⏬⇽
كنت متباهية بثوبي المخملي الأحمر ، أذكر أن أمي اشترت قطعة قماش المخمل من جارتنا أم خليل التي كانت تزور مدينة القدس بمناسبة عيد الميلاد على زمن “بوابة مندلبوم ” كانت أم خليل تقول لأمي ” حجة وفرجه ” وفعلاً عندما كانت تعود من زيارة الأماكنالمقدسة و اقاربها في مدينة القدس ، كان أول عمل تقوم به في اليوم التالي اللف على بيوت الحارة وتسليم كل بيت البضاعة التي قاموا بطلبها ، وكانت البضائع غالباً تتميز بالصحون الخزفية و فناجين القهوة و أقمشة من المخمل والحرير والسيتان، خاصة للعرائس ،لأن مثل هذه الأقمشة تكاد أن تكون مفقودة ، عدا عن الأقلام والساعات والمظلات الرجالية السوداء .
كانت عودة أم خليل تحمل أشواق الذين خرجوا من الوطن ولم يستطيعوا الرجوع إليه ، لكن الأشواق لرؤية البضائع كانت تحمل لهفة الحرمان التي نعيشها .
لذلك كان فستان المخمل الأحمر بالنسبة لطفلة في الخامسة هو كنزها الذي امتلكته في يوم العيد ، بعد أن قامت بخياطته عند ” سندورة ” المرأة السمينة التي كانت تسكن في الطابق الأرضي في بناية تابعة للمستشفى الفرنسي في الناصرة أو كما كانوا يطلقون عليها بناية ” راهبات المحبة ” .
انتظرت صباح العيد بلهفة وشوق ، الفستان الأحمر المعلق أمامي يرسل نظراته الي ويطالب بلمسي، وكلما اقتربت منه ابتعدت خوفاً من أن يتلوث ، وعندما ارتديته تجسدت بهجة الطفولة في المرآة التي حملت صورتي المزنرة بتوهج الفرح .
في الطريق المختصرة الى بيت جدي ، حيث كانت الطريق المختصرة أسهل علي من الشارع الرئيسي المليء بالسيارات ، كنت أجمع في عقلي كم من القروش ستكون بحوزتي عند رجوعي الى البيت ، أجمع وأطرح ، والأيدي التي ستمتد الى الجيوب أو تفتح الجزادين ، وتذكرت جدتي التي كانت تمد يدها حتى اقبلها قبل أن تناولني العيدية ، مع أن قبلة اليد كانت تغيظني لأنني كنت أشعر أن جدتي تحب تقبيل يدها من باب حب السيطرة ، وقلت في نفسي ما دامت هذه عادتها فعلي أن أقبل اليد حتى أكسب العيدية .
وفجأة برزت من طريق جانبي امرأة لا أعرفها ، ضخمة الجثة وشعرها المبلول بالمياه ما زال ينقط فوق فستانها الممزق ، وقفت لم أستطع التحرك ، شعرت بثقل في خطواتي ، وتذكرت أنني سمعت عن هذه المرأة المجنونة من نساء الحارة، ولطالما رددوا أمامي أسمها ” خيرية ” .
لم التفت اليها ، حاولت الاستمرار في طريقي ، لكن المرأة اقتربت مني وانهالت علي بالضرب دون سبب ، هربت منها ولجأت إلى شجرة صبار كانت مزروعة على جانب الطريق ، شعرت بالشوك يغرس في جسمي ، لاحقتني الى شجرة الصبار وأخذت تضربني بشدة وانا أصرخ وازداد صراخي عندما رأيت فستاني المخمل قد تمزق ، و”التنتنا” التي تزين اطراف الفستان تمزقت ، ورأيت المرأة تمسك بطرف التنتنة وتشدها حتى نزعتها من مكانها ، ورغم صراخي لم يأت أحد لنجدتي .
من بعيد رأيت امرأة تصرخ عليها وتناشد أحد الرجال بتخليصي من تلك المجنونة ، فتقدم الرجل وأمسكها وطلب مني الهرب .
رجعت إلى البيت، ما أن رأتني أمي بهذه الحالة حتى جن جنونها ، وأخذت تفتش في جسمي عن الضربات واللكمات وتحاول نزع الشوك الملتصق بجسدي ، لكن أنا نسيت الضرب والشوك المتغلغل والذي ينخزني ، فقط كان بكائي على فستاني الأحمر الذي كان بالنسبة لي عيداً حقيقياً للمباهاة بين البنات .
أذكر أنني رافقت والدتي إلى عائلة المرأة المجنونة الذين اعترفوا أن أبنتهم هربت سراً إلى الطريق ، مع أنهم طوال الوقت يربطونها بحبل خوفاً من الهرب ، لكن حظي السيء أوقعني بين يديها ، وأخذ الأب يعتذر والأم تدعو الله كي يأخذ ابنتها حتى ترتاح ، فهي بالنسبة لهم فضيحة ، حيث بين فترة وأخرى تهرب الى الطريق ، وتضرب المارة ،هناك من يتصدى لها ويضربها ، وهناك من يفلت منها ويهرب ، لكن أنا كنت ضحيتها لأنني صغيرة و من صعب الإفلات من قبضتها .
امام العيون البائسة الحزينة لعائلة المرأة المجنونة والحيرة التي تمددت على ملامح الأم التي كانت تشعر بالذنب لأنها أنجبتها ، أما الأب فقد كان العجز ظاهراً على يده المرتعشة والسيجارة التي تتوسط أصابعه ، والتي يتآكل رمادها ويسقط على الأرض قبل أن يضعها على شفتيه .
أخذت أمي تعدد قيمة فستان المخمل الأحمر الذي اشترته خصيصاً من مدينة القدس ، وقيمة خياطته عند ” سندورة ” فقد كلفها الكثير ، والأب يهز برأسه والأم ترسم فوق ملامحها الحيرة من هذا البلاء الذي وقع عليهم في يوم العيد .
وبينما هم يتحدثون دخل جدي الذي جاء بسرعة بعد أن سمع بما حدث لي، وأخذ يلوم والدتي التي جاءت لعتاب أهل الفتاة .
صافح جدي والد المرأة المجنونة وتمنى له عيداً مباركاً ، عندما خرجنا قال جدي لوالدتي :
– الا يكفي أن ابنتهم مجنونة وتسبب لهم المشاكل ؟؟ الله يساعدهم ..!
رفضت أمي الاصغاء له .. وقالت :
– اذا مجنونة عليهم ربطها ، حتى لا تتعرض لحدا !
ناولني جدي العيدية .. ليرة كاملة .. فرحت بها .. وقال لي أنه سيأتي بعد الظهر مع أخوالي لكي يقوموا بمعايدة أمي ، وبالطبع معايدتي ستكون قبل معايدة أمي !
رجعت الى البيت بعد أن أقنعتني أمي بأن أبقى في البيت ، وفي الغد ستأخذ الفستان عند الخياطة وتحاول إصلاحه .
بعد الظهر كنا ننتظر جدي وأخوالي .. وفجأة سمعنا أصواتاً وضجيجاً ، فقد هاجمت المرأة المجنونة جدي ، ولولا خالي الذي استطاع تخليصه من بين يديها ، بعد أن تمزق القمباز وتمزقت الحطة ونثرت خيطان العقال .. لكانت الضربات قضت على جدي الذي كان يعاني من عدة أمراض .
بعد سنوات طويلة سمعت ان المرأة المجنونة قد تزوجت من رجل غريب يعيش خارج البلدة، وكان والدها قد كتب لها في وصيته عدة دونمات من ارض تقع في مدخل البلدة ، ولم أعد اسمع عنها شيئاً .. حتى رأيتها على شاشة التلفزيون من خلال احد البرامج التي تدور حول بيوت العجزة والمسنين ، فقد كانت تعاني من الوحدة ، فلا أحد يزورها ، وأولادها ابتعدوا عنها ، كانت تتكلم بهدوء وحزن ومرارة امرأة تواجه ظلم الحياة .. اشفقت عليها ونسيت فستان المخمل الأحمر .
*شوقية عروق منصور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق