⏪⏬عند مدخل منطقة مقابر الدراسة شرق القاهرة، أوقف طالب أجنبي شابا وسأله عن مكان مقبرة الشيخ عبد الواحد يحيى، وصفها الشاب بكل سهولة، فهذا السؤال يبدو مكررا.
في مقابر الدراسة، يرقد جثمان الشيخ عبد الواحد يحيى. قبر متواضع، يحيطه سور مرتفع قليلا، عليه زخارف إسلامية بسيطة.
في هذا القبر يرقد رجل طلبت الحكومة الفرنسية منذ سنوات نقل مكتبته الخاصة إلى فرنسا حفاظا عليها، إلا أن العائلة رفضت. يقول عبد الواحد، الابن الأصغر للشيخ عبد الواحد يحيى ويحمل نفس اسمه: “قديما طلبت الحكومة الفرنسية نقل مكتبة الوالد إلى فرنسا لكننا رفضنا، الوالد ترك وصية بأن تبقى مكتبته في القاهرة، ونحن نفذناها“.
وتابع: الحفاظ على المكتب والكتب كانت وصيته، كان يردد: “طالما مكتبي موجود، أنا موجود في هذا المكان، ونحن نعتقد أنه لا زال بيننا طالما كتبه موجودة هنا”.
من هو صاحب المقام؟
كان اسمه رينيه جينو، صار اسمه عبد الواحد يحيى، وما بين رينيه وعبد الواحد طريق طويل، لم يخل من منحنيات ومطبات وأسئلة وشكوك.
ولد رينيه في قرية صغيرة تقع على ضفاف نهر اللوار في فرنسا، وانتهى به الحال إلى مقبرة صغيرة بالعاصمة المصرية القاهرة، يزورها أجانب من كل بقاع الدنيا، أغلبهم علماء وباحثين وطلاب في علوم الفلسفة أو التصوف الإسلامي. في يناير من كل عام يتذكر العالم هذا الفيلسوف الكبير الذي أحدثت كتبه وأفكاره جدلا كبيرا في الغرب.
الرحلة التي بدأها رينيه وانتهت إلى عبد الواحد، تستحق أن تحكى، خاصة وأن هناك من العرب والمسلمين لا يعرفون الكثير عن الرجل الذي أحدث، ولا زال، ضجة كبيرة في العالم.
توفي الشيخ عبد الواحد عام 1951، وتحديدا في 7 يناير/ كانون الثاني، وفي جنازة متواضعة دفن إلى جوار شيخه وحماه الشيخ محمد إبراهيم. غير أن هذه الجنازة المتواضعة قابلها اهتمام كبير في الغرب.
الرحلة الأولى لرينيه
ولد رينيه ببلدة بلوا الفرنسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 1886، لأسرة فرنسية كاثوليكية محافظة، والده يعمل مهندسا معماريا ميسور الحال.
تميز رينيه منذ طفولته بذكاء حاد، لكنه كان يعاني من مشاكل صحية حالت دون التحاقه بالمدرسة. تولت عمته “دورو” تعليمه القراءة والكتابة حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، ثم حصل على البكالوريا في الرياضيات المتخصصة.
وفي سن السادسة عشرة بدأت أولى رحلات رينيه من قريته الواقعة على ضفاف النهر “اللوار” على بعد 172 كم من باريس، ولم يكن يعلم وقتها أن هذه الرحلة الجغرافية ستغير مصيره، وسيبدأ بعدها رحلة فكرية طويلة.
التحق في باريس بكلية “رولان” ليحصل على شهادة الليسانس في شعبة الفلسفة، ونالها سنة 1904، بعد أن نال جوائز عدة كانت تُمنح للمتفوقين من أمثاله.
كانت باريس في هذه الفترة، بحر زاخر من الأفكار والآراء، وبستانا ممتلئ بالثقافة باختلاف جنسياتها تطرح ثمارها الفكرية من كل نوع ولون.
مدينة الأحلام الفرنسية “باريس”، كانت تعتنق كل يوم مذاهب جديدة تخترعها أو تستوردها فإلى جانب الجماعات الماسونية، كانت تنمو وتنتشر جماعات تعتنق الديانات الآسيوية من بوذية وهندوسية وغيرها. مر رينيه عليها جميعا مرور الباحث عن طريق الهداية.
يقول هنري فوهر، وهو أحد المتخصصين في فكر رينيه، إنه “في هذه الفترة كان يصارع ذاته وفكره باحثاً عن حقيقة وحيدة تجعله يشعر بالهداية، كان ينظر إلى رمزية الديانات الآسيوية وتسامحها وكان يدرس كل الرموز الروحانية فيها حتى تعمّق في التصوف الإسلامي ووجد أن كل هذه الرموز تتضاءل أمام رموز الصوفي المسلم والذي قد يتخذ الحب والتسامح منهجا”، بحسب مقال نشر في صحيفة “الرؤية”.
في باريس التقى رينيه شخصيات من الشرق والغرب، علماء ومفكرين وفلاسفة وروحانيين ومشعوذين.
رينيه يتلمس طريق الحق
جاء رينيه إلى باريس، مع بدايات القرن العشرين، هذه البداية التائهة في متاهات فرويد الليبدوية، ووجودية سارتر، و مادية ماركس، وهي كذلك الفترة التي تسمى في تاريخ الفلسفة “مرحلة انتهاء الفلسفات الكبرى” وهي المرحلة التي بدأت مع ديكارت، وكان العالم على موعد مع مرحلة جديدة بدأها الفيلسوف الإنجليزي، جورج مور، بدعوته إلى تفكيك الإرث الفكري الذي تراكم على مر عصور.
كانت دعوة مور خالية من أي يقين أو طمأنينة فكرية وهو ما أدى إلى بحث الكثيرين عن هذا اليقين بعيدا عن الفلسفة، في هذه الفترة كان في باريس ما تسمى “الجمعيات السرية” وهي الجمعيات التي تدعي امتلاكها لحقائق ميتافيزيقية وطرق معرفية كشفية لا يملكها غيرهم، وجماعات ما تعرف بالجمعيات “الثيوصوفية”، انغمس رينيه في تلك الجماعات، وتعرف عليها واحدة تلو الأخرى، وتدرج في رتبها الكهنوتية وسطع نجمه وسط أعضائها، إلا أنه بعد قليل توصل إلى زيف وسطحية ما تنادي به هذه الجمعيات، وكتب في نقدها كتابين هما “الثيوصوفية.. تاريخ إحدى الديانات المزيفة”، وكتاب “أوهام الروحانيين”.
اعتناق الإسلام
ما بين عامي 1906 و1909 تعرض رينيه لكثير من الأفكار، ففي عام 1906 خالط المدرسة الحرة للدراسات الغيبية “ليابوس”، وانتقل إلى منظمات أخري كالمارتينية والماسونية التابعة للطقس المعروف باسم الطقس الإسباني، وفي عام 1908 انضم إلى المحفل الماسوني الكبير في فرنسا، كما انضم إلى الكنيسة “الغنوصية”، وهي كنيسة قائمة على المعرفة من أجل الوصول والرقي لمعرفة الله، (أي قائمة على عكس الكنيسة السائدة التي تؤمن بتجسد الله في هيئة بشر)، وفي نفس هذه الفترة التقى بالعديد من الشخصيات التي سمحت له بتعميق معرفته بمذهب الطاوية الصيني وبالإسلام، وجاء عام 1912 لتتبدل حياته رأسا على عقب.
في هذا العام قرر رينيه اعتناق الديانة الإسلامية، بعد دراسة مستفيضة له، ودخل رينيه الإسلام عن طريق الفنان السويدي “أيون غوستاف آغلي” الذي أسلم قبل رينيه وغير اسمه إلى عبد الهادي وتصوف على يد الشيخ عبد الرحمن عليش، وأصبح رينيه معروفا باسم “عبد الواحد يحيى”، وتلقى العهد مناولة من الشيخ “عليش”، على يد “عبد الهادي” في باريس، (العهد طقس عند المسلمين الصوفية يعني ارتباط بين الشيخ والمريد)، وكان عبد الهادي من المنشغلين بالشيخ الصوفي محي الدين بن عربي، فتأثر الشيخ عبد الواحد بعبد الهادي، ودرس فكر ابن عربي، والذي يعد أحد أشهر المتصوفين ويلقبه أتباعه وغيرهم من الصوفيين “بالشيخ الأكبر”، وتُنسب إليه الطريقة “الأكبرية” الصوفية.
وتزوج الشيخ عبد الواحد في العام ذاته 1912 من فتاة فرنسية، وفي 1917 عين أستاذا للفلسفة في الجزائر لمدة عام ثم عاد إلى باريس، وعين في مدرسة بلدته، ولكنه استقال بعد عام قضاه في التدريس ليتفرغ لأبحاثه، وأصدر كتابه الشهير “مدخل لدراسة العقائد الهندية”.
وفي عام 1925 ألقى الشيخ عبد الواحد يحيى محاضرة في جامعة السوربون تحت عنوان: “الميتافيزيقا الشرقية” وضح فيها الفرق بين الشرق والغرب في المجال الغيبي.
وأشار إلى أن الميتافيزيقا واحدة، لا شرقية ولا غربية، مثلها مثل الحقيقة الخالصة، إلا أنه يختلف مفهومها أو يختلف تناولها في كل من الشرق والغرب، واختياره لعبارة (شرقية) يعني به دراسة المجال الغيبي في الشرق بعامة؛ فالحضارات الشرقية مستمرة بنفس تواصلها، وهي ما زالت تعد الممثل المختص الذي يمكن اللجوء إليه للتزود بالمعلومات الحقة؛ وذلك لأن الحضارات الغربية تفتقد هذه الأصول الممتدة.
انتقاله للإقامة في القاهرة
وفي عام 1930 عرضت إحدى دور النشر على الشيخ عبدالواحد أن يذهب للقاهرة للعمل على مشروع ضخم حول التصوف الإسلامي من واقع الطرق الصوفية في القاهرة، ووقتها كانت زوجته ووالدته قد توفيا، فجاء الشيخ عبدالواحد إلى القاهرة، وعاش في حي الحسين، وارتدى الزي الأزهري، وتعرف بالشيخ محمد إبراهيم أحد مشايخ الأزهر الشريف، ورفض العودة إلى فرنسا حتى بعد أن ألغت دار النشر مشروعها عن التصوف.
ولم يتوقف الشيخ عبد الواحد، أثناء تواجده في القاهرة، عن تواصله مع الأوساط الثقافية الفرنسية، بل كان يراسل مجلة “الدراسات النقلية” بباريس، وينشر بها مقالاته الفكرية والنقدية.
في القاهرة تزوج من ابنة الشيخ محمد إبراهيم وانتقل ليعيش في حي الدقي، وأنجب منها أبناءه خديجة وليلي وأحمد وبعد أن توفي بأربعة شهور أنجبت زوجته ولداً أسمته عبدالواحد.
الشيخ رينيه يتحدث عن الصوفية
ألقى الشيخ عبد الواحد محاضرة في جامعة السوربون لتوضيح معنى التصوف، ولوصف مجال التصوف، قال إن “التصوف يعنى معرفة المبادئ الكونية، وإن كان هذا التعريف لا يُعطي إلا فكرة مبهمة أو عامة إلى حد ما، وإن هذا المجال يمتد إلى أبعد بكثير مما يتصوره بعض الغربيين، فعندما حاول أرسطو تعريف مجال ما وراء الطبيعة على أنه معرفة الإنسان كإنسان شبهه بعلم الكائنات، أي أنه أخذ الجزئية على أنها تعنى الكل“.
وأضاف: “أما بالنسبة لمجال ما وراء الطبيعة أو التصوف في الشرق، فإن الكائن الصافي ليس أول المبادئ ولا أكثرها عالمية أو كونية؛ لأنه يعد بمثابة تحديد، في المقصود هو التوصل إلى ما هو أبعد من الكائن المحدد، وذلك هو الأهم في الموضوع؛ لذلك عند استخدام عبارة ما وراء الطبيعة يجب دائما أن نحفظ جزءًا في التعريف لما لا يمكن تعريفه كالفرق بين كلمة النهائي بمعنى المنتهى، أيا كانت عظمته وكبره، وكلمة اللانهائي، فكل هذه الأشكال سواء أكانت كلمات أم رموز لا تمثل إلا دعامة أو نقطة ارتكاز للارتقاء إلى إمكانات مفاهيم تتخطاها بكثير، والأمر لا يتعين بعمل مجردات معينة، وإنما بالتوصل إلى معرفة مباشرة من الحقيقة كما هي”.
وتابع الشيخ عبد الواحد: “فالعلم هو المعرفة العقلانية الاستدلالية غير المباشرة، إنه معرفة عن طريق الانعكاس، أما مجال ما وراء الطبيعة أو التصوف فهو المعرفة فوق العقلانية، الحدسية والمباشرة، وهذا الحدس الفكري الصافي الذي بدونه لا يوجد تصوف حقيقي، لا يجب أن نخلط بينه وبين الإلهام بالمعنى الذي يتحدث به بعض الفلاسفة المعاصرين؛ لأن ذلك الإلهام الذي يتحدثون عنه هو على العكس دون العقلانية، فهناك حدس فكرى وحدس فعلى، أحدهما يتخطى المنطق والآخر من دونه، وهذا الأخير لا يمكنه إدراك إلا العالم المتغير أي الطبيعة، أو بمعنى أدق جزء ضئيل منها، أما مجال الحدس الفكري فعلى العكس من ذلك فهو مجال المبادئ الخالدة التي لا تتزحزح، إنه مجال ما وراء الطبيعة أو مجال التصوف”.
أزمة العالم الحديث
واحد من أهم الكتب التي أنتجها الشيخ عبد الواحد يحيى، “أزمة العالم الحديث” (1927) يتكون من تسعة فصول تدور حول محورين، تناولها الشيخ عبد الواحد في مقدمة الكتاب؛ الأول: “أن هذه الحضارة التي يتبجح بها المحدثون لا تحتل مكانة مميزة في تاريخ العالم، وأنه من الممكن أن تلقى المصير نفسه لحضارات أخرى اختفت عبر أزمنة تتفاوت في قدمها، وأن بعضها لم يخلف سوى أثار ضئيلة وبقايا تكاد لا ترى أو لا يمكن التعرف عليها إلا بصعوبة”.
والمحور الثاني أنه “ليس من سبب للاكتفاء بأن نتلقى بشكل سلبي الفوضى والظلام الذي يبدو للحظات أنه انتصار”.
الأديان في فكر الشيخ عبد الواحد
الكاتب عمر بركات، كتب في جريدة “القاهرة”، الأسبوعية الثقافية في 2008، مطالبا وزارة الثقافة المصرية بالتوجه إلى ترجمة أعمال الشيخ “عبد الواحد”، لافتا إلى أن أعمال الشيخ عبد الواحد ترجمت إلى كل لغات العالم.
لافتا إلى أن الشيخ عبد الواحد قام بهذا التوفيق من خلال محورين: الأول، فهمه الخاص لحقيقة الأديان، والثانى، من رفضه الكامل للحضارة المادية الحديثة.
وقال بركات إن ما مر به رينيه تترجم أزمة العقل الحديث فى التوفيق بين الأديان، والحضارة المادية.
وأشار بركات إلى أن فكرة الأديان عند الشيخ عبد الواحد يراها جميعا متكاملة ولكن ليس فى ظاهرها، وإنما يأتى التكامل من خلال المعرفة الباطنية فى جميع الأديان، وكلها موصلة للحقيقة الإلهية، ويتميز عنده الإسلام فى كون نبيه كان رمزا صوفيا خالصا له تجربته الذاتية الشديدة الخصوصية، تلك التجربة هى التى تم تأويلها ظاهرياً فأخرجت الشريعة الإسلامية، فالصوفية في الإسلام هي علم الباطن الذى خرج منه علم الظاهر، وليس كما يشاع أن الصوفية هى البحث عن تأويل باطني لعلم الظاهر”الشريعة”.
ويقول بركات إن هذا ما دفع الشيخ عبد الوحد إلى أن يهجر الطرق الملتوية للفلسفة الوجودية، ويدخل إلى الفضاء المجرد، فالله فى الإسلام لا يوصف، ولا يمثل بشىء.
وتابع: “أما موقفه من الحداثة والمادية، فيرى أن المادية كان لها مبرراتها إلا أنها أوصلتنا إلى التعايش اليومى مع ألم الخواء الروحى، وجحيم الغربة الإنسانية، فى زمن الابتذال المادى، وقيم السوق، وثقافة الجنس، وأصبحت السيادة للمزيف، وتراجع الحقيقى إلى ما وراء الأفق”.
وبشكل عام كتب الشيخ عبد الواحد عن التصوف والجماعات الصوفية فكتب: “ربما كانت العقيدة الإسلامية، من بين العقائد الموروثة، هي العقيدة التي يظهر فيها بوضوح التفرقة بين جزئين متكاملين هما؛ الظاهر، والباطن، أعني “الشريعة” وهي الباب الذي يدخل فيه الجميع، و”الحقيقة”، ولا يصل إليها إلا المصطفون الأخيار، وهذه التفرقة ليست تحكمية، وإنما تفرضها طبيعة الأشياء، مع أن الباطن لا يعني فقط الحقيقة، وإنما يعني كذلك السبل الموصلة إليها، أعني الطرق التي تعود بالإنسان من الشريعة إلى الحقيقة، والطرقية والحقيقة مجتمعتان يطلق عليهما “التصوف”، والتصوف ليس مذهباً لأنه الحقيقة المطلقة، والطرق ليست مدارس مختلفة، لأنها طرق، أي سبل موصلة جميعها إلي الحقيقة المطلقة، والتصوف ليس شيئاً أضيف إلى الإسلام، وإنما هو جزء جوهري من الإسلام”.
دراسة عن فكر الشيخ عبد الواحد
و دراسة كتبها الباحث والمفكر محمد عادل شريح، باسم “رينيه جينو والتقليدية التكاملية“، جاء فيها أن رينيه أكد على انقسام التعاليم التقليدية إلى تعاليم ظاهرة و أخرى باطنة، حيث يأخذ هذا الانقسام أشكالاً مختلفة في المنظومات التقليدية المختلفة.
ولفت شريح، وهو حاصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة الصداقة إلى أن رينيه يرى أن التعاليم الباطنية لمختلف الأديان قريبة من بعضها إلى أبعد الحدود، وأن الإقرار بالحقيقة الباطنية لا يعني إهمال و تجاهل التعاليم الظاهرية لأي دين من الأديان لأن هناك ترابطاً و تكاملاً في ما بين الباطن والظاهر.
من أقوال رينيه
ومن أقوال الشيخ عبد الواحد يحيى التي جاءت في كتبه وتعبر عن أفكاره قوله إن “أيديولوجية العالم الحديث تتسم بثلاث نقاط: قلب التدرج الهرمي في كافة الميادين، والتقليل من أهمية المجال الفكري، والمبالغة في المجال المادي والعاطفي”.
وإن “التشتت والسطحية، أو كل ما يتعلق بالظاهر، تؤديان إلى هدم النزعة الفكرية. وإن العصرالحديث قد فقد معنى كل ما هو مقدس، فالحضارة التي لا تعترف بأي مبدأ أعلى، والتي تقوم على إنكار المبادئ هي حضارة مجردة من أية وسيلة تفاهم من الحضارات التراثية؛ لأن كل ما يقوم بدور في الوجود الإنساني قد تم تجريده تدريجيًّا من أي طابع مقدس أو تراثي. وبذلك تحول نفس ذلك الوجود إلى مجرد وجود دنيوي، وتدنى إلى تفاهة الحياة العادية مثلما نراها اليوم”.
ومن بين أقواله المهمة “إن العقلية الحديثة مصطنعة، فمجمل ما يكوَّن الحضارة الحديثة أيًّا كانت وجهة نظره يبدومصطنعًا ومزيفًا. فما يبدو جليًّا وأساسيًّا هو كل ما يؤدي إلى تحريف العقلية الذي نراه”.
وينتقد الأوربيين ويقول إن “التبشير يتلخص في فرض المعتقدات بأية وسيلة على الآخرين. والأوروبيُّون يريدون إجبار الجميع على الاهتمام باهتماماتهم هم، وأن يضعوها في أول درجة لاهتماماتهم الاقتصادية، وتبني نفس نظامهم السياسي، وذلك أنهم يحاولون دائمًا أن يبدوا واثقين من أنفسهم ومما يقولون، وإخفاء الصعاب التي يعانون منها،وأن لا ينطقوا بأي شيء بصورة مشكوك فيها. فتلك هي أسهل وسيلة لأن نأخذهم مأخذَ الجد، وأن يحصلوا هم بذلك على مزيد من السلطة”.
ويعبر عن فكره بالقول إن “العالم الحديث له معتقد باطل عن الحياة، حيث إنه يحصر نفسه بداخلها وبداخل المفاهيم المتعلقة بها مباشرة، ويجهل كل شيء عن المبادئ المتعالية الثابتة، بينما تمثل الحياة والحركة نوع من التسلط لدى المعاصرين، الذين يعطونهما الأولوية على المجال الميتافيزيقي، كما يتصف الحداثيون بأنهم يأخذون الجزء الضئيل على أنه الكل، الأمر الذي يكشف عن أفق فكري محدود”.
يقول الأديب الفرنسي أندريه جيد: “إنني حقا لا أجد شيئًا أعترض به على كتابات جينو إن ما كتبه لا يتطرق إليه النقض”.
وأضاف: “حقًا، إن كتب جينو رائعة. وإنه لعلى هدى فيما يخص القلق الذي يسود العالم الغربي وعواقبه الوخيمة”.
وكتب عنه شيخ الأزهر الشريف الأسبق عبد الحليم محمود كتابا أسماه “الفيلسوف المسلم عبد الواحد يحيى”، كتب فيها عن سيرته وأطلق عليه لفظ “العارف بالله”.
ويقول المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم، وهو من الخطباء المسلمين البارزين في أوروبا، عن الشيخ عبد الواحد بأنه ليس له مثيل في عصره، مضيفا “الشيخ عبد الواحد قدس الله ذكره، رجل خطير، قيل إن براهينه وكتاباته لا تنقض”.
وتابع بأن الشيخ عبد الواحد كان ينظر إلى النص بشكل مختلف عن أي حد.
الإرث الفكري للشيخ عبد الواحد
نشر الشيخ عبد الواحد 28 كتابا في القاهرة، 17 منها خلال حياته و11 بعد وفاته، ضمت بين صفحاتها دفاعًا عن الإسلام وصورته لدى الغرب، في مواجهة الفكرية التي كان يروجها المستشرقون حول كون الإسلام انتشر بحد السيف، وأنه لا يثمر الروحانية العميقة، وبيان أن الحضارة الإسلامية تتسم بالقوة الذاتية، التي تجعلها تؤثر في أقاليم غير التي نشأت فيها، وجاءت إسهاماته في الرد على هذه الاتهامات.
ومن أبرز كتبه عن الصوفية والمتصوفين: “القديس برنار” (1921)، و”صوفية دانتي (1925)، و”ملك العالم” (1927)، و”لمحات في التصوف” (1946)، و”التلفيق الروحي وتحقيقه” (1952)، و”لمحات في التصوف المسيحي” (1954).
في 2018 قامت مؤسسة الأزهر الشريف بترجمة كتابين له، وهما “الشرق والغرب” (1924) و”أزمة العصر الحديث” ( 1927)، وكان هذا أول تحرك رسمي من الأزهر تجاه ترجمة أعمال الشيخ عبد الواحد، بحسب عبد الواحد الإبن. ويضيف: “بالطبع هناك ترجمات عربية أخرى لأعمال الوالد، منها في الأردن مثلا تمت ترجمة 8 كتب، وفي الجزائر تمت ترجمة 4 كتب، لكن هذه أول مرة يترجم الأزهر أعمال للوالد”.
ويقول عبد الواحد الابن: “نأمل أن يكون هناك اهتمام رسمي بما تركه الوالد من إنتاج فكري، وأن يسعى الأزهر إلى ترجمة المزيد من أعماله”.
“سبوتنيك” زارت مكتب الشيخ عبد الواحد يحيى، وهو عبارة مكتب خشبي بسيط يحمل بعضا من صوره، وبعض أدوات الكتابة التي كان يستخدمها الشيخ. على أرضية الغرفة وسائد وضعت بطول الغرفة لاستقبال الزائرين، وإلى جوار المكتب وضعت مجموعة من المصاحف خضراء اللون، يقول عبد الواحد الإبن “كل أسبوع يعقد عشاق الشيخ عبد الواحد جلسة لتلاوة القرآن والذكر”.
ويضيف، عبد الواحد الإبن: “المكتبة تحولت الآن إلى مزار يقصده العلماء وطلاب العلم من كل أرجاء الدنيا، ولا تمانع الأسرة تلك الزيارات”.
ولدى أسرة الشيخ عبد الواحد مشروع للحفاظ على ما تركه والدهم من إرث معرفي، يقول عبد الواحد الإبن: “بعد وفاة الوالد كانت أمي في حالة حزن كبير، ولم تستطع السيطرة بشكل صحيح على المكتب. جاء ناس إلى المنزل وذهبوا بحرية، وتم سرقة العديد من الكتب، أخذوها من المكتبة”.
يقول عبد الواحد الابن إن “العديد من الكتب قديمة جدًا بحيث يصعب حفظها من تأثير الوقت والرطوبة”.
ويضيف: “لذلك لدى العائلة بعض مشاريع لحماية الكتب مثل تغليف الكتب بأغلفة جديدة والمسح الرقمي وحفظ المسح على الأقراص المدمجة (CD)”.
وتحتوي مكتبة الشيخ عبد الواحد على حوالي 3000 كتاب ما بين كتب ومجلات متخصصة، في الإسلام والتصوف والفلسفة.
بحسب عبد الواحد الابن تحتوي المكتبة على كتب بـ13 لغة التي كان يجيدها الشيخ عبد الواحد الكبير.
ويقول عبد الواحد الإبن إن العائلة تحتفظ بجميع مراسلات والده، “هناك العديد من الرسائل في المكتبة حيث كان لديه خلال حياته مراسلات مع حوالي 550 شخصا. تستحق العديد منها الدراسة والنشر، مثلما حدث ونشرت المراسلات بين رينيه والرسام والشاعر الفرنسي لويس كاتيو “Louis Cattiaux” (1904- 1953)، والتي نشرها لويس في البداية في مجلة “Études Traditionnelles” الفرنسية عام 1948.
وهناك مشروع يجري حاليا لترجمة المراسلات بين جينو والفيلسوف الشهير أناندا كوماراسوامي (1877- 1947)، وأناندا الذي يعد أحد أهم مترجمي الثقافة الهندية إلى الغرب، وعُرِف بتجلية الكثير من أبعادها الرمزية ومعانيها الميتافيزيقية ويعد من أهم رموز المدرسة التقليدية في الفلسفة، ومع نشرها سيكون لها صدى واسع.
وفاة رينيه وجنازته
عاش الشيخ عبد الواحد يحيى حياة الزهد والعزلة في سنواته الأخيرة مستكينا لدفء الأسرة التي وفّرته له زوجته وفي أيامه الأخيرة اشتد عليه المرض، وفي يوم 7 يناير دخلت إليه زوجته فقال لها: “النفس خلص”، فدعت له بطول العمر، إلا أنها دخلت إليه مرة أخرى عند منتصف الليل، فسمعت الشيخ يردد “الله.. الله” ثم خرجت روحه، وهكذا كانت آخر ما نطق به لسانه، وبعده بساعات توفي قطه “عثمان”، وورث عبد الواحد الإبن اهتمام وعطف عبد الواحد الأب على الحيوانات، ويرعى عدد من القطط في الشارع الذي يسكن فيه بشارع نوال، “فيلا فاطمة” زوجة الشيخ عبد الواحد الكبير، وهي الفيلا التي عاش فيها الشيخ عبد الواحد حتى وفاته، وتسكنها أسرته حتى الآن.
كتبت جريدة “لوفيجارو” الفرنسية عن جنازته: “إنها كانت جنازة متواضعة ضمّت أفراد أسرته وبعض من أحبائه ومريديه، ولم يحضرها أي من مشايخ الأزهر، وبعد أن صلّوا عليه في مسجد الحسين سارت الجنازة حيث دفن بالدراسة”.
وكتبت عن وفاته الصحف الأجنبية، كمجلة “إيجيت نوفل”، التي أخذت تكتب عنه عدة أسابيع، ثم أخذت تكتب عنه كل عام في ذكرى وفاته.
وخصصت له مجلة “فرنسا- آسيا” عددًا ضخمًا، كتب فيه كبار الكُتَّاب الشرقيين والغربيين.
وكذلك خصصت مجلة “إيتود ترا ديسيونيل”، وهي المجلة التي تعتبر في الغرب كله لسان التصوف الصحيح، عددًا ضخمًا من أعدادها، كتب فيه كبار الكتاب الشرقيين والغربيين.
وخصص له الكاتب الصحفي الشهير “بول سيران” كتابًا ضخمًا، تحدث فيه عن حياته وعن آرائه.
وجاءت هذه المقالات تحت عناوين مختلفة، منها: “حكيم كان يعيش في ظل الأهرامات”، و”فيلسوف القاهرة”، و”أكبر الروحانيين في العصر الحديث”، ووصفوه بـ”البوصلة المعصومة”، و”الدرع الحصين”.
وأنشئت في بلدان كثيرة مثل إيطاليا وأمريكا جمعيات تحمل اسمه تهتم بالتراث الصوفي وتراث الشيخ عبدالواحد وأصدرت في شرح أفكاره وفلسفته أكثر من 15 ألف كتاب وعدداً لا نهائي من الأبحاث والمقالات.
هكذا وبعد 69 عاما على وفاة رينيه جينو يظل واحدا من أكثر المفكرين الذين يبحث عنهم العلماء والطلاب في الغرب، وهناك دراسات وأبحاث تكتب عن أفكاره وأطروحاته، بشكل دائم، بينما لا تزال هناك مطالبات بأن تلتفت المؤسسات الدينية الإسلامية لما كتبه رينيه/ الشيخ عبد الواحد، وأن تعمل على ترجمة إرثه الفكري، ربما يساعد الشرق والغرب في الوصول إلى نقطة آمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق