصور شعرية تنوعت بين التشبيه والاستعارة والكناية، فالتصوير يعمل على تغريب المعنى المعتاد وبناء معنى جديد.
هوامش البحث:
1 ــ بشرى موسى صالح: الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان ــ الدار البيضاء المغرب، 1994، ص 76.
2 ـــ يوسف الباز بلغيث: للنخلة دين عليّ، ط1، دار شهرا زاد للنشر والتوزيع، عمان الأردن، 2017، ص ص 17، 18.
3 ــــ المصدر نفسه، ص ص 29، 32.
4 ــــ سورة مريم: الآية 25.
5 ــــ يوسف الباز بلغيث: للنخلة دين عليّ، ص 94.
6 ــــ المصدر نفسه، ص 160.
7 ــــ المصدر نفسه، ص 61.
8 ـــ المصدر نفسه، ص 85.
9 ــــ المصدر نفسه، ص 105.
10 ـــــ المصدر نفسه، ص 25.
11 ـــ المصدر نفسه، ص 13.
12 ـــ عيكوس الأخضر: الصورة الشعرية قديمًا، مجلة الآداب ، العدد 2، جامعة قسنطينة، 1995، ص 68.
13 ـــــ المصدر نفسه، ص 132.
14 ـــــ أبو العدوس: الاستعارة في النقد الأدبي الحديث، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع ، الأردن،1997 ، ص 106.
15 ـــ أبو العدوس: مدخل إلى البلاغة العربية، ( علم المعاني، علم البيان، علم البديع)، ط1، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2007، ص 222.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

  • فيلم (كال وكمبريدج).. هموم الجيل الثاني من المغتربين العراقيين
  • ⏪⏬ا: (اختبار سياقة) عام 1991 و (ساعتا تأخير) 2001 و (عينان مفتوحتان على ... اكمل القراءة
  • المكتبة المسرحية: ثلاثة أعمال مسرحية للكاتب أحمد إبراهيم الدسوقي
  • ⏪⏬صدرت للكاتب والشاعر والرسام أحمد إبراهيم الدسوقي.. ثلاثة مسرحيات.. هم ... اكمل القراءة
  • فيلم "بين الجنة والأرض" يختتم عروض "أيام فلسطين السينمائية"
  • ✋✋اختتم مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، دورته السابعة والاستثنائية بالفيلم ... اكمل القراءة

    قصص قصيرة جدا

  • عناد | قصص قصيرة جدا ...*على حسن بغداى
  • ⏬⏪اشاعاتاقتنع بمقولة أن وراء كل عظيم امراة.. تزوج أربعة.. وضعوه فى مستشفى ... اكمل القراءة
  • حنين | قصص قصيرة جدا...*على حسن بغداى
  • ⏬⏪تعليماتنزل القبر.. استقبلوه بالترحيب.. طلبوا منه أربعة صور وشهادة وفاته لضمه ... اكمل القراءة
  • الحسناءوالحصان | قصة قصيرة جدا ...*رائد العمري
  • ⏪⏬في الاسطبل كان يصهلُ كعاشقٍ أضناه الاشتياق، هي لم تكن تفهم صهيله جيدا، جاءت ... اكمل القراءة

    قصص قصيرة

  • ابن جلَّا | قصة قصيرة ...*حسان الجودي
  • ⏪⏬رفضت بعض خلايا الدماغ المشاركة في عملية التفكير التي همَّ بها ابن جلاّ .فقد ... اكمل القراءة
  • أطول مما يتخيل العمر | قصة فصيرة..!.. * عبده حقي
  • ⏪⏬فجأة وجد رأسه معلقا بحبل بين أغصان الشجرة وعيناه جاحظتان إلى السماء .كان جسده ... اكمل القراءة
  • مسافر في الليل | قصة قصيرة ...*على السيد محمد حزين
  • ⏪⏬ارتدى آخر قطار متجه إلي القاهرة , حشر نفسه وسط الكتل البشرية المعتركة الأجسام ... اكمل القراءة

    قراءات أدبية

  • قراءة لنص "ميلاد تحت الطاولة" ...* لـ حيدر غراس ...*عبير صفوت حيدر غراس
  • "الدارسة المعمقة والجزيلة للأديبة الكبيرة (عبير صفوت) لنص ميلاد تحت ... اكمل القراءة
  • الرواية التاريخية في الأدب الفلسطيني ...*جواد لؤي العقاد
  • رإن أفخم وأهم الرويات في الأدب العربي تلك التي تقدم لنا معلومات تاريخية موثوقة ... اكمل القراءة
  • الأهازيج الشعبية في رواية “ظلال القطمون” لإبراهيم السعافين
  • *د. مخلد شاكر تدور أحداث رواية “ظلال القطمون” حول الأدب الفلسطيني, وحول ... اكمل القراءة

    أدب عالمي

  • إعتذار .. مسرحية قصيرة : وودي آلان - Woody Allen: My Opology
  • ترجمة:د.إقبال محمدعلي*"من بين مشاهير الرجال الذين خلدهم التاريخ،كان "سقراط" هو ... اكمل القراءة
  • الأسطورة والتنوير ...* فريدريك دولان ..*ترجمة: د.رحيم محمد الساعدي
  • ⏪⏬الأسطورة هي بالفعل )تنوير( لأن الأسطورة والتنوير لديهما شيئا مشتركا هو الرغبة ... اكمل القراءة
  • أدب عالمي | الموت يَدُق الباب.. مسرحية لـ وودي آلان
  • ⏪بقلم: وودي آلان،1968⏪ترجمة: د.إقبال محمدعلي(تجري أحداث المسرحية في غرفة نوم ... اكمل القراءة

    كتاب للقراءة

  • صدر كتاب "الفُصحى والعامية والإبداع الشعبي" ...*د.مصطفى عطية جمعة
  •  ⏪⏬عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة ؛ صدر كتاب « الفُصحى والعامية ... اكمل القراءة
  • رواية"أنا من الديار المُقدَّسة والغربة" للأديب المقدسي جميل السلحوت
  • *نمر القدومي:صدرت رواية الفتيات والفتيان “أنا من الديار المقدسة” للأديب المقدسي ... اكمل القراءة
  • صدور كتاب “أمريكا وجرائم استخدام أسلحة الدمار الشامل- الجزء الثاني”
  • * للباحث “حسين سرمك حسن”صدور كتاب “أمريكا وجرائم استخدام أسلحة الدمار الشامل- ... اكمل القراءة

    الأعلى مشاهدة

    دروب المبدعين

    Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...