اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

كَانَ فِى الثّامِنةِ عَشرَة ــ قصة قصيرة ..** محمد أبوالدهب

أظهر الكارنيه للموظف المتحفّز، الذي يهدّد الداخلين بدفتر تذاكر الزيارات. كان غير مرتاح لأفاعيل الدنيا، ويحسّ مداهمة الشيخوخة مثل أفعي متخابثة. قال إن مريضته تعاني من شيءٍ في كبدها. قال الموظف إنه قد يجدها -حيّةً أو ميّتة- في قسم الباطنة بالدور السابع، ولم ينسَ أن يبشره بتعطّل الأسانسير، كعقوبة فوريّة لعدم دفع ثمن التذكرة.
مضي في عتمة الطُرقة مشوّشا. كانت مزدحمة بوجوهٍ منهزمة، بدتْ تعرف عن الموت أكثر مما عرفتْ عن الحياة. وخال أن مثوله أمام سريرها، فجأةً، بعد ست أو سبع دقائق، سيعيدها، جَبْراً، إلي الوراء، لأكثر من خمسةٍ وعشرين عاما، ليومٍ شاردٍ عن أيام سنينها المديدة، المتشابهة علي الأرجح.
كان الأسانسير غير معطّل كما توقّع، وأمام بابه منتظرون بائسون، كأنهم لا يؤمنون بشيء، ويتأهّبون، رغم ذلك، لاقتناص صعودٍ كثير، فلم يتردد في البحث عن السلّم.

*****
كان في الثامنة عشرة، مبهوراً، ومتفاخراً، بانتقاله الطافر من كُمُون إجباريّ لتلميذٍ بالمدرسة الثانوية إلي انطلاقٍ مَرْضِيّ عنه لطالبٍ جامعي بكلّية الآداب، قسم انجليزي. وكانت هي جارةً ودودة، تجاوزتْ الأربعين بقليل، يناديها (خالتى أم عبده)، لها نفَس هاديء، ووجه بشوش، تحب أمه أكثر من كل نساء الجيران، وتتكلم معها كل يومٍ عن الطبيخ والغسيل ومسلسل السابعة الذي كان، تتبادلان الليمون والملح ومخرطة الملوخية وجلابيب المناسبات، وتتبادلان أسراراً!
وكان عبده يكبره بشهر، غير أنه لم يعتبره صاحبه، لأنه لم يكن خجولاً مثله، ثم إنه لم يكن فالِحاً في المدرسة، إذ كان مَلْطشة المُدرّسين، قبل أن يستقر في مدرسة الصنايع، ويرسب في (سنة أُولي) مرتين. ولم يمنع ذلك -بحُكم الجِيرة الإلزاميّة- أن يمرّ عليه، في عصريّة صيف، ليأكلا التوت في الغيطان، علي أطراف البلدة كما يفعل كل العيال، أو أن يمرّ عبده -في أي عصريّة- ليلعبا الكرة في الجُرن، أو أن يذهبا بدراجتيْهما لتغيير أنابيب البوتاجاز من المستودع البعيد. وكانت خالته أم عبده كثيرا ما تردّد أمامه، في حضور أمه، أو في مواجهة عبده (ياريته طلع شاطر زيّك).
*****
كان في الثامنة عشرة، عندما نادتْ أمه من موقعها بالمطبخ: (هات لي المخرطة من خالتك أم عبده.. معلش). كانت قيلولة حارّة طويلة، وكان يتفهّم إضافتها (معلش) لأنه اعترض، من قبل، علي ذلك النوع من مشاوير الصغار، التي لم تعد تناسب المرحلة!.
ألقي بمجلةٍ فنّيّة كانت بيده، وأدخل قدميه في شبشب بلاستيك، وطالع الشارع فارغاً إلا من لفَحان الرّيح.
زعق علي عبده، بينما يده تتخلّل الأعمدة الرفيعة لبوّابتهم الجديدة، المفضية إلي الفرندة، ليفتح الترباس من الداخل. لم يرد أحد، لكنه واصل التقدّم، بلا قلق، نحو الباب الخشبي. كان مسموحاً له بسبب عِشرة السنين. الباب مردود بلا قفل، دفعه بيده، هاتفاً بنبرةٍ أعلي (ايه يا عبده). وفي لحظةِ انكشافِ الصالة، وربما لم يكن قد اكتمل نداؤه الثاني علي عبده، رأي باب الحمّام يُفتح من الداخل، لتطلع منه امرأة، عاريةً إلا من شورت رجالي، وشعرها سائح مبلول، ويبدو أنها لم تنتبه لوجوده إلا بعدما عبرتْ عتبة الحمّام إلي الصالة، فصرختْ، حريصةً علي ألا تنفذ صرختها من جدران البيت (يا فضيحتي) وسترتْ نهديها بكفّيْها، ثم ثبّتتْ نظرها بالأرض، دون حركة، كأنما لتمنحه فرصة للخروج. داهمتْ جسدَه صعقةٌ كما لو أن شحنة كهربائيّة عالية مسّتْه، تضاعفتْ لما تأكّد أنها خالته أم عبده، كأنما لم يعرفْها أبداً، كاد ينكص إلي الفرندة، مذعورا، حتي يرجع كل شيء لأصله، وكاد يطلب المخرطة ليبرّر وجوده الملتبس. فقط تسمّر، وتعلقتْ حواسّه بتمثال (الأنثي الكاملة)، والذي قرأ، قبل أيام، في رواية إنجليزية -لم تكن مقرّرة في الكلّية- أنه يصادفُ كلّ ذَكَر مرة واحدة في العمر. وقف مبغوتا ببياض جسمها المضيء، ولم يصدّق أنه جسمُ وجهِها الأسمر، الذي ينظر إليه كل يوم، بفرض العادة، كما ينظر إلي وجه أمه. ولم تكن جلابيبها الفضفاضة تُلمّح بأن تحتها فخذين بدينيْن في تماسُك، مصبوبين، كاللذَيْن يجابهانه الآن. أما شعرها الحُرّ الطويل المفرود المبلول، فحرّضه علي الظنّ بأنها امرأة من بلادٍ في آخر الدنيا، لا سبيل للهجرة إليها، نزلتْ له وحده، في بيت خالته أم عبده، التي اعتادتْ حبس شعرها بإهمال في طَرْحَة رخيصة. ووخزتْ ضميرَه قصةٌ جنسيّة صريحة، استعارها -ملفوفة في ورق جرائد، ولم يكن وقتها يوتيوب -من زميل بالكلّية، مات منذ عام علي الصحراوي، وهو يقود سيارة نصف نقل، فتجرّأ في نفسه، وقال -كما قال الكتاب- إنه لابد أن يحدث ما ينبغي أن يحدث، ولْتُترك المصائر لأهواء مَنْ لم يصنعوا الحَدَث!.. وفاض دمه عن أوعية عروقه، فخطا نحوها مرتعشاً. طرفتْ عينُها طرفةً، ثم لاذت، ثانيةً، بأرضيّة الصالة، دون أن يتخلّص جسدها من تصنّمه العجيب. وانتظر، وَجِلاً، علي باب حُضنها المقفول بكفّيْها، كأنما يستنجد بها، لترحمَ شغفه المربوك، الجديد عليه، والذي لم يكن معمولاً حسابه. واستكان وجهه -المحطوط علي صدرها- لنضارة جسمها النظيف المندّي. ولن يعرف أبداً كم مضي من وقت، قبل أن تسحب كفها الأيمن ببطء، من تحت خدّه، ومن فوق نهدها، ليصير فمه علي بُعد شهقةٍ من حَلَمتها الداكنة المكرمشة. هبطتْ يدها تنبش في ظهره، فلم يفهم إن كانت تهدهد رَوعه ليتشجّع، أم توقظه ليعودَ ابنَها، الذي لم تحملْه بطنُها. غير أنه بقي متشبّثا بظلال الرواية الإنجليزية، والقصة الممنوعة التي استطاع زميله -قتيل الصحراوي حالياً- تسريبَها، فمطّ شفتيْه ليذوق الحبّة السحرية الغامقة. جفلتْ هي، وانتزعتْ كفها الآخر، وأبعدتْه بحُنوّ وغضب، وفرّتْ إلي غرفتها. كان آخر حريقِهِ رفرفة ردفيها الثقيلين دون ترهّل، تحت الشورت الرجالي الملتصق بهما، والذي خطر له -رغم شتات خواطره- أنه يخصّ عمه (أبو عبده)، قبل أن يعود إلي أمه بلا مخرطة.
*****
عندما شارف الطابق السابع، راح ينهج مثل المستدرَج في متاهة، تحوشه الرهبة من أن يُؤبّد في الضياع، عن القعود قليلاً لترويض أنفاسه. تشبّث بالدرابزين كي يكمِل، وفكر أنه، وإن تجاوز الأربعين بقليل، لم يزل شابّا علي أي حال. كان أمله أن تبصّ في عينه -أخيراً، ومرّة- حين يهمس لها (ألف سلامة عليكي يا حاجّة). هي التي داومت علي الخِصام بالعَيْن، منذ مايزيد علي رُبع قرن، منذ موقعة المخرطة. هل كانت تخجل من روحها، لأنها لم ترتدّ سريعا إلي الحمّام، وتأمره -من وراء بابه، وبما لها من سُلطة أمومية مكتَسبة- بالخروج. أم كانت مطعونة، لأنه عكّر لها صورة الإبن الموازي -المفضّل دائما- إذ لم ينتفض مرتعباً هارباً، لحظة رؤيتها عارية. أم لأنها فوّتتْ مغامرةً، لا يعيب الأنثي الصالحة أن تقترفها مرّة في العمر المكرور الملول؟!.. كانت قد امتنعتْ، لأسابيع، عن المجيء إلي أمه، متحجّجة بما لا يُقنع. وحتي لما تأتيها أمه، لم تكن تفضفض، كدأبها، حول أمورهما المشتركة. وربما لم تعد تبادلها الأسرار، لأن سرّاً رجيماً دخل بينهما، لا تقدر علي البوح به. ولما بالغتْ أمه في عتابها علي تغيّر الحال، واستحلفتْها أن تقول إن كانت زعّلتْها، استأنفتْ سيرتها الأولي، وإنْ ظلّتْ قابضة علي حرب العيون!
*****
قابل عبده صباحاً. لم يعد يراه -مجرد رؤية- إلا نادراً، منذ تزوج في بلدة بعيدة، فتح بها ورشة سمكرة. كان واقفا، شارداً، أمام بوّابتهم الحديدية التي لوّنها الصدأ، بعد أن تقشّر دهانها البُنّي، وتساقط. بدا عجوزاً، قد أتعبتْه الدنيا. أقبل عليه، مرتابا -خاض ربع القرن يصدّق، ويكذّب، أن خالته أم عبده جمعتْهم، ليلة المخرطة، وأخبرتْهم بما كان منه، غير أنها أقسمتْ عليهم أن يكتموا الخبر، حتي لا تموت أمه الطيّبة بحسرتها- صافحه وقال (أخبارك ايه؟ والله زمان).. قال، مُنافحاً دموعه (خالتك الحاجّة في المستشفي.. حالتها متأخّرة).. وقال إنه جاء ليأخذ إليها هدوماً وبطانية. خرجتْ إحدى بناته الأربع -عروسة في العشرين، ولها تقاطيع جدّتها- تحمل بطانية ملمومة علي رأسها، وفي يدها كيس الملابس. ذهبا ساكتيْن، محزونيْن. وهو قال: (هطلع من الشُغل علي المستشفي).
ورغم أن خبرها لطم ضميره المشتّت من قديم، فأدار رأسه، وحرّض طيفاً حزينا ليحوّم حول روحه، إلا أن شيطاناً ناعساً، يربض في بقعةٍ تائهة، غائمة بنفسه، صحا ليقول: "يكفي هذا، فلتمتْ الآن بسرّها الذى شرّدك آلاف الأيام: إذا كشّرتْ أمك في وجهك لأي سبب، كما تكشّر الأمهات، تقول إنها لابدّ عرفتْ، ويصارعك السؤال (لماذا لا تتكلم؟). وإذا لم ينتبه عمك (أبوعبده) لوقوفك في فرندة بيتكم، فلم يلقِ السلام، تقول إنه تعمّدَ، لأنه يعرف، ويصارعك السؤال (لماذا لا يصنع فضيحة تليق بي، فيجمع الرجالَ، ويطالب بحقّ امرأته، في حضور أبي؟). وإذا قابلك أي أحد في أي مكان -حتي وإن لم يدخل شارعكم أبدا- بفتور غير مفهوم، تقول (الدنيا كلها تعرف).. أليس لك أن تراودك الراحة قليلاً، أو حتي كثيراً، لموتها؟".
*****
مشي خطواتٍ في طُرقة قسم الباطنة، يتلفّت. لمح عبده، مستنداً إلي جدار، في غرفة خاوية بلا باب، يدخن سيجارة. أسرع إليه، مُستغرباً. بدا أهدَأ من الصباح، ومُتقبّلا لأيّ احتمال. ناوله سيجارة، وقال (ولّع وبعدين نخشّ للحاجّة). أشعلها. ولما انتهيا، تباطأ ليسبقه. وحين قارب الباب الموارب، قابله عبده خارجاً، ووقف في طريقه، كأنما يمنعه. همس (الحاجّة نايمة).. واستدار نصف استدارة، مُشيراً إلي سريرها.. وبينما يتراجع هو إلي الطُّرقة، أبصر جسدها، متضائلا، تحت البطانية التي كانت ملمومة علي رأس حفيدتها في الصباح. كان وجهها مصفرّا، وعيناها مغمضتيْن. وجَالَ في ظنّه أنها فتحتْ عينيها -من خلف ظهره- وبصّتْ.
محمد أبوالدهب

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...