⏬ ... يُعدُّ القصُّ أصل الوجود ، والكون كله ، إنما يقوم على قصة خلقه ، وقد ارتبط القصُّ بالحكي القائم على فعل السرد : (قال ) منذ أن
كان وجود الإنسان على ظهر هذه البسيطة ، إذ ارتبط القصُّ بفنّ السرد الذي تجلَّى في ظهوراته على مستويي القصة والرواية ، ، وفي القرآن الكريم : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) ، ولم يغفل الشعر القديم القصَّ الذي بدأه امرؤ القيس من خلال حوارياته التي يروي فيها مغامراته مع النساء على شكل سرد قصصي شكَّل لبنة من لبنات قصائده الشعرية ، وتأتي المعلقة أنموذجاً عن ذلك البناء الذي شكَّل فيه القصُّ (الحوار)عنصراً أساسيّاً فيها كما في مشهد دخوله خدر عنيزة :
ويومَ دخلْتُ الخدرَ خدرَ عُنيزةٍ فـقـالَـتْ : لك الـويـلاتُ إنّـَكَ مرجلي
تقولُ وقدْ مالَ الغبيط ُبنا معاً عقرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ : فانزلِ
فقلْتُ لها : سيري وأرخي زمامَهُ ولا تـبـعـديـنـي مـن جـنـاكِ الـمُـعـلَّـلِ
وإذا ما تجاوزنا هذا العصر نجد قي غزليات : عمر بن أبي ربيعة عنصر القص واضحاً ليس من خلال الشاعر الراوي ، وإنما من خلال الشخصيات التي تتحدَّث هي عن نفسها ، وهو ما نقله إلينا الشاعر : عمر بن أبي ربيعة واصفا ً مشهد حوار نسوة يتلهفن قدومه :
قدْ خلونا ، فتمنينَ بنا إذْ خلونا اليومَ ، نبدي ما نُسرْ
فعرفْنَ الشَّوقَ في مقلتِها وحبابَ الشَّوقِ يُبديهِ النَّظرْ
قلْنَ ، يسترضينها منيتُنا لوْ أتانا اليومَ في سرٍّ عمرْ
بينما يذكرنني أبصرنني دون قيد الميل ، يعدو بي الأغرْ
قالت الكبرى أتعرفن الفتي ؟ قالت الوسطي : نعم ، هذا عمرْ
قالتِ الصغرى وقدْ تيّمْتُها قدْ عرفْناهُ وهلْ يخفى القمرْ
ذا ... حـبـيـبٌ ... لمْ يُـعـرّجْ دونَـنـا ســاقَـهُ الـحـيـنُ إلـيـنـا و ... الـقـدرْ !
وعلى الرغم من مفارقة الشعر في كثير من اشتراطاته الفنية والجمالية السرد إلَّا أنَّ البحث في تراثنا الشعري يكشف عن تجلّيات التعالق بين النمطين السردي والشعري قي القصيدة العربية منذ معمارية ملكها الضليل إلى آخر ما ينجزه معمار الإنسان المبدع المعاصر، وهو ما نتلمسه في شعر : محمد حسن العلي الذي لجأ إلى فعل القص : (قال ) بهدف التعبير عمَّا يجول في خاطره من أفكار ، أو لينقل حالة شعورية في موقف حياتيّ معين ، وبذلك يكون الحوار العنصر البنائي الذي يُشكّل العمود الفقري في جسد القصيدة ، ومن ثمَّ تتشكَّل بقية العناصر الداعمة له ، ومن ذلك قول شاعرنا العلي في ردِّه على طلب احتماليّ :
إنْ تطلبي روحي الدَّواءَ فإنَّني سأقولُ :يا أحلى المُنى لبَّيكِ
نجد الشاعر هنا استخدم فعل القول ليؤكد رغبته الجامحة في تحقيق المطلوب منه ، وهو ما جاء في دال (لبّيكِ) بما تحيل عليه هذه اللفظة من دلالة على تنفيذ الأمر ، وتحقيقه على درجة عالية من السرعة في التنفيذ من جهة ، كما تحيل على بعد نفسي يؤكّد علوَّ منزلة الطالب في نفس المطلوب منه من جهة أخرى ، وهو ما يفيد أن الإنسان أسير هواه ، ومُقيّد حبّه ، وفي قصيدته الرائية التي جاءت ردَّاً على طلب أنثوي آخر يُشكّل الحوار ــ وهو من عناصر القص البنائية التي تلجأ إليها السرديات ــ لما يتميَّز فيه هذا العنصر من سمات تجعل منه العنصر الأهم في عناصر السرد التي يقوم عليها البناء المعماري للحكاية التي تعتمد على فعل القول في عملية الحوار الذي لا يقتصر دوره الوظيفي في إتمام الإخبار وحسب ، وإنما يؤدي دوره النفـســـلغوي ، إذ من خلال الحوار تكشف الشخصية عن أبعادها النفسية ، مثلما تسبر أغوار الشخصية الأخرى المُتحاوِرة معها ، وبذلك يكون الحوار مسباراً نفسيّاً ، مثلما ينهض بوظيفته اللغوية التي تتمظهر في أسلوب الطلب عبر أفعال الأمر والنهي ، كما تتجلّى من خلال أسلوب الاستفهام الذي يقتضي الجواب ، ومن هذا النمط ما نتلمسه في رائية الشاعر : محمد حسن العلي التي يقول فيها :
قالَتْ : " تغزَّلْ بي فقلْتُ ... لا ... تلعـبي يا حـلوتي بالـنَّـارِ
قالوا : رحلْتِ وما دروا عنْ لهفتي أنَّى اتـجهْتِ فأنـتِ نـجـمُ مـداري
قالتْ : تغزَّلْ بي .. ولولا حبُّها ما سـالَ هذا العطرُ مـنْ أشـعاري
هنا نجد أنَّ الشاعر : محمد حسن العلي قد أقام قصيدته على تكرار تعاقبي جاء في استهلال الأبيات ، وهذا التكرار له دلالته على المستوى النفسيّ ، آية ذلك أن الشاعر في التكرار إنما " يُسلّط الضوء على نقطة حسَّاسة في العبارة ، ويكشف اهتمام المتكلم بها ، وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسية قيمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية كاتبه" لأنَّ للكلمة أثرها النفسي الذي يكون مختزناً في لا وعي الشاعر ، ومن هنا فـ : (تكرار الكلمة مفتاح للفكرة المُتسلّطة على الشاعر)
وبذلك تتبدّى لنا دلالة التكرار الذي جاء من خلال ترداد استهلالي عبر تعاقب لفعل القول ليكشف لنا من خلاله تأكيد الحالة ، وثبات الموقف من المُخاطَّبة الطَّالبة للتَّغزُّل بها ، وهو تكرار يُبيّنُ مكانتها من نفس الشاعر ، وتمكّنها من قلبه ، واستيلائها على مشاعره وأحاسيسه .
*د. وليد العرفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق