⏪⏬
أمسك شاوول الرسالة، وتفحصها جيدا، لم يفهم السطر الوحيد فيها، قلّبها، لا يوجد حبر سري أو ما شابه. فقط التاريخ واسم المرسل، وتلك الكلمات.
"زي هوو"! من ايمتن يا ست لميس؟
وأكمل بعربية ثقيلة: شو عدا ما بدا؟
رفع شاؤول حاجبيه في تعجب، ووضعها فوق كومة الرسائل الملغومة، والتي بحاجة إلى دورة أخرى من التفتيش والتمحيص، وأطفأ سيجارته فوق صورة الضبع، كعادته.
هدولا أدوم، جماعة الأهمر. كمان مرة مش حخلي رسالتك توصل يا قحبة.
نظر شاؤول إلى الساعة، فوجدها عدت السادسة والنصف مساء، وحان موعد عودته لزوجته ايستر، فهي الآن تحضر طعام العشاء وحدها مع بعض الانزعاج المستبطن من تأخره.
رجع شاؤول إلى المنزل، فتح الباب، وضربه بعكازه، كما يفعل كل يوم إنذاراً بقدومه. قبّل ايستر بحسب ما يقتضيه روتينهما البارد. خلع بزّته العسكرية، وجلس يساعدها في تقطيع الملفوف، وسرعان ما انتهى، حتى همّ بالوقوف متعكزا على باب الثلاجة لجلب الميونيز، وإذ به يتواجه مع الرزنامة الملصقة عليها، فقد كانت الأيام مشطوبة بخط مائل، ممتد من أعلى اليمين حتى ذيل المربع اليسار، وصولا إلى تاريخ اليوم 26 الشهر، وقد رُسِمَ عليه قلب باللون الأحمر، مع يومين إضافيين من أيام شباط 2008. نظر شاؤول صوب ايستر، وهي تقلّب صوص الزبدة المغمس بالكريمة مع الخردل والبصل لعمل طبقه المفضل: بييف ستريجانوف. سند نفسه على حفة الرخام الأسود، ووضع يديه على خصرها، وقبّل رقبتها، مداعباً شعرها الأشقر المنسدل على ظهرها. فهو يحبّ ايستر بالرغم من حنقها الدائم، ومزاجها المتعكر، ولا يملّ إطلاقا من الاستجابة لرزنامتها، ومحاولاتها المستميتة للحمل، فهو أيضا يتوق لأبوّة ميخا.
ما رأيك بليلة حمراء بعد العشاء؟
ابتسمت ايستر وذهبت إلى البوفيه الزجاجي، وأخرجت منه نبيذا مصنوعا في مستوطنة كفار شماي.
ايستر: شو رأيك بقنينة معتقة من سنة زواجنا؟
شاوول: من 2010؟
ايستر: خبيتها لمناسبة متل هاي.
كيف لأرض خصبة مجاورة لطبريا كتراب غويّر أبو شوشة، ألا تصنع نبيذا خالص التخمر، وقد تجرع سمادا بطعم الدم عام 1948.
كانت ايستر في الرابعة والثلاثين من عمرها، عاشت نصف حياتها في روسيا، ونصفها الآخر في "إسرائيل"، بعد أن أقنع رجل رأس مالي أباها بالقدوم إلى أرض الميعاد والاستثمار فيها. أصبحت ايستر مكتنزة الجسم عندما بدأت تتعاطى هرمونات منشطة لتنشيط رحمها، وهي مواظبة على عدّ أيام الإباضة لديها، علّها تحبل بميخا. أما شاوول، فقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره، حانق على الفلسطينيين، منذ أن كان جنديا في وحدة دوفيدفان. أصيب بطلقتين، وهو في مهمة عسكرية في مخيم بلاطة أواخر نيسان 2003، اخترقت فخذ رجله اليمنى، مصيبة اياه بالشلل والعرج معا. طلب شاوول بعد الحادث مباشرة بأن يعمل موظفا في مصحلة السجون لإسقاط نقمته على الأسرى، وتنغيص ما تبقى لهم من حياة داخل السجن بكامل الإصرار والترصد. جاءته الموافقة سريعا من مكتب التجنيد، كنوع من الرضى والتعويض لما حصل له أثناء الاشتباك المسلح، فهو جندي حَذِق، لا تشوبه شاردة أو واردة، يتميّز بحنكة وقدرة عالية على التحليل والربط، ويعاني من ذاكرة فوتوغرافية، لا ينسى رائحة شمها منذ سنوات، أو نظرة خلخت موازينه أو تركت في أعماقه خوفا ما، تماما كنظرة الضبع له، وهو ينظر اليه رافضاً الاستسلام بالرغم من إصابته وقبل أن يُساق إلى السجن، حين خطّ وصيته على جدران المخيم بدمه "ابقوا على العهد".
أشعل شاوول مقطوعة ديمتري شوستاكوفيتش second waltz لإثارة ايستر، وأخذ يقشّر عنها ثيابها، حتى قضيا ليلة حمراء على وقع آلات النفخ، علّ بطنها ينتفخ في التسع شهور القادمة.
ارتمى بعدها على الكنبة، وسرعان ما طرق باب ذاكرته رسالة لميس.
***
يوم آخر في مصلحة سجن جلبوع البارد المُصمّم بتشابه مضطرب مع سجن كيلمنهام غاول، إحدى السجون البريطانية التي عذب بها الثوار الايرلنديين. الفرق الوحيد أن كيلمنهام غاول حُوّلَ إلى متحف، بينما لم تزل جدران جلبوع رطبة، تمتص صرخات الأسرى وأنينهم. هي لعنة الإنجليز لا محالة، منذ وعد بلفور وحتى الاستعانة بهم كخبراء في فنون التعذيب، يستنسخون عويل معذبو الأرض ويعيدون إنتاجه، لإشباع فوقية الرجل الأبيض.
كومة أخرى من الرسائل الطازجة.
لن أقرأ المزيد، سأحل شيفرة الرسائل المشبوهة بالأول، ومن ثم أتسلى على الجديدة منها. ليس لدي ما أفعله الا التنصت على حيوات المسوخ تلك.
استوقفته رسالة لميس مجددا، أي مجد تتحدث عنه هذه القحبة؟ ولماذا أصبحت رسائلها مختزلة هكذا؟ طرق باب الذاكرة سجل الزيارات، هل زارت هذه البذيئة زوجها الشهر الماضي؟
فَتِّش بدقة يا شاوول، ك ك كراجة.. أحمد، كراجة ثائر، كراجة عبد الله، كراجة عِزّت، كراجة نصر، كراجة نضال، ها هو كراجة خالد. الملعون خالد. ها هي زيارة في... ما التاريخ؟ 9-1-2017.
طيب مش بعيد، تاريخ الرسالة أمامه 23-2-2017، شو بدها تحكيله بهالشهر ونص؟
سأفحص كشوفات الرسائل القديمة، ك ك ك ك كراجه الخنزير.. هيوووو خالد.
آخر رسالة كانت في 18-11-2016 وهي مستفزة كالعادة. لم أوصلها لخالد بالطبع، فقد كانت تلك القحبة تشتمني شخصيا بداخلها، والمقرّن جوزها هربلها رسالة من ورانا. همّ بقراءتها:
"حبيبي خالد،
(اذهب عميقا في دمي، اذهب عميقا في الطحين، لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين" درويش).
افتتح رسالتي بكلمات درويش وصوت مارسيل يتغلغل الآن في داخلي، وهو ينشد للأمل، ويدعو للالتحام مع الأرض والوطن. وصلتني رسالتك وهي تقطف لهفي، مدشنة أسبوعا يتظلل بفيئك من جديد. يحدث يا حبيبي في الغياب استحضار كامل للغائب، فتراه يشاركك أصغر تفاصيلك، ويكون فرحك السري الصغير، وهكذا يكون معك.
اني على يقين بأن أيام السجن مليئة بالأحداث، بالأشواك والأشواق، لكني على يقين أيضا أنها مليئة بالتربة الخصبة التي تونع كل يوم أشجارا مثمرة وشامخة، فرغم صقيع السجن والحزن المثقل صدورنا بفعل الاحتلال البغيض، إلا أننا نستمد القوة منك ومن كافة الرفاق، من رفضكم، من عزمكم، إصراركم وثباتكم، وسخريتكم من أولئك الأغبياء، وبالأخص ذلك الغبي الذي يقرؤ الرسالة قبلك، نعوّل عليكم جميعا، أجدد العهد معك على المضي قدما بإيمان بأن ظلام السجن زائل، لكن ثمن الحرية باهظ أيضا، ونحن لها. اعتن بنفسك أرجوك. أتمنى لك الصحة والمعنويات العالية كما عهدناك دوما. في انتظار أخبار انتصاراتك. دمتَ حراً، لميس"
بدك اتضايقيني يا قحبة. استوقفت شاوول العبارة الأولى، والدعوة المفتوحة لخالد بالذهاب عميقا في دمها. أثارته نهاية الجملة، إذ شعر بعمق كلماتها، ما هي يا ترى احتمالات زهر الياسمين في ظل كل هذا الجفاف؟ لم على امرأة في الثلاثين من عمرها، وفي زهو أيامها كتابة هذا النثر الحسي الجميل للخنزير خالد؟
خليني أشوف كمان رسالة.
بحث في الأرشيف، فوجد أخرى، بتاريخ 30-9-2016
"حبيبي جلّاب الفرح،
"في البدء كنا نحن، وكانت الأرض لنا، ولما تزل لنا، هكذا، منذ البدء حتى الأبدية البيضاء". (لميس، إصحاح 1:1)
قبل التحية والسلام، فكرتُ بكتابة هذه الآية لأشاركك بها، ولأضايق من يقرؤ الرسالة قبلك، وكلّي ثقة كم يغار منا. كيف أنت؟ أراهن أنك لم تتغير البتة، بل زدت عنادا عما تؤمن به، عهدي بك أنك ما زلت تصحو باكرا لتتلو مانيفستو الثورة كالفاتحة، وتهم بقراءة مزامير الشيخ ماركس. أنتظر أخبارك بفارغ الشغف، ولن أتوقف من الدعاء "عليك" بكل ما هو جميل. دمتَ حراً، لميس"
اغتاظ شاوول كثيرا من ثقة لميس، وتمسكها بخالد ومن إصرارها على مضايقته.
لا يجدر لهذه الحشرات أن تشعر بالحب ودفء العائلة.
وتضايق لأنه تذكر ايستر، ومعاملتها الغليظة له وهي في أوج لطافتها، فهو يبرر لها أفعالها دوما ويعزو ذلك لعدم مقدرتهما على الإنجاب.
ما كان الهم شهر متجوزين حتى أخدناه من البيت، وهيو مرمي إداري مثل الكلاب.. أول مرة 8 سنين ما اتعلم. خلص شو بدها بهيك عيشة؟ تروح اتتعرص أحسنلها. فش حد شايف. مهي شرموطة أكيد.
***
خالد: اليوم تحلايتكم عليّ.
فخر: شو بدك تحلينا؟ شعيرية بسكر كمان مرة؟ خاف الله يا رجل. بكفينا وجع معدة، كمان حزاز!
تدخل حافظ: شو المناسبة صفّاوي؟
خالد: اليوم التحلاي بلّوزة. كنت مخبي علبتين جيلو من أيام الخير لهالمناسبة. ومن اليوم بطلناها صفاوي هاي.
لمعت عيناه، واحتفى بنصره قائلا: من اليوم وطالع بتنادولي أبو المجد.
حافظ: شو بتحكي؟ والله وعملتها؟ كف لأبو المجد رفاااااق
هتاف علا القسم في تمام الثامنة مساء، تصفيق وضجيج تبريكات.
ضياء: والله انك فحل يا رفيق.
ضحك ضياء حتى خشخش صدره وامتلأ بالبلغم، تبعته موجة سعال حادة.
ضياء: والله الرطوبة رح تموتني.
مهند: ما حد رح يموتك إلا الدخان والقهوة وأغاني الشيخ إمام اللي بتضلك تشحن حالك فيها.
ضياء: بس هيك خبر، رح يموتني فرح. تحرمونيش هيك شهادة بتفش القلب! على راسي أبو المجد.
خالد: والا شو؟ مفكرين رح يحرمونا الحياة بالسجن. بعملها وبعمل أبوها كمان.
مهند: بس كيف عرفت؟
خالد: هلا اتصلت لميس على الراديو وبعتتلي سلامات منها ومن مجد.
ضياء: بلكن مجد ابن أبو ظافر فلنة، تبع البقالة اللي عندكم بصفّا.
خالد: ولك انت ما بتعرف لميس. كان صوتها برنّ، مع انو الراديو بوِشّ ويا دوبك الموجة لاقطة، بس وحياتكم سمعته برنّ رنّ، كإني كنت شايف ابتسامتها قدامي. ولك مهند: هات الطبلة.
تجمع الرفاق في الغرفة، أربعة يعتلون الأبراش، واثنين متكئَين على بساطتي صلاة، مع وعاء بلاستيكي أخضر للتطبيل عليه. بدؤوا بالتهليل بصوت متين: "اشتقتُ اليكِ اشتقتُ اشتقتُ وما أخّرني.. إلا حراس الطرق اليك، إلى وطني ..آآآآآآه كم يحضرني الحب لوجوه أعرفها، كم تقطعني المسافااات ولا أقطعها.. اذا وضعوا في الدرب حواجزهم، لكنييييي سوف أقطعها".
وما إن أكملوا حتى جاء السجان جلعاد الأقرع، بهامته المتكورة، وصوته المزعج مع تمتمات أشبه بالشتائم.
شيكت أسيريم، شيكت.
رجع كل واحد إلى برشه سوى طارق وخالد، اللذين افترشا الأرض، بالرغم من البرد القارس، والرطوبة المتغلغلة في الحائط الخشن.
خالد: ولك طارق، زبطت متخيل شو زبطت. هذا انتصار، احنا عم نصنع حياة من جوا السجن.
طارق: طول عمرك وانت هارينا تنظير، والحب للشجعان. أخريتك تهرب 7 مليون رفيق هيك دفعة وحدة. خف علينا أبو المجد.
خالد: ههههه ولك بتعرفني قديش بحب لميس، وأكيد كنت بحب يكون مجد نتاج علاقة حب سوية متل باقي خلق ربنا. واااال شو مشتاق للميس. يا زلمة، بحاولوا يجردونها من إنسانيتنا، من مواصلة الحياة. احنا أحرار أكتر منهم، ومنكمل.
طارق: بتعرف رفيق: زمااان ما شفتك فرحان هيك، بؤبؤ عينك قادح شعلة نار، عم برقص.
رفع طارق سبابته بالهواء، وأخذ يدندن: "دار الفًلَك، في مغزَلك.. طووول السنين ما أمهلك.. يا ناسج الروح في الحياة. فأكمل خالد معه: الحُب لك و الخُلد لك.. والمُلك لك والمجد لك".
طرق الأقرع الحديد: قلنا شيكيت أسيريم أو بتقضوها بالزنانزين.
***
جاء موعد الزيارة المرتقب بعد أربعة أشهر من الإضراب، خاض فيها 24 أسيرا في جلبوع معركة الأمعاء الخاوية، كان خالد واحدا منهم. كانت شهور ثقيلة، ندد فيها الأسرى بالاعتقال الإداري، معلنين مقاطعتهم للمحاكم الجائرة، ومنع الزيارات عنهم، وإنهاء سياسة العزل الانفرادي، وتوفير وسائل تهوية وتدفئة داخل الغرف. فقد عانى الأسرى من سياسة الإهمال الطبي، فقد نُقِلَ رفيقين، وثلاثة من فتح، وخمسة من حماس، وشبلَيْن إلى مستشفى الرملة لتسكين آلامهم بحبة أكامول، وتبيّن بعد أشهر أن أمجد الجعبري من الخليل ومحمد منصور من اللد مصابين بسرطان الدم وسرطان الدماغ، وهما يسيران إلى حتفهما بصمت، بدون علاج كيماوي، كما أن العشرة الآخرين يعانون من أمراض مزمنة تتراوح بين الحصوة، والتهاب في القولون، مع وجع أسنان حاد، ونوبات النقرس العسيرة من كثرة البقوليات التي يتجرعها الأسرى في وجباتهم الثلاثة. فقد طالب الأسرى بإغلاق مسلخ الرملة لعدم صلاحيته بتأمين العلاج اللازم، وإلزام إدارة السجن إجراءهم للفحوصات الطبية بشكل دوري، وإخضاع من هم بحاجة إلى العمليات الجراحية بشكل سريع، وإطلاق سراح الأسرى المرضى خاصة ذوي الإعاقة والأمراض المزمنة.
بدأت الرحلة صباح الأربعاء من الخامسة صباحا، أمام مقر الصليب الأحمر. روج أحمر، وقميص أبيض فضفاض، مع بنطال أسود، شعر أملس، تماما كما يحبه خالد. جلبت بعض الملابس الداخلية، وأشبعتهم بعطر سكاندل الذي يحب أيضا، مع بعض الخباثة منها لاستحضار قارورة العطر وغطائه المثير، تعتليه ساقين مفتوحتين إلى الأعلى، في دعوة مفتوحة منها لممارسة الحب، وهي واثقة "بالفضيحة" التي ستعشعش رأسه حالما يشتمّ الشباحات الجديدة.
أخذت لميس كامل الحيطة لعدم كشف أمرها، فقد تكون هذه الزيارة الأخيرة لها قبل الولادة، وعليها أن تحرص جيدا، أن لا يشك بها أحد، لكي تكتمل الزيارة على أكمل وجه، وترى الفرحة بأعين خالد.
"ستكون رحلة جبلية صعبة" لحامل في شهرها الخامس مع أعراض الحمل المضنية، تمتمت لميس. لا بأس، لا يهم، المهم أننا انتصرنا، ونزعنا حقنا بالحياة من أفواههم.
باص الصليب المكتظ بالعائلات، وجوه مألوفة تسأل عن بعضها البعض، وتطمئن. أطفال يحملون أسماء مدن فلسطينية محتلة، تستطيع سماع اسم حيفا، وبيسان، ويافا، حتى أن هناك طفلة رضيعة تدعى فلسطين. غريب كيف تصبح الأسماء برمزيتها الذخيرة الوحيدة للتمسك بالوطن البسيط، نحملها لنغيظ بها العدو، وتحملنا نحو الحلم والعودة. بعض الوجوه متوترة من احتمال إرجاع الأغراض التي تحملها للأسير من كتب وغيارات، وغيرها من اللوازم الشخصية. ولكن ما يجمع جميع الذين في الباص أنهم متجمّلين وفي أبهى حُلّة، كأنه عيد.
وصلت الحافلة تحت إجراءات أمنية مشددة، تفتيش أول، وثانٍ وثالث. تحاول لميس الحفاظ على مظهرها، وتماسك معدتها كتلة واحدة، خوفا من الاستفراغ.
دخل الجميع القاعة المليئة بالزجاج، والهواتف السلكية الملتوية، اتخذ الجميع مكانه في انتظار أبنائهم وزوجاتهم. حتى اعتلى شاوول غرفة التفتيش الداكنة، مصوّبا نظره نحو لميس. شغل الآلات البغيضة للتنصت على المكالمات وتسجيلها، وفتح الخط على خالد ولميس.
خالد: بتعرفي انك حليانة؟
لميس: طبعا مش صرت تو إن وون، أنا ومجد.
وما إن وضعت يدها على قميصها، ليطل تكوّره الصغير، وإذ بشاوول يصيح من غرفة التحكم، وقد جن جنونه لوهل ما رأى.
يا قحبة... عملتوها من وراي.
استشاط شاوول غضبا، وأوعز للضابط بإنهاء الزيارة في أول دقيقتين وسط جلبة وصراخ الأمهات والآباء والزوجات والأسرى وخوف الأطفال الشديد من هول المشهد.
أمسكت مجندتان ذراعَي لميس، وساقتها إلى الخارج، واقتحمت وحدة القمع المتسادا صفوف الأسرى في ضرب وحشي لهم، واستهداف غليظ لعظامهم.
وُضِعَت لميس بمعزلٍ وحدها لغايات التحقيق، ولم تنبس ببنت شفة بالرغم من أسئلة المحققات والمحققين لها، موجهين لكماتهم "لابن الحرام" في أحشائها، ويديها المعصوبتين وراء ظهرها، حتى أفرجوا عنها مع بضع كدمات ومنع أمني من الزيارة.
مرت عدة شهور جُدِدَ فيها اعتقال خالد بقرار مخابرات، كإجراء عقابي له لتهريبه نطف الحياة.
***
رزمة رسائل جديدة تصل جلبوع في يوم خريفي من أوائل شهر تشرين الأول، استلمها شاوول ببطء أرعن والشعر يأكل ذقنه من شدة البؤس. أخذ يدخن سيجارته، ويقرؤ الأسماء، حتى وصل اسمها، لميس، فأطفأ سيجارته في وجه الضبع، كعادته، وفتح الرسالة في عجالةـ
"حبيبي، مبارك لنا المجد مرة ثانية وثالثة ورابعة ومئة وواحد بعد المئة. فليعلم الجبان الذي يقرؤ الرسالة قبلك أني أقاوم بك ومعك وفيك. ننتظرك، لميس"
*هند شريدة
كاتبة فلسطينية
أمسك شاوول الرسالة، وتفحصها جيدا، لم يفهم السطر الوحيد فيها، قلّبها، لا يوجد حبر سري أو ما شابه. فقط التاريخ واسم المرسل، وتلك الكلمات.
"زي هوو"! من ايمتن يا ست لميس؟
وأكمل بعربية ثقيلة: شو عدا ما بدا؟
رفع شاؤول حاجبيه في تعجب، ووضعها فوق كومة الرسائل الملغومة، والتي بحاجة إلى دورة أخرى من التفتيش والتمحيص، وأطفأ سيجارته فوق صورة الضبع، كعادته.
هدولا أدوم، جماعة الأهمر. كمان مرة مش حخلي رسالتك توصل يا قحبة.
نظر شاؤول إلى الساعة، فوجدها عدت السادسة والنصف مساء، وحان موعد عودته لزوجته ايستر، فهي الآن تحضر طعام العشاء وحدها مع بعض الانزعاج المستبطن من تأخره.
رجع شاؤول إلى المنزل، فتح الباب، وضربه بعكازه، كما يفعل كل يوم إنذاراً بقدومه. قبّل ايستر بحسب ما يقتضيه روتينهما البارد. خلع بزّته العسكرية، وجلس يساعدها في تقطيع الملفوف، وسرعان ما انتهى، حتى همّ بالوقوف متعكزا على باب الثلاجة لجلب الميونيز، وإذ به يتواجه مع الرزنامة الملصقة عليها، فقد كانت الأيام مشطوبة بخط مائل، ممتد من أعلى اليمين حتى ذيل المربع اليسار، وصولا إلى تاريخ اليوم 26 الشهر، وقد رُسِمَ عليه قلب باللون الأحمر، مع يومين إضافيين من أيام شباط 2008. نظر شاؤول صوب ايستر، وهي تقلّب صوص الزبدة المغمس بالكريمة مع الخردل والبصل لعمل طبقه المفضل: بييف ستريجانوف. سند نفسه على حفة الرخام الأسود، ووضع يديه على خصرها، وقبّل رقبتها، مداعباً شعرها الأشقر المنسدل على ظهرها. فهو يحبّ ايستر بالرغم من حنقها الدائم، ومزاجها المتعكر، ولا يملّ إطلاقا من الاستجابة لرزنامتها، ومحاولاتها المستميتة للحمل، فهو أيضا يتوق لأبوّة ميخا.
ما رأيك بليلة حمراء بعد العشاء؟
ابتسمت ايستر وذهبت إلى البوفيه الزجاجي، وأخرجت منه نبيذا مصنوعا في مستوطنة كفار شماي.
ايستر: شو رأيك بقنينة معتقة من سنة زواجنا؟
شاوول: من 2010؟
ايستر: خبيتها لمناسبة متل هاي.
كيف لأرض خصبة مجاورة لطبريا كتراب غويّر أبو شوشة، ألا تصنع نبيذا خالص التخمر، وقد تجرع سمادا بطعم الدم عام 1948.
كانت ايستر في الرابعة والثلاثين من عمرها، عاشت نصف حياتها في روسيا، ونصفها الآخر في "إسرائيل"، بعد أن أقنع رجل رأس مالي أباها بالقدوم إلى أرض الميعاد والاستثمار فيها. أصبحت ايستر مكتنزة الجسم عندما بدأت تتعاطى هرمونات منشطة لتنشيط رحمها، وهي مواظبة على عدّ أيام الإباضة لديها، علّها تحبل بميخا. أما شاوول، فقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره، حانق على الفلسطينيين، منذ أن كان جنديا في وحدة دوفيدفان. أصيب بطلقتين، وهو في مهمة عسكرية في مخيم بلاطة أواخر نيسان 2003، اخترقت فخذ رجله اليمنى، مصيبة اياه بالشلل والعرج معا. طلب شاوول بعد الحادث مباشرة بأن يعمل موظفا في مصحلة السجون لإسقاط نقمته على الأسرى، وتنغيص ما تبقى لهم من حياة داخل السجن بكامل الإصرار والترصد. جاءته الموافقة سريعا من مكتب التجنيد، كنوع من الرضى والتعويض لما حصل له أثناء الاشتباك المسلح، فهو جندي حَذِق، لا تشوبه شاردة أو واردة، يتميّز بحنكة وقدرة عالية على التحليل والربط، ويعاني من ذاكرة فوتوغرافية، لا ينسى رائحة شمها منذ سنوات، أو نظرة خلخت موازينه أو تركت في أعماقه خوفا ما، تماما كنظرة الضبع له، وهو ينظر اليه رافضاً الاستسلام بالرغم من إصابته وقبل أن يُساق إلى السجن، حين خطّ وصيته على جدران المخيم بدمه "ابقوا على العهد".
أشعل شاوول مقطوعة ديمتري شوستاكوفيتش second waltz لإثارة ايستر، وأخذ يقشّر عنها ثيابها، حتى قضيا ليلة حمراء على وقع آلات النفخ، علّ بطنها ينتفخ في التسع شهور القادمة.
ارتمى بعدها على الكنبة، وسرعان ما طرق باب ذاكرته رسالة لميس.
***
يوم آخر في مصلحة سجن جلبوع البارد المُصمّم بتشابه مضطرب مع سجن كيلمنهام غاول، إحدى السجون البريطانية التي عذب بها الثوار الايرلنديين. الفرق الوحيد أن كيلمنهام غاول حُوّلَ إلى متحف، بينما لم تزل جدران جلبوع رطبة، تمتص صرخات الأسرى وأنينهم. هي لعنة الإنجليز لا محالة، منذ وعد بلفور وحتى الاستعانة بهم كخبراء في فنون التعذيب، يستنسخون عويل معذبو الأرض ويعيدون إنتاجه، لإشباع فوقية الرجل الأبيض.
كومة أخرى من الرسائل الطازجة.
لن أقرأ المزيد، سأحل شيفرة الرسائل المشبوهة بالأول، ومن ثم أتسلى على الجديدة منها. ليس لدي ما أفعله الا التنصت على حيوات المسوخ تلك.
استوقفته رسالة لميس مجددا، أي مجد تتحدث عنه هذه القحبة؟ ولماذا أصبحت رسائلها مختزلة هكذا؟ طرق باب الذاكرة سجل الزيارات، هل زارت هذه البذيئة زوجها الشهر الماضي؟
فَتِّش بدقة يا شاوول، ك ك كراجة.. أحمد، كراجة ثائر، كراجة عبد الله، كراجة عِزّت، كراجة نصر، كراجة نضال، ها هو كراجة خالد. الملعون خالد. ها هي زيارة في... ما التاريخ؟ 9-1-2017.
طيب مش بعيد، تاريخ الرسالة أمامه 23-2-2017، شو بدها تحكيله بهالشهر ونص؟
سأفحص كشوفات الرسائل القديمة، ك ك ك ك كراجه الخنزير.. هيوووو خالد.
آخر رسالة كانت في 18-11-2016 وهي مستفزة كالعادة. لم أوصلها لخالد بالطبع، فقد كانت تلك القحبة تشتمني شخصيا بداخلها، والمقرّن جوزها هربلها رسالة من ورانا. همّ بقراءتها:
"حبيبي خالد،
(اذهب عميقا في دمي، اذهب عميقا في الطحين، لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين" درويش).
افتتح رسالتي بكلمات درويش وصوت مارسيل يتغلغل الآن في داخلي، وهو ينشد للأمل، ويدعو للالتحام مع الأرض والوطن. وصلتني رسالتك وهي تقطف لهفي، مدشنة أسبوعا يتظلل بفيئك من جديد. يحدث يا حبيبي في الغياب استحضار كامل للغائب، فتراه يشاركك أصغر تفاصيلك، ويكون فرحك السري الصغير، وهكذا يكون معك.
اني على يقين بأن أيام السجن مليئة بالأحداث، بالأشواك والأشواق، لكني على يقين أيضا أنها مليئة بالتربة الخصبة التي تونع كل يوم أشجارا مثمرة وشامخة، فرغم صقيع السجن والحزن المثقل صدورنا بفعل الاحتلال البغيض، إلا أننا نستمد القوة منك ومن كافة الرفاق، من رفضكم، من عزمكم، إصراركم وثباتكم، وسخريتكم من أولئك الأغبياء، وبالأخص ذلك الغبي الذي يقرؤ الرسالة قبلك، نعوّل عليكم جميعا، أجدد العهد معك على المضي قدما بإيمان بأن ظلام السجن زائل، لكن ثمن الحرية باهظ أيضا، ونحن لها. اعتن بنفسك أرجوك. أتمنى لك الصحة والمعنويات العالية كما عهدناك دوما. في انتظار أخبار انتصاراتك. دمتَ حراً، لميس"
بدك اتضايقيني يا قحبة. استوقفت شاوول العبارة الأولى، والدعوة المفتوحة لخالد بالذهاب عميقا في دمها. أثارته نهاية الجملة، إذ شعر بعمق كلماتها، ما هي يا ترى احتمالات زهر الياسمين في ظل كل هذا الجفاف؟ لم على امرأة في الثلاثين من عمرها، وفي زهو أيامها كتابة هذا النثر الحسي الجميل للخنزير خالد؟
خليني أشوف كمان رسالة.
بحث في الأرشيف، فوجد أخرى، بتاريخ 30-9-2016
"حبيبي جلّاب الفرح،
"في البدء كنا نحن، وكانت الأرض لنا، ولما تزل لنا، هكذا، منذ البدء حتى الأبدية البيضاء". (لميس، إصحاح 1:1)
قبل التحية والسلام، فكرتُ بكتابة هذه الآية لأشاركك بها، ولأضايق من يقرؤ الرسالة قبلك، وكلّي ثقة كم يغار منا. كيف أنت؟ أراهن أنك لم تتغير البتة، بل زدت عنادا عما تؤمن به، عهدي بك أنك ما زلت تصحو باكرا لتتلو مانيفستو الثورة كالفاتحة، وتهم بقراءة مزامير الشيخ ماركس. أنتظر أخبارك بفارغ الشغف، ولن أتوقف من الدعاء "عليك" بكل ما هو جميل. دمتَ حراً، لميس"
اغتاظ شاوول كثيرا من ثقة لميس، وتمسكها بخالد ومن إصرارها على مضايقته.
لا يجدر لهذه الحشرات أن تشعر بالحب ودفء العائلة.
وتضايق لأنه تذكر ايستر، ومعاملتها الغليظة له وهي في أوج لطافتها، فهو يبرر لها أفعالها دوما ويعزو ذلك لعدم مقدرتهما على الإنجاب.
ما كان الهم شهر متجوزين حتى أخدناه من البيت، وهيو مرمي إداري مثل الكلاب.. أول مرة 8 سنين ما اتعلم. خلص شو بدها بهيك عيشة؟ تروح اتتعرص أحسنلها. فش حد شايف. مهي شرموطة أكيد.
***
خالد: اليوم تحلايتكم عليّ.
فخر: شو بدك تحلينا؟ شعيرية بسكر كمان مرة؟ خاف الله يا رجل. بكفينا وجع معدة، كمان حزاز!
تدخل حافظ: شو المناسبة صفّاوي؟
خالد: اليوم التحلاي بلّوزة. كنت مخبي علبتين جيلو من أيام الخير لهالمناسبة. ومن اليوم بطلناها صفاوي هاي.
لمعت عيناه، واحتفى بنصره قائلا: من اليوم وطالع بتنادولي أبو المجد.
حافظ: شو بتحكي؟ والله وعملتها؟ كف لأبو المجد رفاااااق
هتاف علا القسم في تمام الثامنة مساء، تصفيق وضجيج تبريكات.
ضياء: والله انك فحل يا رفيق.
ضحك ضياء حتى خشخش صدره وامتلأ بالبلغم، تبعته موجة سعال حادة.
ضياء: والله الرطوبة رح تموتني.
مهند: ما حد رح يموتك إلا الدخان والقهوة وأغاني الشيخ إمام اللي بتضلك تشحن حالك فيها.
ضياء: بس هيك خبر، رح يموتني فرح. تحرمونيش هيك شهادة بتفش القلب! على راسي أبو المجد.
خالد: والا شو؟ مفكرين رح يحرمونا الحياة بالسجن. بعملها وبعمل أبوها كمان.
مهند: بس كيف عرفت؟
خالد: هلا اتصلت لميس على الراديو وبعتتلي سلامات منها ومن مجد.
ضياء: بلكن مجد ابن أبو ظافر فلنة، تبع البقالة اللي عندكم بصفّا.
خالد: ولك انت ما بتعرف لميس. كان صوتها برنّ، مع انو الراديو بوِشّ ويا دوبك الموجة لاقطة، بس وحياتكم سمعته برنّ رنّ، كإني كنت شايف ابتسامتها قدامي. ولك مهند: هات الطبلة.
تجمع الرفاق في الغرفة، أربعة يعتلون الأبراش، واثنين متكئَين على بساطتي صلاة، مع وعاء بلاستيكي أخضر للتطبيل عليه. بدؤوا بالتهليل بصوت متين: "اشتقتُ اليكِ اشتقتُ اشتقتُ وما أخّرني.. إلا حراس الطرق اليك، إلى وطني ..آآآآآآه كم يحضرني الحب لوجوه أعرفها، كم تقطعني المسافااات ولا أقطعها.. اذا وضعوا في الدرب حواجزهم، لكنييييي سوف أقطعها".
وما إن أكملوا حتى جاء السجان جلعاد الأقرع، بهامته المتكورة، وصوته المزعج مع تمتمات أشبه بالشتائم.
شيكت أسيريم، شيكت.
رجع كل واحد إلى برشه سوى طارق وخالد، اللذين افترشا الأرض، بالرغم من البرد القارس، والرطوبة المتغلغلة في الحائط الخشن.
خالد: ولك طارق، زبطت متخيل شو زبطت. هذا انتصار، احنا عم نصنع حياة من جوا السجن.
طارق: طول عمرك وانت هارينا تنظير، والحب للشجعان. أخريتك تهرب 7 مليون رفيق هيك دفعة وحدة. خف علينا أبو المجد.
خالد: ههههه ولك بتعرفني قديش بحب لميس، وأكيد كنت بحب يكون مجد نتاج علاقة حب سوية متل باقي خلق ربنا. واااال شو مشتاق للميس. يا زلمة، بحاولوا يجردونها من إنسانيتنا، من مواصلة الحياة. احنا أحرار أكتر منهم، ومنكمل.
طارق: بتعرف رفيق: زمااان ما شفتك فرحان هيك، بؤبؤ عينك قادح شعلة نار، عم برقص.
رفع طارق سبابته بالهواء، وأخذ يدندن: "دار الفًلَك، في مغزَلك.. طووول السنين ما أمهلك.. يا ناسج الروح في الحياة. فأكمل خالد معه: الحُب لك و الخُلد لك.. والمُلك لك والمجد لك".
طرق الأقرع الحديد: قلنا شيكيت أسيريم أو بتقضوها بالزنانزين.
***
جاء موعد الزيارة المرتقب بعد أربعة أشهر من الإضراب، خاض فيها 24 أسيرا في جلبوع معركة الأمعاء الخاوية، كان خالد واحدا منهم. كانت شهور ثقيلة، ندد فيها الأسرى بالاعتقال الإداري، معلنين مقاطعتهم للمحاكم الجائرة، ومنع الزيارات عنهم، وإنهاء سياسة العزل الانفرادي، وتوفير وسائل تهوية وتدفئة داخل الغرف. فقد عانى الأسرى من سياسة الإهمال الطبي، فقد نُقِلَ رفيقين، وثلاثة من فتح، وخمسة من حماس، وشبلَيْن إلى مستشفى الرملة لتسكين آلامهم بحبة أكامول، وتبيّن بعد أشهر أن أمجد الجعبري من الخليل ومحمد منصور من اللد مصابين بسرطان الدم وسرطان الدماغ، وهما يسيران إلى حتفهما بصمت، بدون علاج كيماوي، كما أن العشرة الآخرين يعانون من أمراض مزمنة تتراوح بين الحصوة، والتهاب في القولون، مع وجع أسنان حاد، ونوبات النقرس العسيرة من كثرة البقوليات التي يتجرعها الأسرى في وجباتهم الثلاثة. فقد طالب الأسرى بإغلاق مسلخ الرملة لعدم صلاحيته بتأمين العلاج اللازم، وإلزام إدارة السجن إجراءهم للفحوصات الطبية بشكل دوري، وإخضاع من هم بحاجة إلى العمليات الجراحية بشكل سريع، وإطلاق سراح الأسرى المرضى خاصة ذوي الإعاقة والأمراض المزمنة.
بدأت الرحلة صباح الأربعاء من الخامسة صباحا، أمام مقر الصليب الأحمر. روج أحمر، وقميص أبيض فضفاض، مع بنطال أسود، شعر أملس، تماما كما يحبه خالد. جلبت بعض الملابس الداخلية، وأشبعتهم بعطر سكاندل الذي يحب أيضا، مع بعض الخباثة منها لاستحضار قارورة العطر وغطائه المثير، تعتليه ساقين مفتوحتين إلى الأعلى، في دعوة مفتوحة منها لممارسة الحب، وهي واثقة "بالفضيحة" التي ستعشعش رأسه حالما يشتمّ الشباحات الجديدة.
أخذت لميس كامل الحيطة لعدم كشف أمرها، فقد تكون هذه الزيارة الأخيرة لها قبل الولادة، وعليها أن تحرص جيدا، أن لا يشك بها أحد، لكي تكتمل الزيارة على أكمل وجه، وترى الفرحة بأعين خالد.
"ستكون رحلة جبلية صعبة" لحامل في شهرها الخامس مع أعراض الحمل المضنية، تمتمت لميس. لا بأس، لا يهم، المهم أننا انتصرنا، ونزعنا حقنا بالحياة من أفواههم.
باص الصليب المكتظ بالعائلات، وجوه مألوفة تسأل عن بعضها البعض، وتطمئن. أطفال يحملون أسماء مدن فلسطينية محتلة، تستطيع سماع اسم حيفا، وبيسان، ويافا، حتى أن هناك طفلة رضيعة تدعى فلسطين. غريب كيف تصبح الأسماء برمزيتها الذخيرة الوحيدة للتمسك بالوطن البسيط، نحملها لنغيظ بها العدو، وتحملنا نحو الحلم والعودة. بعض الوجوه متوترة من احتمال إرجاع الأغراض التي تحملها للأسير من كتب وغيارات، وغيرها من اللوازم الشخصية. ولكن ما يجمع جميع الذين في الباص أنهم متجمّلين وفي أبهى حُلّة، كأنه عيد.
وصلت الحافلة تحت إجراءات أمنية مشددة، تفتيش أول، وثانٍ وثالث. تحاول لميس الحفاظ على مظهرها، وتماسك معدتها كتلة واحدة، خوفا من الاستفراغ.
دخل الجميع القاعة المليئة بالزجاج، والهواتف السلكية الملتوية، اتخذ الجميع مكانه في انتظار أبنائهم وزوجاتهم. حتى اعتلى شاوول غرفة التفتيش الداكنة، مصوّبا نظره نحو لميس. شغل الآلات البغيضة للتنصت على المكالمات وتسجيلها، وفتح الخط على خالد ولميس.
خالد: بتعرفي انك حليانة؟
لميس: طبعا مش صرت تو إن وون، أنا ومجد.
وما إن وضعت يدها على قميصها، ليطل تكوّره الصغير، وإذ بشاوول يصيح من غرفة التحكم، وقد جن جنونه لوهل ما رأى.
يا قحبة... عملتوها من وراي.
استشاط شاوول غضبا، وأوعز للضابط بإنهاء الزيارة في أول دقيقتين وسط جلبة وصراخ الأمهات والآباء والزوجات والأسرى وخوف الأطفال الشديد من هول المشهد.
أمسكت مجندتان ذراعَي لميس، وساقتها إلى الخارج، واقتحمت وحدة القمع المتسادا صفوف الأسرى في ضرب وحشي لهم، واستهداف غليظ لعظامهم.
وُضِعَت لميس بمعزلٍ وحدها لغايات التحقيق، ولم تنبس ببنت شفة بالرغم من أسئلة المحققات والمحققين لها، موجهين لكماتهم "لابن الحرام" في أحشائها، ويديها المعصوبتين وراء ظهرها، حتى أفرجوا عنها مع بضع كدمات ومنع أمني من الزيارة.
مرت عدة شهور جُدِدَ فيها اعتقال خالد بقرار مخابرات، كإجراء عقابي له لتهريبه نطف الحياة.
***
رزمة رسائل جديدة تصل جلبوع في يوم خريفي من أوائل شهر تشرين الأول، استلمها شاوول ببطء أرعن والشعر يأكل ذقنه من شدة البؤس. أخذ يدخن سيجارته، ويقرؤ الأسماء، حتى وصل اسمها، لميس، فأطفأ سيجارته في وجه الضبع، كعادته، وفتح الرسالة في عجالةـ
"حبيبي، مبارك لنا المجد مرة ثانية وثالثة ورابعة ومئة وواحد بعد المئة. فليعلم الجبان الذي يقرؤ الرسالة قبلك أني أقاوم بك ومعك وفيك. ننتظرك، لميس"
*هند شريدة
كاتبة فلسطينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق