أطل برأسه من فتحة الخيمة الصغيرة، راحت عيناه تدوران في فلك المكان، مسح المخيم بناظريه، أحسّ بصمت الموتى، كأنه في مقبرة، لا صوت للحياة، الصمت المهيب يجلّل كل شيء، كتل الثلج ما زالت تغطي المساحات الفارغة بين خيام النازحين، لا بوادر لصحو قريب، يشتهي المياه الدافئة ورائحة الصابون، وبشهقات طويلة عبّ الهواء البارد ملء رئتيه ليزفره بغضب، يطلق شتيمة بصوت خفيض.
بالأمس وهم وقوف بالطابور بانتظار الفحص الطبي المقرر لسكان مخيم المهجرين قالت زوجته وهي تحدق بوجهه محاولة استقراء ما يخفيْ:
- من منفى إلى منفى، تتوالى علينا الطعنات، أولاً فلسطين، اليرموك الآن، ماذا بعد؟
ارتبك، همس لنفسه:
- ماذا أقول لها؟
شعّت عيناه بلمعانٍ شرسٍ، طأطأ رأسه، وابتعد عنها مخترقاً صفاً آخر.
خطرت له هويته الموشومة(لاجىء) حكاية هزائم العرب الموروثة، وعود عقيمة بالعودة.. وجدّته التي حرصت على غرز مفتاح دارهم داخل غطاء رأسها..
- لن يدخل اليهود دارنا..
بعد سنوات قليلة، تتقمص والده روح العودة، في غفلة عن الجميع، دسّ مفتاح دارهم في قبر جدّته، تصاعدت وتيرة القلق، كبرت غصة العجز..
- ليتها تعلم كم أشتهي رائحة الياسمين والبرتقال، أن أصحو على صوت (أبو محمود) وهو يصيح:
- (أصبيع البوبو يا خيار) لن أؤنبه كما اعتدت، بل سأقبّل رأسه وأشتري منه أكثر من حاجتي، ليت الزمن يعود إلى الوراء، ليت الأرض تتوقف عن الدوران.
داهمته نوبة سعالٍ فسارع إلى ترك فتحة الخيمة، ليندس في الفراش محاولا النوم مرة أخرى.
علت أصوات متنافرة، دفع عنه الغطاء وقفز من فراشه، خيّل إليه أنّ هناك من يهاجم المخيم، لاحظ أنّ زوجته قد اختفت، بحث عنها كالمجنون في أرجاء المكان، شعر بثقل مميت في رأسه، لربما اختطفها أحدهم..
في المساحة الضيقة بين الخيام تجمعوا، أجساد تتحرك بالسرعة التي يتطلبها العراك، الأيدي تعلو وتهبط كالمطارق على الأجساد، أقدام غزاها الصقيع ترفض أن تتجمد، بعضها عرف أصحابها والبعض الآخر غريب عن المكان، لا يرى زوجته وسط الحشد، أين اختفت؟ شدّه المنظر أكثر، التحم به..
وسط العراك لمحها تقف بين النسوة، أومأ لها بنظرة وحدها تعرف معناها، هرعت إليه تقف بجانبه، بلهجة استرضاء قالت:
- يتقاتلون على كيس أرز، قبضوا على ابن مسعود وهو يسرق الكيس من مخزن التموين.
يعقّب ساخراً بحنق:
- كيس أرز!
شعر بالصقيع يتلف خلايا روحه، تراءت له أحداثاً ماضية وتفاصيل صغيرة.. تاه بنظرة في الأفق البعيد..
بين الصحو واليقظة سمعه يهتف:
- (أصبيع البوبو يا خيار)
هرع إلى النافذة يؤكد لنفسه ما سمعه، "أبو محمود” كما عرفه دائماً يقف بجانب عربته بشاربه الطويل المتهدل، خاطبه رغم يقينه أنه لن يسمعه:
- ما أقبح الحرب حين ترفع شارة الموت طوال الوقت.
في طريقه إلى أسفل المبنى قال لزوجته:
- أفرغي الحقائب لن نغادر المخيم
مريم الترك
17/4/2016
صورة د.مريم الترك.
بالأمس وهم وقوف بالطابور بانتظار الفحص الطبي المقرر لسكان مخيم المهجرين قالت زوجته وهي تحدق بوجهه محاولة استقراء ما يخفيْ:
- من منفى إلى منفى، تتوالى علينا الطعنات، أولاً فلسطين، اليرموك الآن، ماذا بعد؟
ارتبك، همس لنفسه:
- ماذا أقول لها؟
شعّت عيناه بلمعانٍ شرسٍ، طأطأ رأسه، وابتعد عنها مخترقاً صفاً آخر.
خطرت له هويته الموشومة(لاجىء) حكاية هزائم العرب الموروثة، وعود عقيمة بالعودة.. وجدّته التي حرصت على غرز مفتاح دارهم داخل غطاء رأسها..
- لن يدخل اليهود دارنا..
بعد سنوات قليلة، تتقمص والده روح العودة، في غفلة عن الجميع، دسّ مفتاح دارهم في قبر جدّته، تصاعدت وتيرة القلق، كبرت غصة العجز..
- ليتها تعلم كم أشتهي رائحة الياسمين والبرتقال، أن أصحو على صوت (أبو محمود) وهو يصيح:
- (أصبيع البوبو يا خيار) لن أؤنبه كما اعتدت، بل سأقبّل رأسه وأشتري منه أكثر من حاجتي، ليت الزمن يعود إلى الوراء، ليت الأرض تتوقف عن الدوران.
داهمته نوبة سعالٍ فسارع إلى ترك فتحة الخيمة، ليندس في الفراش محاولا النوم مرة أخرى.
علت أصوات متنافرة، دفع عنه الغطاء وقفز من فراشه، خيّل إليه أنّ هناك من يهاجم المخيم، لاحظ أنّ زوجته قد اختفت، بحث عنها كالمجنون في أرجاء المكان، شعر بثقل مميت في رأسه، لربما اختطفها أحدهم..
في المساحة الضيقة بين الخيام تجمعوا، أجساد تتحرك بالسرعة التي يتطلبها العراك، الأيدي تعلو وتهبط كالمطارق على الأجساد، أقدام غزاها الصقيع ترفض أن تتجمد، بعضها عرف أصحابها والبعض الآخر غريب عن المكان، لا يرى زوجته وسط الحشد، أين اختفت؟ شدّه المنظر أكثر، التحم به..
وسط العراك لمحها تقف بين النسوة، أومأ لها بنظرة وحدها تعرف معناها، هرعت إليه تقف بجانبه، بلهجة استرضاء قالت:
- يتقاتلون على كيس أرز، قبضوا على ابن مسعود وهو يسرق الكيس من مخزن التموين.
يعقّب ساخراً بحنق:
- كيس أرز!
شعر بالصقيع يتلف خلايا روحه، تراءت له أحداثاً ماضية وتفاصيل صغيرة.. تاه بنظرة في الأفق البعيد..
بين الصحو واليقظة سمعه يهتف:
- (أصبيع البوبو يا خيار)
هرع إلى النافذة يؤكد لنفسه ما سمعه، "أبو محمود” كما عرفه دائماً يقف بجانب عربته بشاربه الطويل المتهدل، خاطبه رغم يقينه أنه لن يسمعه:
- ما أقبح الحرب حين ترفع شارة الموت طوال الوقت.
في طريقه إلى أسفل المبنى قال لزوجته:
- أفرغي الحقائب لن نغادر المخيم
مريم الترك
17/4/2016
صورة د.مريم الترك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق