ـ { حدث ما توقعته ، فما إن استلم الإدارة ، ووضع
مؤخرته على كرسيها ، حتى أرسل بطلبي .
شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأن المدير ، لم ينتقل إلى
الشركة إلاّ من أجلي ، وأؤكد بأنه يعرف أني أعمل هنا ،
وإلاّ فمن أين علم بوجودي ؟!.. ليستدعيني بهذه
السرعة !.
نعم ... كنت محقا عندما فكرت بأن أقدم استقالتي ،
لن أدعه يشمت بي ، لن أعطيه فرصة للإنتقام ، سأقذف
استقالتي بوجهه فور دخولي ، واذا وجدت منه حركة أو
كلمة يمكن أن تسيء إليّ، سأصرخ بوجهه دون خوف :
ـ ما زلت بنظري .. ذلك الطفل .. ابن [ الزبال ] ، وإن
صرت مديرا كبيرا . } .
ولأنه مستاء من مديره الجديد ، ولأنه لا يكن له
سوى البغض ، فقد قرر أن لا يطرق الباب ، يرفض أن
يقف للاستئذان ، أمسك القبضة بعنف ، فتح بجلافة ، وما
إن أبصر المدير جالسا خلف طاولته ، حتى حدجه بنظرة
قاسية ، ممتلئة بالكره والتحدي .
نهض المدير بعجلة ، وابتسامة عذبة ترتسم على
شفتيه ، هاتفا بصوت كله صفاء :
ـ [ حسين ] !!.. أهلا وسهلا .. أهلا وسهلا .
تحرك من وراء طاولته ، ماداّ ذراعيه لملاقاة
[ حسين ] ، الذي أدهشته المفاجأة . للوهلة الأولى ، ظن
أن المدير يسخر منه ، وراح يقترب ببطء وحذر
شديدين ، غير مصدق أنه سيضمه إلى صدره ، حيث
سيلوث طقم المدير ببزته المتسخة .
تابع المدير ترحابه الحار ، بينما كان يقترب من
العامل المتجمد الملامح ، ليأخذه إلى صدره ، ويضمه
بقوة وشوق ، ثم ينهمر على خديه بالقبلات الحارة ،
ورغم هذا ظلّ [ حسين ] محافظا على صمته وجموده ،
وعادت عبارات الترحيب من المدير :
ـ أهلا [ حسين ] ، والله زمان .. كيف أحوالك ؟ .
ولأول مرة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن يحرك
شفتيه ، ويتمتم ببرود جاف :
ـ أهلا حضرة المدير .
قهقه المدير من هذه العبارة الرسمية ، بينما سيطر
الرعب على قلب [ حسين ] ، فأخذ يتراجع إلى الخلف ،
في حين امتدت يده إلى جيبه ، لتقبض أصابعه على
استقالته الجاهزة ، كسلاح يشهره بوجه المدير ، لكن
المدير اقترب ، ليقول بلهجة المعاتب :
ـ أي [ حضرة مدير ] يا [ حسين ] !!!.. ، أهكذا
تخاطبني ؟!.. سامحك الله ، نحن أخوة وأصدقاء .
لم يجد [ حسين ] ، سهولة في أن يطمئن لشخص
المدير هذا ، فهو يرى كل كلمة ينطقها ، أو حركة يقوم
بها ، سخرية منه ، لكنه في الوقت ذاته ، كان في منتهى
الحيرة والاندهاش ، لأنه يكاد يلمس الصدق من نبرات
صوت المدير ، ومن نظراته التي تفيض بالسعادة
والمودة ، وتساءل في أعماقه الحائرة :
ـ أهذا معقول !؟.. هل أصدقه وأطمئن إليه ؟!.. هل
نسي ما فعلته به ، ونحن أطفال ؟!.. أهو متسامح إلى
هذه الدرجة ؟!.. أم يكذب وينصب لي فخا ؟!.
ونتبه إلى صوت المديره يطلب منه الجلوس على
الكرسي الوثير . في البداية ارتبك ، وحاول الاعتذار ،
لكن الحاح المدير ، جعله ينصاع ، ويقترب ليجلس على
حافة الكرسي ، وكأنه يهم بالانزلاق .
لم يجلس المدير خلف طاولته ، بل جثم على كرسي
قبالته ، وبعد أن ربّت بيده على كتف [ حسين ] ، همس :
ـ مشتاق إليك يا [ حسين ] ... أكثر من عشرين سنة ،
ونحن لم نلتق .
فكر أن ينهض عن كرسيه ، ويرمي استقالته بوجه
صديقه ومديره ، ليخرج مسرعا من هذا المكتب ، لم يعد
يطيق مثل هذا العذاب ، فهو في أوج حيرته ، هل يأخذ
راحته مع صديقه المدير ، ؟؟؟ .. !!! .. أو يستمر في
حذره ومخاوفه ، إنه لا يملك دليلا واحدا ، ولو صغيرا ،
على أنّ المدير يسخر منه .
قدم المدير إليه لفافة تبغ ، وحين التقطها بأصابعه
الراعشة ، كان المدير قد أخرج قداحته ، وخيل إليه أن
المدير سيقوم باحراق [ شواربه ] الغزيرة ، جفل للوهلة
الأولى ، تراجع إلى الخلف ، لكنه أدرك أنه يبالغ في
مخاوفه ، فدنا ليشعل لفافته :
ـ تصور يا [ حسين ] لم أكن سعيدا باستلامي
الشركة ، إلاّ بعد أن قرأت اسمك بين أسماء الموظفين ..
أنا بصراحة انتقلت إلى هنا ، دون رغبة مني .
همس بسره ، بعد أن نفث دخان لفافته بأنفاس
متقطعة ، مضطربة :
ـ بالطبع ستكون سعيدا ، بوجودي ، فها أنت تقابلني
منتصرا ، من كان يصدق أنك ستكون مديرا عليّ ذات
يوم ؟؟؟!!!... أنا الذي كنت أهزأ منك في المدرسة
والأزقة .
ومرة أخرى .. يخرج من شروده ، على صوت
المدير :
ـ ماذا تحب أن تشرب ؟.
ـ أنا .. لا شيء .. شكراً .. ياحضرة المدير .
للمرة الأولى تنعقد الدهشة على وجه المدير ، وتذبل
ابتسامته :
ـ مابك يا [ حسين ] ؟!!.. لماذا تخاطبني بهذه
الطريقة ؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية ؟!.
حاول أن يجمع شتات قواه ، ليهتف بصوت حازم :
ـ نعم يا جناب المدير ، أتمنى أن تكون العلاقة بيننا
رسمية ، ورسمية جدا .
اتسعت الدهشة على وجه المدير المكتنز ، أرجع
رأسه ،وأرسل نظراته المستطلعة ، لتقرأ لاما يجول في
رأس صديقه القديم :
ـ [ حسين ] .. ماذا جرى لك ؟!.. أخبرني أرجوك ..
هل هناك ما يضايقك ؟!.
ولأنه مازال محتفظا ببقايا عزيمته ، قال :
ـ بصراحة ياحضرة المدير ، أنا حائر ، أكاد لا أفهمك ،
وأشك بأنك تسخر مني .
دهشت المدير بلغت ذروتها ، مما جعلته يهتف باستغراب
شديد :
ـ أنا أسخر منك !!!.. معاذ الله ... أنت صديق
طفولتي .
نهض عن الكرسي ، الذي لا يتناسب وبزته .. قائلا :
ـ أنا لا أنسى كيف كنت أعذبك ، وأسخر منك أيام الطفولة .
انفردت أسارير المدير ، وعادت إليه الإبتسامة :
ـ معقول يا [ حسين ] !!!.. هل تظنني حاقداً
عليك ؟؟؟.. كنا أطفالا .. اجلس ياصديقي .. اجلس ،
حدثني عن أحوالك ، وعن زوجتك ، وأولادك ، ثم أخبرني
إن كنت مرتاحا بعملك هنا ؟ .
قال المدير هذا الكلام ، في حين كانت يده ممتدة
نحو صديقه ، ليرغمه على الجلوس .
همس [ حسين ] بتلعثم واضحخ :
ـ أنا خجل منك .. ومن نفسي ، لقد كنت طفلاً
شريراً ، عذبتك كثيرا ، وأهنتك .
نظر المدير صوب صديقه بحنانٍ ومودة :
ـ هل تصدق ، إني أحن إلى أيام الطفولة تلك ، أنت
صاحب فضل عليّ ، فلولا سخرياتك مني ، ومن والدي
عامل التنظيفات ، لما تابعت تعليمي ، كنت أنت بمقالبك
المريرة دافعي للتحدي والدراسة .
في تلك اللحظة ، طفرت من عيني [ حسين ] دمعتان
صغيرتان حارتان ، قفز ليحتضن صديقه ، الذي طالما
أمعن في تعذيبه ، همس بصوت تخنقه العبرات :
ـ أنت عظيم يا [ عبد الجليل ] ، طوال عمرك كنت
أفضل مني ، أرجوك سامحني .
تربعت الدهشة على وجه الآذن ، وهو يدخل حاملاً
القهوة ، لقد رأى المدير الجديد المفرط في أناقته ، يعانق
العامل [ حسين ] ، ذي البزة القذرة ، المتسخة ، وكانا
ذاهلين عنه ، في عناق طويل .
مصطفى الحاج حسين
حلب
مؤخرته على كرسيها ، حتى أرسل بطلبي .
شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأن المدير ، لم ينتقل إلى
الشركة إلاّ من أجلي ، وأؤكد بأنه يعرف أني أعمل هنا ،
وإلاّ فمن أين علم بوجودي ؟!.. ليستدعيني بهذه
السرعة !.
نعم ... كنت محقا عندما فكرت بأن أقدم استقالتي ،
لن أدعه يشمت بي ، لن أعطيه فرصة للإنتقام ، سأقذف
استقالتي بوجهه فور دخولي ، واذا وجدت منه حركة أو
كلمة يمكن أن تسيء إليّ، سأصرخ بوجهه دون خوف :
ـ ما زلت بنظري .. ذلك الطفل .. ابن [ الزبال ] ، وإن
صرت مديرا كبيرا . } .
ولأنه مستاء من مديره الجديد ، ولأنه لا يكن له
سوى البغض ، فقد قرر أن لا يطرق الباب ، يرفض أن
يقف للاستئذان ، أمسك القبضة بعنف ، فتح بجلافة ، وما
إن أبصر المدير جالسا خلف طاولته ، حتى حدجه بنظرة
قاسية ، ممتلئة بالكره والتحدي .
نهض المدير بعجلة ، وابتسامة عذبة ترتسم على
شفتيه ، هاتفا بصوت كله صفاء :
ـ [ حسين ] !!.. أهلا وسهلا .. أهلا وسهلا .
تحرك من وراء طاولته ، ماداّ ذراعيه لملاقاة
[ حسين ] ، الذي أدهشته المفاجأة . للوهلة الأولى ، ظن
أن المدير يسخر منه ، وراح يقترب ببطء وحذر
شديدين ، غير مصدق أنه سيضمه إلى صدره ، حيث
سيلوث طقم المدير ببزته المتسخة .
تابع المدير ترحابه الحار ، بينما كان يقترب من
العامل المتجمد الملامح ، ليأخذه إلى صدره ، ويضمه
بقوة وشوق ، ثم ينهمر على خديه بالقبلات الحارة ،
ورغم هذا ظلّ [ حسين ] محافظا على صمته وجموده ،
وعادت عبارات الترحيب من المدير :
ـ أهلا [ حسين ] ، والله زمان .. كيف أحوالك ؟ .
ولأول مرة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن يحرك
شفتيه ، ويتمتم ببرود جاف :
ـ أهلا حضرة المدير .
قهقه المدير من هذه العبارة الرسمية ، بينما سيطر
الرعب على قلب [ حسين ] ، فأخذ يتراجع إلى الخلف ،
في حين امتدت يده إلى جيبه ، لتقبض أصابعه على
استقالته الجاهزة ، كسلاح يشهره بوجه المدير ، لكن
المدير اقترب ، ليقول بلهجة المعاتب :
ـ أي [ حضرة مدير ] يا [ حسين ] !!!.. ، أهكذا
تخاطبني ؟!.. سامحك الله ، نحن أخوة وأصدقاء .
لم يجد [ حسين ] ، سهولة في أن يطمئن لشخص
المدير هذا ، فهو يرى كل كلمة ينطقها ، أو حركة يقوم
بها ، سخرية منه ، لكنه في الوقت ذاته ، كان في منتهى
الحيرة والاندهاش ، لأنه يكاد يلمس الصدق من نبرات
صوت المدير ، ومن نظراته التي تفيض بالسعادة
والمودة ، وتساءل في أعماقه الحائرة :
ـ أهذا معقول !؟.. هل أصدقه وأطمئن إليه ؟!.. هل
نسي ما فعلته به ، ونحن أطفال ؟!.. أهو متسامح إلى
هذه الدرجة ؟!.. أم يكذب وينصب لي فخا ؟!.
ونتبه إلى صوت المديره يطلب منه الجلوس على
الكرسي الوثير . في البداية ارتبك ، وحاول الاعتذار ،
لكن الحاح المدير ، جعله ينصاع ، ويقترب ليجلس على
حافة الكرسي ، وكأنه يهم بالانزلاق .
لم يجلس المدير خلف طاولته ، بل جثم على كرسي
قبالته ، وبعد أن ربّت بيده على كتف [ حسين ] ، همس :
ـ مشتاق إليك يا [ حسين ] ... أكثر من عشرين سنة ،
ونحن لم نلتق .
فكر أن ينهض عن كرسيه ، ويرمي استقالته بوجه
صديقه ومديره ، ليخرج مسرعا من هذا المكتب ، لم يعد
يطيق مثل هذا العذاب ، فهو في أوج حيرته ، هل يأخذ
راحته مع صديقه المدير ، ؟؟؟ .. !!! .. أو يستمر في
حذره ومخاوفه ، إنه لا يملك دليلا واحدا ، ولو صغيرا ،
على أنّ المدير يسخر منه .
قدم المدير إليه لفافة تبغ ، وحين التقطها بأصابعه
الراعشة ، كان المدير قد أخرج قداحته ، وخيل إليه أن
المدير سيقوم باحراق [ شواربه ] الغزيرة ، جفل للوهلة
الأولى ، تراجع إلى الخلف ، لكنه أدرك أنه يبالغ في
مخاوفه ، فدنا ليشعل لفافته :
ـ تصور يا [ حسين ] لم أكن سعيدا باستلامي
الشركة ، إلاّ بعد أن قرأت اسمك بين أسماء الموظفين ..
أنا بصراحة انتقلت إلى هنا ، دون رغبة مني .
همس بسره ، بعد أن نفث دخان لفافته بأنفاس
متقطعة ، مضطربة :
ـ بالطبع ستكون سعيدا ، بوجودي ، فها أنت تقابلني
منتصرا ، من كان يصدق أنك ستكون مديرا عليّ ذات
يوم ؟؟؟!!!... أنا الذي كنت أهزأ منك في المدرسة
والأزقة .
ومرة أخرى .. يخرج من شروده ، على صوت
المدير :
ـ ماذا تحب أن تشرب ؟.
ـ أنا .. لا شيء .. شكراً .. ياحضرة المدير .
للمرة الأولى تنعقد الدهشة على وجه المدير ، وتذبل
ابتسامته :
ـ مابك يا [ حسين ] ؟!!.. لماذا تخاطبني بهذه
الطريقة ؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية ؟!.
حاول أن يجمع شتات قواه ، ليهتف بصوت حازم :
ـ نعم يا جناب المدير ، أتمنى أن تكون العلاقة بيننا
رسمية ، ورسمية جدا .
اتسعت الدهشة على وجه المدير المكتنز ، أرجع
رأسه ،وأرسل نظراته المستطلعة ، لتقرأ لاما يجول في
رأس صديقه القديم :
ـ [ حسين ] .. ماذا جرى لك ؟!.. أخبرني أرجوك ..
هل هناك ما يضايقك ؟!.
ولأنه مازال محتفظا ببقايا عزيمته ، قال :
ـ بصراحة ياحضرة المدير ، أنا حائر ، أكاد لا أفهمك ،
وأشك بأنك تسخر مني .
دهشت المدير بلغت ذروتها ، مما جعلته يهتف باستغراب
شديد :
ـ أنا أسخر منك !!!.. معاذ الله ... أنت صديق
طفولتي .
نهض عن الكرسي ، الذي لا يتناسب وبزته .. قائلا :
ـ أنا لا أنسى كيف كنت أعذبك ، وأسخر منك أيام الطفولة .
انفردت أسارير المدير ، وعادت إليه الإبتسامة :
ـ معقول يا [ حسين ] !!!.. هل تظنني حاقداً
عليك ؟؟؟.. كنا أطفالا .. اجلس ياصديقي .. اجلس ،
حدثني عن أحوالك ، وعن زوجتك ، وأولادك ، ثم أخبرني
إن كنت مرتاحا بعملك هنا ؟ .
قال المدير هذا الكلام ، في حين كانت يده ممتدة
نحو صديقه ، ليرغمه على الجلوس .
همس [ حسين ] بتلعثم واضحخ :
ـ أنا خجل منك .. ومن نفسي ، لقد كنت طفلاً
شريراً ، عذبتك كثيرا ، وأهنتك .
نظر المدير صوب صديقه بحنانٍ ومودة :
ـ هل تصدق ، إني أحن إلى أيام الطفولة تلك ، أنت
صاحب فضل عليّ ، فلولا سخرياتك مني ، ومن والدي
عامل التنظيفات ، لما تابعت تعليمي ، كنت أنت بمقالبك
المريرة دافعي للتحدي والدراسة .
في تلك اللحظة ، طفرت من عيني [ حسين ] دمعتان
صغيرتان حارتان ، قفز ليحتضن صديقه ، الذي طالما
أمعن في تعذيبه ، همس بصوت تخنقه العبرات :
ـ أنت عظيم يا [ عبد الجليل ] ، طوال عمرك كنت
أفضل مني ، أرجوك سامحني .
تربعت الدهشة على وجه الآذن ، وهو يدخل حاملاً
القهوة ، لقد رأى المدير الجديد المفرط في أناقته ، يعانق
العامل [ حسين ] ، ذي البزة القذرة ، المتسخة ، وكانا
ذاهلين عنه ، في عناق طويل .
مصطفى الحاج حسين
حلب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق