اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الفصل الثالث من رواية: چوم.أم “المتاهة”....* زهرة أمهو





نـــزوة

​​​​​​ لو كان العالم في كفة وأمي في كفة، لاخترت أمي1 ​​​​

بوابة السوق​​ موصدة. وقفت​​ قبالتها​​ صبية جميلة.​​ التفتت حولها، مرتبكة، حائرة. دنت منها​​ امرأة عجوز مقوسة الظهر، ذميمة الشكل.​​ بفم أجوف​​ خال​​ من الأسنان​​ سألتها بصوت جهوري صارم، بدا مناقضا لمنظر جسدها الواهن:

​​ ​​​​ -​​ هل تبحثين​​ عن شيء يا صغيرة؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ أنا لست صغيرة، يا جدة! أنا كبيرة بما يكفي،​​ فلا تناديني هكذا، رجاء!

تردّ الفتاة بغضب،​​ تضرب بقدمها الأرض،​​ تعبيرا عن سخطها.

​​ -​​ كما تشائين!​​ لكنكِ لم تجيبي بعد عن سؤالي. عمَّ تبحثين؟​​

تكرّر العجوز سؤالها،​​ بنبرة أهدأ، هذه المرة.

​​ -​​ أولَيس هذا​​ السوق هو سوق​​ الأمّ؟ أريد شراء أُمًّ جديدة.

تجيبها​​ الصبية بإصرار من يعرف​​ ما يريد.

-​​ يا​​ للصبية المسكينة! هل أنت يتيمة؟​​

خاطبتها السيدة العجوز وقد اصطبغت نبرتها الصارمة، فجأة، بالحنان.

-​​ لا! لست يتيمة!​​ فوالداي مازالا على قيد الحياة...

وضحّت الصبية، بغير قليل من التردد، جاهدت لمداراته، غارسة أسنانها​​ في شفتها السفلى حتى كادت تدميها.

​​ -هل تخلّى​​ عنك أبواك؟

​​​​ -لا، أبدا! لم يفعلا.

​​ -هل أمك مريضة أو عاجزة؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - ​​ لا، أبدا!​​ ما تزال شابة بكامل عافيتها، غير أنها لا تخرج كثيرا. أمي ربة بيت وتقضي جل يومها في المطبخ، كما​​ تمضي​​ ما تبقى من وقتها في​​ بعض الأمور النسائية التافهة كتخضيب​​ شعرها بالحناء،​​ وارتياد حمّام الحي برفقة نساء متخلفات مثلها. أرأيتِ؟ هل من امرأة​​ عاقلة تستعمل الحناء وتهتم بزينتها بنفسها، وتترك​​ الصبغات​​ الصناعية ومحلات الحلاقة؟ وهل هناك من لا يزال​​ يرتاد الحمامات الشعبية؟ ألا تشاطرينني الرأي في أن​​ والدتي​​ متخلفة نوعا ما؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ همم.. مفهوم، مفهوم!​​ همم...

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ غمغمت الجدة، واضعة ذقنها​​ بين سبابتها وإبهامها، تفكر، مُطرقة رأسها إلى الأرض، ثم ما فتئت ترفعه فجأة، لتضيف وهي تحدج الفتاة بنظرة متفحصة:

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ أستنتج​​ من كلامك​​ إذن أن أمك إنسانة أنانية، وتهتم بنفسها أكثر من اللازم، تصرف يغضبك منها،​​ طبعا...! وربما كلّفَتكِ​​ بأشغال المنزل أثناء انشغالها بكل ما ذكرتِ. كل هذا مفهوم.. أكيد، لكن، ليس من اللائق أن تقللي أدبك عليها سواء في حضورها أوفي غيابها. فمهما كان الأمر، هي أمك وينبغي احترامها.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ أولا، أمي​​ لا تكلفني بأشغال البيت، لأنها تقوم بكل شيء بنفسها ولا تعتمد على أحد، وهي شبه مقيمة بالمطبخ لتعد لي أطباقي المفضلة.​​ ثانيا، ألا أملك الحق في التعبير عن رأيي بكل حرية؟ ليس شرطا​​ أن أوافق على أسلوب حياتها وبعض تصرفاتها.​​ وثالثا، هي​​ من يجعل نفسها أضحوكة باتباعها تلك العادات​​ المتخلفة التي أكل عليها الدهر وشرب.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ أضافت باستخفاف. 

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ إنني​​ كذا...! إنني​​ ذاك...! ما كل هذا التكبر والأنانية المغرضة؟ تواضعي قليلا يا هاته!​​ تقاليد الناس ليست تخلفا! عاداتنا وأعرافنا أساس حضارتنا. ولا أفهم لم أنتِ متضايقة لهذه الدرجة؟ هل تؤذيك أو تكبّل حريتك مثلا؟​​

استفسرت السيدة​​ العجوز، بِحيرة متنامية.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - لا، إطلاقا. أنا أمضي وقتي​​ كيفما أشاء. وفي الغالب، عندما لا أذهب إلى​​ المدرسة، أقضيه نائمة أو جالسة أمام حاسوبي...​​

أجابت بتبرم المستعجِل.

​​​​ -​​ ألا تذهبين إلى المدرسة!؟​​ هل​​ تمنعك أمك عن المدرسة؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ كلا، ليس هذا ما قصدته، أنا طبعا أذهب. أردت أن أقول في أوقات فراغي. أما والدتي فتطرق رأسي ليل نهار بحكاية الدراسة وبمستقبلي الذي يرتبط بها. حبيبتي​​ ادرسي​​ كذا... ابنتي تعلمي​​ كذا...اقرئي​​ هذا الكتاب،​​ وتلك الرواية و...​​ و... لكي تصبحي إنسانة ناجحة ومواطنة صالحة، تنفع بلدها وتربي النشء الصالح​​ و.و.​​ إلى آخر الأسطوانة المشروخة البائدة التي تعزف أغنية أقدم منها.

​​​​ عقّبت بتأفُّف ظاهر.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ ما من داعٍ أن تكملِي! يبدو​​ لي أن صدرك صار​​ ضيقا إلى أبعد مدى،​​ ربما السبب أنك لا تقضين وقتا ممتعا رفقة والديك. ألا تذهبون أحيانا لإمضاء​​ العطلة في مكان ممتع؟

قاطعتها العجوز، بنفاذ صبر.

- بلى! نقضي​​ معا العطل​​ الصيفية بأماكن مختلفة.​​ غير أني لا أحبذ رفقتهما المملة.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ ألا يشتريان​​ لك ما تحبين؟

استفهمت​​ المرأة المحتارة من حال الفتاة:

​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - بلى! أمي​​ تشتري لي، فهي تحب التسوق وتقتني ما تظنه أفضل وأنفع​​ لي، وليس​​ أبدا ما أريده أنا، ولهذا السبب بالضبط، أريد أُمًّا​​ أخرى. أُمًّا​​ عصرية وأكثر انصياعا لطلباتي،​​ دون قيد أو شرط وبلا حدود...​​

أجابت الصبية الشقية، ونظرت نحو العجوز بتحدٍ ظاهر.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - همم...! ربما بدأت أفهم​​ قليلا! والآن، أصدقيني​​ القول!​​ هل أمك على علم بنيّتِك في​​ استبدالها بأخرى؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - هآآآ!؟

نطقت​​ البنت كَمن باغته السؤال، وما فتئت تستدرك​​ بلا مبالاة، ترجمها​​ اهتزاز كتفيها:​​

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - وما يعنيني​​ إن كانت تعلم أم لا؟ ثم ما علاقتها هي​​ بالمسألة؟ إنه أمر يخصني وعليَّ​​ حلُّه، لستُ مجبرة على تقديم الحساب لأحد، ولا أريد العون من أحد، وبالخصوص منها...

-​​ ​​ وما رأي والدك المحترم في المسألة؟

​​ ​​ ​​ ​​​​ ​​ ​​ -​​ أبي؟ سألت الفتاة، مندهشة.​​ ما دخل والدي بالمسألة؟ أنا أتحدث عن​​ الأمّ​​ وليس عن الأب..​​ الأب​​ موضوع​​ آخر، ينبغي حلُّه لاحقا.. وهذه مسألة شخصية، وأنا كبيرة كفاية​​ لأقرّر بنفسي.

ختمت كلامها بحركة من رأسها​​ تنم عن الكثير من العجرفة​​ المشوبة ببعض الغضب،​​ بينما أطرقت الجدة​​ لبرهة تفكر،​​ ثم، رفعت رأسها ثانية وعينيها​​ العمشاوتان​​ الضيقتان تلمعان بمكر ودهاء. تحدثت بصوت هادئ لا يخلو من تحدٍ، فارِدة ذراعيها مرحِّبة بالصبية:

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ إذن يا آنستي​​ الكبيرة كفاية،​​ تفضلي بالدخول إلى السوق، رغم أنني أشك كثيرا أن تجدي ما يلائم ذوقك​​ المغال،​​ فقط اسمعي مني نصيحة ثمينة، وتذكري جيدا أن من يزرع الريح​​ لا يحصد سوى العاصفة.

-​​ لم أفهم قصدك، جدتي...

استفهمت المراهقة​​ الغرّة ببلاهة.

-​​ أظنني​​ نبّهتك من قبلُ​​ أن هذا السوق لا يقصده إلا الأيتام.

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ -​​ إذا​​ عُدّني يتيمة.​​ وضعي في حسبانك أنني سأموت​​ قهرا إن لم أجد أمّاً بالمواصفات التي أريد، هاه!

أنهت قولها​​ المتعنِّت بِلحن يشبه تحسر اليائس. وقبل أن تغلق فمها، فُتِحت البوابة بما يكفي لمرورها.​​ فدلفت إلى الداخل تتهادى بكل رشاقة وكأنها لاعبة باليه محترفة. ثم، أوصد الباب خلفها.
⏪3
لما استعادت الفتاة​​ أخيرا بصرها، وجدت نفسها في قلب فضاء شاسع يشبه في شكله وهندسته مركزا تجاريا. وكان حقا، سوقا ضخما،
تشِعُّ أسقفُه المديدة بملايين من الأضواء.​​ وكأن أشعة شموس عِدّة تنيره​​ دفعة​​ واحدة. كانت​​ أشعة ذهبية وفضية وزرق وحمر وبنفسجية وسينية​​ و...

بيْد أن الفتاة​​ لم تكن تخشى تأثير أي​​ منها. فجميعها صديقة​​ للبيئة.

مدَّت بصرها نحو الأعلى لتقيس مدى ارتفاع المكان. فلاحظت تشكله من طوابق لا متناهية العدد. وبصرها بلغ حده والطوابق لم تصل مداها في العلو. إذ، كانت تمتد على حد البصر.. لتنتهي​​ بسراب ينْجلي وراء السحاب...

واو! يا له من صرح عظيم. لكن، يا​​ للعجب!​​ مع كامل الأسف، يبدو خاليا ومهجورا.

وجدت​​ المتاجر​​ الكثيرة والمتراصة​​ جميعها مغلقة. وبالرغم من أنها​​ بدت مضاءة من الداخل إلا أنها لا تشي​​ بما يوجد​​ فيها.​​ فالستائر السميكة​​ المنسدلة​​ على الواجهات​​ منعت مشاهدة ما​​ يوجد​​ خلفها. ورغم ذلك، بدا ممكنا التكهن​​ بماهية بضاعتها.​​ ففوق كل متجر​​ عُلِّقتْ يافطة كتبت عليها​​ عناوين مواقع إلكترونية​​ مثل​​ فايسبوك، يوتيوب،​​ تويتر، واتس آب، فيبر، هاشتاك، لينك،​​ سناب شات...

​​ ​​ ​​ ​​​​ وقفتْ أمام بابٍ، استرعى انتباهها عنوان يافطة​​ مشعة بألوان براقة:

"Com. أم.​​ Www"

​​​​ ومنَّتْ نفسها أن تجد خلفه غايتها. فبدأت تسترق السمع حين التقطت أذنها لحن​​ موسيقى منبعثة من هناك. لم​​ تدر​​ تحديدا​​ أهي لموزارت أم فيفالدي... أو ربما موسيقى شرقية، هندية،​​ مشوبة بموسيقى أندلسية.​​

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ بدت​​ المراهقة​​ متردّدة​​ في​​ تحديد أصل اللحن.​​ غير أن ما جذبها وسحر​​ حواسها،​​ هو​​ لحن حزين ممزوج بالمرح ويحوي شجنا يبعث على البكاء والضحك في نفس الآن.

ربما...؟! أوه! تذكرتُ​​ الآن!

تذكّرت الطفلة أخيرا، أن​​ اللحن لأغنية أطفال قديمة، كانت أمها تترنم بها عندما كانت​​ طفلة صغيرة كلما حانت ساعة نومها.

فجأة! خرجت من الحائط المحاذي للباب شاشة صغيرة دنت من​​ وجهها بغتة،​​ لتقابله كمِرآة.​​

كانت شاشة آلة​​ قراءة الوجوه.

​​ آلة مزودة بتقنية لا تسمح لأحد بتجاوز أبواب السوق​​ إلا بعد فك شِيفرة بصمته الجينية المطبوعة في بؤبؤ عينه اليسرى للتعرف على هويته.

​​ ثم،​​ فُتِح الباب ما أن تعرّف عليها الجهاز الذكي.​​ وسمح لها بالنفاذ​​ إلى قاعة فسيحة، تعرض جدرانها​​ حواسيب​​ ذات شاشات متنوعة: مسطحة ومقعرة ومدورة.​​ وفيها الكبيرة​​ والصغيرة والمتوسطة، ومنها أخرى دون حجم مُعَيّن. كانت جميعها مُشغّلة ومُزوّدة بكاميرات تَستعرض صورا وأشرطة مُلتَقطة مباشرة،​​ لتُمَكِّن الواقف أمامها من الاطلاع على ما يجري داخل السوق.​​ وتطلعه​​ على ما يقع أمام​​ بوابته الرئيسية وخلفها وفي فضاءات أخرى لم تقع العين​​ عليها من قبلُ: حدائق غنّاء ومنازل فسيحة وشوارع مُتراصّة وساحات نظيفة جدا.

همم.. حتما! هي معالم هندسية لمعمار مدينة​​ مستقبلية، ربما​​ صُمِّمَتْ لزمن قادم.​​ ولا يمكن توفُّرها في الوقت الحاضر.​​ همم.. على الأقل، بالنسبة للعامة من الناس كأُسْرتي، أجل أكيد.. هو كذلك.!

خمّنت الصبية متجولة​​ باستغراب بين الشاشات العملاقة والمختلفة. وفجأة،​​ تراجعت​​ إلى الخلف بحركة لا إرادية. ثم،​​ تسمَّرتْ مكانها وكأن كافة أطرافها أصابها الشلل فجمّدها كتمثال.

​​ إنهما العينان نفسهما، تحملقان فيها، عيناها​​ هي.. البنت عينُها:

يا​​ إلهي! إنّ..نّ.. ه…ا...صورتي. أنا!

مرآة صافية كانت لتكون أقل صدقا من الشاشة التي عكست وجهها: هل هذا​​ الحاسوب موصل بكاميرا مصوبة مباشرة​​ نحوها؟ وهل​​ كانت​​ تتعقب أدق خطواتها​​ منذ ولوجها بوابة السوق إلى أن وصلت أمام الشاشة حيث تشاهد الآن نفسها كمرآة؟

ربما...!​​ من يدري؟

​​ نطّت في مكانها والتفتت متوجسة حولها عندما​​ سمعت​​ صوتا هادئا يُكلّمها:​​

- صه! أنت يا آنسة!​​ ما الذي جاء بك إلينا؟

​​ كان الصوت​​ الناعم، الواثق​​ منبعثا من إحدى الشاشات التي جاهدت لتحديدها، على كثرتها وتباعد المسافة بينها في فضاء بمثل هذه​​ المساحة​​ الشاسعة كملعب كرة القاعدة...

​​ أجل، وجدتها أخيرا!

إنها​​ تلك، هناك!​​ تلك الأكبر​​ حجما​​ والمعلقة على الحائط الذي يتوسط القاعة.​​

رفعت رأسها.​​ فواجهها الوجه الجميل الخالي من التجاعيد والعيوب.​​ وإن وُجِدتْ، فقد خبّأتها​​ المساحيق الموضوعة بإتقان ومن​​ دون إسفاف أو مغالاة.​​ لتضفي لمسة من البساطة المعقَّدة على الُمحيا الجميل. محيّا​​ قابلته الفتاة بارتباك مشوب ببعض الثقة:

​​ ​​ ​​ ​​​​ - ​​ ومن سيادتكِ؟

- أنا​​ مديرة مركز التسوق حيث أنت الآن.​​

أجابها الصوت المعدني، المحايد والخالي من النبرات.

- ما دمتِ مسؤولة هنا سيدتي، إذن​​ تستطيعين​​ مساعدتي...

هتفت الصبية،​​ بفرِح ظاهر.

- اطمئني يا آنسة!​​ لن أذّخر مجهودا في سبيل ذلك. فتلبية طلبات الزبائن من صميم عملي. أخبريني فقط فيم تحتاجين مساعدتي؟​​

- ربما ساعدتني في اختيار أُمٍّ.​​ أٌمٌّ تشبهك شكلا...أقصد، تقريبا...

- ها..ها.. ها!​​ لم تطلبي إلا الموجود، يا آنستي الصغيرة، ها..ها.. ها!

قهقهت​​ الموظفة بطريقة غريبة تشبه صدى قرع آلة معدنية.​​ ولسبب ما استعصى على البُنيّة​​ الغرة فهم​​ مغزاه. ثم​​ أضافت بعدما​​ استعادت جدِّيتها.

​​ -​​ عذرا! آنستي الصغيرة، سأوجهك حالا إلى مكتب التسويق والمبيعات ليساعدك على اختيار المنتوج.

​​ -​​ شكرا، شكرا!​​ لا أعرف كيف أشكرك.. آه!​​ لا يمكنُكِ تصوّر مدى سروري وامتناني.. و.

تمتمت​​ البنت بمزيج من لهفة وفرح.

- رويدك!​​ لا تتسرّعي​​ يا آنسة!​​ لتُقدِّمي طلبك​​ للحصول على أمّ​​ يجب​​ أن تتوفر فيك شروط معينة.​​ فأولا، نحن لا نلبي سوى طلبات​​ الأيتام.​​ ثانيا، لاستقبال​​ الأمّ​​ الجديدة​​ نشترط توفرهم​​ على بيت جيِّد وبمواصفات معينة.

- لدي بيت، لكن يسكنه والداي، ولا أتوفر على سواه.. تعلمين​​ أنني مازلت صغيرة،​​ و.

-​​ آهاااه...!​​ الآن تعترفين بصغر سنك.​​ بينما ادّعيتِ​​ قبل قليل أنك كبيرة​​ بما يكفي​​ لتكوني مسؤولة عن قراراتك.

​​ عاتبتها امرأة الشاشة بنظرة ماكرة تشبه إلى حد بعيد نظرة العجوز الشمطاء التي قابلت قرب بوابة السوق.

- أتعرفين يا خالة؟​​ لو لم​​ أكن صغيرة لما احتجتُ​​ أُمَّا.. ولما​​ جئت إلى هنا لأبحث عن واحدة.

عقّبت بارتباك، وبدت يائسة.

- ما هذا التناقض يا فتاة؟ ألم تزعُمي أن لديك​​ والدة.. بل​​ الوالدين​​ معا: أب وأمّ!؟ وأجبتكِ أنا،​​ أننا لا نوفر أمَّهات إلا للأيتام.​​ بل​​ ومن مات آباؤهم نرفض طلباتهم... فقط من ليست لديه أمٌّ نقبل طلبه. أفهمتني الآن؟ أم أكرر على مسامعك من جديد؟

- أكون كاذبة إن أنكرت​​ ان لي​​ والدة. وسأكون صادقة وأصرح أنني​​ أطمح للحصول على واحدة أفضل!

- همْمْ...! أفهم من كلامك أنك لا تريدين والدتك الحالية.​​ هل هذا بالضبط ما قصدته، أليس كذلك؟ أمْ أنني مخطئة في استنتاجاتي؟​​ أجبينني​​ بكل صراحة كي أستطيع مساعدتك!

-​​ ​​ أجل، تقريبا، هذا ما​​ قصدته بالضبط.

- حسنا​​ إذا، ما​​ دُمتِ مستغنية عن والدتك، سأحقِّقُ أمنيتك الغريبة​​ والفريدة​​ هذه، لكن بشروط!

وبتلهف يشبه اشتياق المحروم، أضافت البنت العاقة:

- اشترطي كما تشائين.​​

- لا تستعجلي​​ يا​​ آنسة!​​ هو​​ شرط واحد وحيد​​ يُعدُّ معيارا​​ جيدا​​ لتلبية طلبات الزبائن بكل موضوعية، ولمعرفته​​ عليك​​ أن تتبعي التعليمات خطوة خطوة. والآن، تفضلي​​ بالجلوس أمام​​ الحاسوب!

الجلوس؟ حاسوب؟

​​ أين سأجلس؟ وأين هذا الحاسوب؟

تساءلت في سرِّها الفتاة، جائلة ببصرها في أرجاء القاعة الفسيحة، المكسوة الجدران بالأجهزة والشاشات الالكترونية المتطورة والخالية من أثر أي أثاث، و...

في لمح البصر، وجدت نفسها مقتعدة كرسيا​​ مريحا، أمام​​ مكتب وضع فوقه حاسوب بموديل متطور، لم تشاهد قطُّ نظيرا له. ولم تعرف متى؟ ولا من أين خرجت هذه الأشياء جميعها؟ ولا كيف جلست فوق الكرسي​​ بسرعة قياسية وبدون بذلها لأدنى مجهود؟

- هل أنت مرتاحة الآن؟​​

​​ أومأت المتسوقة الصغيرة بالإيجاب.​​ وعقدت الدهشة لسانها​​ حين سمعت صوتا معدنيا بدا مختلفا قليلا، وأقلَّ حِدة من الأول، محتفظا​​ بالنبرة ذاتها. نبرة معدن يقرع جرس كنيسة يوم قدّاس.​​ فاستنتجت استبدال مُخاطبتها بأخرى.​​

من المتحدثة الجديدة؟

​​ ​​ - هل لي بشرف معرفة من يحدّثني؟

​​ ​​ -​​ الرئيسة التنفيذية لقسم التسويق والمبيعات على​​ موقع​​ «سوقCom.أم"في خدمتكم! ما هي طلباتكم؟

​​ ​​ - طلبات! ليست لدي طلبات. هو طلب وحيد: شأني​​ وصديقات مواقع الدردشة أريد أمًّا جديدة. ام​​ تستجيب لمعايير آخر صيحات الموضة في موديلات الأمهات العصريات.

​​ - ما شاء الله! عشنا وشفنا! وهل الأمهات أيضا بِتْن سلعة تُباع وتُشترى وتُستبدل حسب الأهواء والظروف والمقاسات، كأنهن​​ لباسٌ أو هاتفٌ ذكيٌّ​​ لأجل التباهي؟

​​ ​​ - وإذا لم يُعتبرن كذلك، فما الغاية من وجود سوق للأمهات؟

​​ ​​​​ ​​ ​​​​ - كما أخبرتْك من قبلُ السيدة المديرة العامة للمركز، فالسوق يسدي خدمة نبيلة لأشخاص بعينهم. انهم​​ الأطفال أيتام​​ الأمِّ.

- وأنا أيضا أكرر ما سبق أن قلته: وأنا أعتبر نفسي بدون أمّ!

​​ -​​ حسنا! إذا​​ كنت مصمِّمة على طلبك الشاذ هذا، فسنسدي لكِ خدمة استثنائية​​ للحصول على إحدى الأمهات المعروضات في السوق، على ندرة مقدمي طلبات غريبة من أمثالك. ولكن لا عليك. فقد تهيأنا لتلقي مثل هذه الطلبات. وما عليك إذن، سوى أن تمتثلي إلى التعليمات التي سأُمليها عليك الآن:

1.​​ تأكدي أن خدمة الأنترنت مشغلة.

2. ادخلي إلى محرك غوغل. وابحثي عن موقعنا برقن العنوان الإلكتروني التالي:"com.أم.​​ Www"​​

3. عندما تظهر​​ الصفحة الرئيسية للموقع، وجهي الفأرة نحو الزاوية اليمنى أسفل الشاشة التي أمامك​​ حيث​​ ستعرض​​ عليك عدة نوافذ.

4. في أعلى زاوية الشاشة، ستجدين نافذة تحمل عنوان: "طلب​​ شراءأم". أنقري فوقها لتسجلي دخولك.

5.اكتبي اسمك، سنك، وعنوانك الالكتروني.​​

6. عندما​​ تفتحين​​ الصفحة​​ الجديدة، ستُعرض​​ عليك مجموعة من الملفات.​​ حسنا! وجِّهي سهم​​ الفأرة نحو الخانة المعنونة​​ ب​​ «شروط قبول الملف"

7. انقري وستعرض عليك عدة خيارات. عليك أن تختاري النقر على خانة"​​ شروط استثنائية".

8. اقرئي وطبقي حرفيا التعليمات المدونة هناك، إذا كنت فعلا جادة في طلبك!

بعد لحظات، تلتِ المرشحة الصغيرة التعليمات بصوت مرتفع:

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - "كل مرشح لديه أمٌّ ويريد استبدالها عليه أن يتخلى بصفة نهائية عن أمِّه الحالية. ويلغي أي علاقة طبيعية



​​ أو اجتماعية كانت تربطهما، بصفة نهائية وإلى الأبد!"



​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ كان شرطا وحيدا، لكنه بدا لها كأنه أمر قضائي​​ قاسٍ وعاجلُ التنفيذ.

​​​​ - لكن...

​​ ​​ ​​ ​​​​ نطقت بتِردد، الفتاة الحائرة.

​​ ​​ - لكن،​​ لكن.. ماذا؟! هل تريدين التراجع عن طلبك الآن؟ إذا كان الأمر كذلك، فأنصحك بأن تنسحبي حالا وقبل فوات الأوان، كما​​ أحذرك! بألا​​ تتجرئي أبدا بعدها أن ترينا وجهك العاق​​ والقليل الحياء.. هيا، اذهبي، وعودي لأحضان أمِّك.

​​ - لا، لا أريد أن أعود إليها​​ أبدا.. إلا هذا! لا تسيئي فهمي، أرجوك. مازلت مصرة على طلبي ولم أتراجع.

​​ ​​ ​​ ​​​​ - إذا كنت مُصِرة كما تدَّعين، فليس هناك من​​ لكن. امضي قُدُما في إنهاء إجراءات الصفقة.​​ إن لم تتممي إجراءات الموافقة والتقيد بهذه التعليمات إلى​​ النهاية، فلن​​ تتمَّ تلبية طلبك. فليس من العدل أن تتوفري على والدتين بينما يوجد أطفال صغار​​ آخرون ليست لديهم واحدة.​​ وهذا أمر مخالف للطبيعة وينافي​​ القوانين وأعراف المجتمع.​​ أمّ​​ واحدة تكفي!​​ فالبيت الأسري لن يتحمل وجود والدتين تحت سقف واحد وإلا انهارا تحت ثقلهما. وسيُدفن​​ الأبناء، دون​​ شك، تحت ركام أنقاضه.​​ ثم إن إدارة موقع سوق.comأمّ، لا تقبل سوى الطلبات التي يقدمها​​ أيتام​​ الأمّ​​ الصغار، كما ذكرنا لك من قبل. لهذا، إن​​ أردت أن تتوفري على الشرط الأساسي لقبول الملف عليك أولا أن تتخلصي من والدتك، لتصبحي يتيمة أيضا. وإلا فسيُرفض طلبُكِ بالتأكيد.

 - ...

- والآن،​​ يا صغيرتي، فكّري جيدا!​​ إمّا أن تقبلي عرضنا الاستثنائي وتوقّعِي عَقدا يتضمن الشرط السالف الذكر ليسمح لكِ بعدها مباشرة​​ بانتقاء​​ الأمّْ​​ التي تفضلين، وإما أن تُغادِري​​ الموقع والسوق حالا وترضيْ​​ بالأمِّ​​ التي قسّم الله لك.​​ وهكذا، تتركين الفرصة لغيرك من المحرومين فعلا، ليحصلوا​​ هم أيضا على​​ أمّ​​ كباقي المحظوظين من الناس.

-​​ لقد فكرت وقررت. وأوافق على الشرط. أين هو العقد لأوقِّعه؟ وأبصم عليه بأصابعي العشرة!

​​ ​​​​ عقَّبت الصبية بتسرع.​​ وكأنها تخشى تراجع المديرة​​ عن عرضها.​​ والأدهى والأمرُّ أن تُقنعها بقبول الاختيار الأخير.

​​ -​​ حسنا إذن، كما تشائين! ولن تتراجعي بعدها أو​​ تندمي؟

​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ - أكيد!​​ لن أتراجع أبدا ولا! لن أندم!

وفي لمح البصر، اختفت الموظفة من​​ شاشة الحاسوب.​​ بل، اختفت الحواسيب جميعها، واختفت القاعة بحيطانها وأضوائِها..​​ والفتاة​​ عينها​​ اختفت.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...