فِي إحدَى زَوَايا الحَديقَةِ المُجَاوِرَة لِمَدينةٍ لاَ تَنامُ أبدًا، لَيلُها كَنَهارِها. اِختارَ مَكانَهُ تَحتَ شَجَرةٍ مُتَدَليَّةٍ بِأغصانِها علَى الأرضِ. تَرتَسِمُ لكَ مَلامِحها مِن بَعيدٍ أنَّها خَيمَة دَاكنَة السَّوادِ.
كَانَ ذَلك مَع تَباشير صُبْحٍ يَتَنَفَّسُ بِتَنَهُدٍ لِلطُّلوعِ.. اِقتَرَبتُ مِن المَكانِ، رَأيتُه مُطَأطِئ الرَّأس، يَرتَدي ثيَابًا بَالِيةً عُدمُلِيةً، مُثقَل بِالهُمُومِ، تَبْدُو عَلى وَجهِهِ مَلاَمِح الشَّيخوخَةِ المُبَكِّرَةِ.
يُهَروِلُ يَمِينًا وَشِمَالاَ، لَكِنَّهُ لَا يَبرحُ المَكان المُحَدَّدِ بأغصَانِ الشَّجَرة المُتَدَلية. كَأَنَّها جُنود حِراسَةٍ، تَمنَعُهُ مِن اِختِراقِها إلى الخَارِج.
لفَّهُ الظّلامُ بِرِدَائِه وأَصْبَحَ مُمْتَزِجًا بِدَاتِهِ.
فِي كَثِيرٍ مِن المَرَّاتِ يَتَحَامَلُ عَلَى نَفْسِه، يُريدُ الخُرُوجَ والتَّمَلُّصَ، لَكِنّهُ لا يستطيع. لِأنَ عِينَاهُ
أَلِفَتْ ظُلْمَةَ المَكَانِ. حَتى أنَّه أَصبَحَ يُحِبُّ مُدَاعَبَة الغِربِان، الَّتي تَقصِدُ المَكانَ مِن أجلِ بَقايا أطعِمَةِ العابِرينَ مِنهُم المُتَصَدِّقِينَ والشُمَّات..
فَتَزيدُ المَكانَ حِلْكَةٍ بِسَوادِها السَّرمَدي.
مُندُ سَنواتٍ وهوّ قابعٌ في مَكانِه.
كَمْ مٌنْ مُناسَبَةٍ مَرَّتْ عَليهِ وَأعيَاد عَاشها أَهلُ المَدينَةِ وفَرِحوا بِها..؟! وهوّ لاَ يَدرِكُها تَمامًا. لأنَّه فضَّلَ أن لا يَبرِحَ هذا المَكان أبدًا.
إنَّ الزَّمنَ عندهُ مُتَوّقِفٌ تَحتَ هذهِ الشَّجرة المَلعونَة.
مرّ عَليهِ وقتٌ مُعَسْعَسٍ بليلٍ طَويل...
غَلبه النُّعاسُ، اِستغرَقَ فِي نومٍ عَميقٍ...
لِيَستَفيقَ على مَنظَرٍ آخَر..
لَمْ تَعُدْ طيورُ الغِربانِ تَزورُ المَكانَ، لأنَّ َّالنَّوارسُ اِسترجَعَتْ مَكانَها.. وغيَّرتْ من لَونِ المَكان... وأصبَحَتْ تَأتِي أَسْرابًا كُلّ يَومٍ إلَى حوضِ الحَديقَةِ، اِقْتَرَبَتْ مِن مَكَانِه..
اِستَغْرَبَ !.. ولمْ يَستَوْعَبْ مَايَدورُ حَولَهُ...
أحسَّ بِشُعورٍ غَريبٍ يَنْتابُه.. وَهَزّات مُريبَة في أَعماقِهِ..
_أينَ هيَّ الطُّيور الَّتي أُلفْتُها ؟
_هل هيَّ هاتِه الّتي أرَاها ؟..
_لا..لا.. ليسَتْ هيَّ... شَتَّانَ بينَ هاتِه وتِلك !.
يَتَشجَّعُ ويَرغَبُ في رُؤيةِ المَزيدِ مِنها..
يَرى سِربًا في الجِهَةِ المُقابِلةِ هُناك.. في جَنَبَاتِ حوضِ المَاءِ. ومنْ خِلالٌهَا رأَى الفَضَاء المُحيطِ بهِ... اِتَّسَعتْ عيناهُ في ذهولٍ، ولمْ يَسْتَوعـَبْ مَايَدورُ حَوْلهُ.
أحَسَّ بِدوَارٍ في رَأْسِه.. وشُعور غَرِيب فِي دَواخِلهِ..
رَاحَ يَبحَثُ في لُجَجِ نَفْسِه المُضْطَرِبَة...
إنَّها لَحظَة التَّغيُّر والتَّحَوُّل العَميق...
يَرَى مُجمَّعَات فاخَرَة وصفوفا زاخِرَة من الأزْهَارِ والورودِ المُختَلِفَة الأَلْوَان والأشكَالِ.. في الحَديقَةِ نفسهَا.
تُسْمِعُهُ الطُّيُورُ بِمُختَلَفِ أجناسِهَا مَعزُوفَة الحَياةِ..
تَجذِبُهُ الحَديقةُ بِعِطْرِهَا إلَى مَدخَلِ المَدِينَةِ...
لِيَنْبَهِر بِأنوَارِها الخَلاَّبَةِ وشَوارِعِهَا الرّحْبَة.
فَتَطْمَئِنَ رَوْحَهُ، ويَتَشَبَّثَ بِلَمَعَانِها.
فَتَأخُدُهَ بِسِحْرِهَا إلـَى مَا لَا نِهَايَة مِنْ زُرْقَةِ الفَضَاءِ ونورُ الضِّيَاء.
عبد الحكيم قويدر
الجزائر
كَانَ ذَلك مَع تَباشير صُبْحٍ يَتَنَفَّسُ بِتَنَهُدٍ لِلطُّلوعِ.. اِقتَرَبتُ مِن المَكانِ، رَأيتُه مُطَأطِئ الرَّأس، يَرتَدي ثيَابًا بَالِيةً عُدمُلِيةً، مُثقَل بِالهُمُومِ، تَبْدُو عَلى وَجهِهِ مَلاَمِح الشَّيخوخَةِ المُبَكِّرَةِ.
يُهَروِلُ يَمِينًا وَشِمَالاَ، لَكِنَّهُ لَا يَبرحُ المَكان المُحَدَّدِ بأغصَانِ الشَّجَرة المُتَدَلية. كَأَنَّها جُنود حِراسَةٍ، تَمنَعُهُ مِن اِختِراقِها إلى الخَارِج.
لفَّهُ الظّلامُ بِرِدَائِه وأَصْبَحَ مُمْتَزِجًا بِدَاتِهِ.
فِي كَثِيرٍ مِن المَرَّاتِ يَتَحَامَلُ عَلَى نَفْسِه، يُريدُ الخُرُوجَ والتَّمَلُّصَ، لَكِنّهُ لا يستطيع. لِأنَ عِينَاهُ
أَلِفَتْ ظُلْمَةَ المَكَانِ. حَتى أنَّه أَصبَحَ يُحِبُّ مُدَاعَبَة الغِربِان، الَّتي تَقصِدُ المَكانَ مِن أجلِ بَقايا أطعِمَةِ العابِرينَ مِنهُم المُتَصَدِّقِينَ والشُمَّات..
فَتَزيدُ المَكانَ حِلْكَةٍ بِسَوادِها السَّرمَدي.
مُندُ سَنواتٍ وهوّ قابعٌ في مَكانِه.
كَمْ مٌنْ مُناسَبَةٍ مَرَّتْ عَليهِ وَأعيَاد عَاشها أَهلُ المَدينَةِ وفَرِحوا بِها..؟! وهوّ لاَ يَدرِكُها تَمامًا. لأنَّه فضَّلَ أن لا يَبرِحَ هذا المَكان أبدًا.
إنَّ الزَّمنَ عندهُ مُتَوّقِفٌ تَحتَ هذهِ الشَّجرة المَلعونَة.
مرّ عَليهِ وقتٌ مُعَسْعَسٍ بليلٍ طَويل...
غَلبه النُّعاسُ، اِستغرَقَ فِي نومٍ عَميقٍ...
لِيَستَفيقَ على مَنظَرٍ آخَر..
لَمْ تَعُدْ طيورُ الغِربانِ تَزورُ المَكانَ، لأنَّ َّالنَّوارسُ اِسترجَعَتْ مَكانَها.. وغيَّرتْ من لَونِ المَكان... وأصبَحَتْ تَأتِي أَسْرابًا كُلّ يَومٍ إلَى حوضِ الحَديقَةِ، اِقْتَرَبَتْ مِن مَكَانِه..
اِستَغْرَبَ !.. ولمْ يَستَوْعَبْ مَايَدورُ حَولَهُ...
أحسَّ بِشُعورٍ غَريبٍ يَنْتابُه.. وَهَزّات مُريبَة في أَعماقِهِ..
_أينَ هيَّ الطُّيور الَّتي أُلفْتُها ؟
_هل هيَّ هاتِه الّتي أرَاها ؟..
_لا..لا.. ليسَتْ هيَّ... شَتَّانَ بينَ هاتِه وتِلك !.
يَتَشجَّعُ ويَرغَبُ في رُؤيةِ المَزيدِ مِنها..
يَرى سِربًا في الجِهَةِ المُقابِلةِ هُناك.. في جَنَبَاتِ حوضِ المَاءِ. ومنْ خِلالٌهَا رأَى الفَضَاء المُحيطِ بهِ... اِتَّسَعتْ عيناهُ في ذهولٍ، ولمْ يَسْتَوعـَبْ مَايَدورُ حَوْلهُ.
أحَسَّ بِدوَارٍ في رَأْسِه.. وشُعور غَرِيب فِي دَواخِلهِ..
رَاحَ يَبحَثُ في لُجَجِ نَفْسِه المُضْطَرِبَة...
إنَّها لَحظَة التَّغيُّر والتَّحَوُّل العَميق...
يَرَى مُجمَّعَات فاخَرَة وصفوفا زاخِرَة من الأزْهَارِ والورودِ المُختَلِفَة الأَلْوَان والأشكَالِ.. في الحَديقَةِ نفسهَا.
تُسْمِعُهُ الطُّيُورُ بِمُختَلَفِ أجناسِهَا مَعزُوفَة الحَياةِ..
تَجذِبُهُ الحَديقةُ بِعِطْرِهَا إلَى مَدخَلِ المَدِينَةِ...
لِيَنْبَهِر بِأنوَارِها الخَلاَّبَةِ وشَوارِعِهَا الرّحْبَة.
فَتَطْمَئِنَ رَوْحَهُ، ويَتَشَبَّثَ بِلَمَعَانِها.
فَتَأخُدُهَ بِسِحْرِهَا إلـَى مَا لَا نِهَايَة مِنْ زُرْقَةِ الفَضَاءِ ونورُ الضِّيَاء.
عبد الحكيم قويدر
الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق