بقلم : مريم بغيبغ
يرى النّاقد المغربي حميد حمداوي أن" العنوان هو المفتاح الضـروري لسبر أغوار النّص ، والتّعمّق في شعابه التّائهة، والسّفر في دهاليزه الممتدّة ، كما أنّه الأداة التي بها يتحقّق إتّساق النّص وانسجامه، وبه تبرز مقروئيّة النّص وتنكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة وبالتالي فالنّص هو العنوان والعنوان هو النّص، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية ، أو علاقات تعيينية أو إحالية أو علاقات كليّة أو جزئيّة"1، ومنه فالعنوان من أهمّ العتبات النّصيّة التي تمكّن القارئ من فهم مكنونات النّص، وهو
نقطة انطلاقه للولوج إلى النّسيج النّصي فلا يمكن تصفّح نصّ دون تناول عنوانه، وهو عند النّاقد الغربي " رولان بارث" "عبارة عن أنظمة دلاليّة سيميولوجيّة تحمل بين طيّاتها قيم أخلاقيّة وإيديولوجيّة "2، فالعنوان مرتبط ارتباطا عضويا بالنّص فهو لا يمكن أن يكون بعيدا عنه فيكمله، كما أنّه يعتبر علامة لغويّة تعلو النّص التسمية وتحدّده، وهو يمارس عمليّة الإغواء في محاولة لجذب المتلقّي والمساهمة في إنتشار المنجز الأدبيّ.
والعنوان يتمتّع بقوّة دلالية وإشهاريّة تؤثّر على المتلقّي، وهكذا جاء عنوان "المجموعة القصصية القصيرة جدّا " التي صدرت حديثا للكاتب السّوري الكبير "محمد ياسين صبيح " "نافذة بلا جدار " فلهذا العنوان دلالات كثيرة لا يمكن الاستغناء عنها، وهذا للعلاقة الكبيرة التّي تربط بينه وبين النّص الموازي، فهو عنوان ساطع وملفت للإنتباه فيه تشويق، وقد أثار لديّ شهوة قراءة المجموعة ككلّ.
و من أجل دراسة العنوان سيميائيا لابدّ من مقاربة بنيته ودلالاتها "فالبنية تستوجب قراءة العنوان صوتيا وتنغيميا وصرفيا وتركيبيا وبلاغيا وإيقونيا، في حين تستلزم الدلالة دراسة العنوان على ضوء علاقة العنوان بالدلالة، متسائلين عن طبيعة العلاقة هل هي علاقة كليّة أو جزئية؟ وهل هي علاقة مباشرة أو غير مباشرة؟ وهل هي علاقة تعيين أو علاقة تضمين؟ وهل هي علاقة حرفيّة أو علاقة إيحائيّة "3 ، وفي هذه العجالة سأكتفي مقاربة العنوان دلاليا.
إنّ عنوان المجموعة القصصية القصيرة جدّا "نافذة بلا جدار" يحمل في بنيته دلالات عميقة باعتباره علامات تحمل في طياتها دلالات تتخطى الدلالات المعجمية،هو عنوان مشحون ساخر يطرح العديد من التّساؤلات:
ما حاجتنا لنافذة بدون جدار؟
فالنافذة هي شبّاك ينفذ منه النّور والهواء، وهو فتحة صغيرة في جدار، المفارقة أنّها بلا جدار!
ولا النافية للجنس إذا سبقت بحرف جرّ فإنّ عملها يلغى فكلمة جدار هنا ماهي إلّا اسم مجرور بالباء الزائدة، والسّؤال الذي يلحّ علينا:
ما طبيعة العلاقة بين "النّافذة والجدار "؟ وما طبيعة العلاقة بين "نافذة بلا جدار "والنّصوص القصيرة جدّا"الموجودة في هذه المجموعة؟
لماذا جاء العنوان غير مألوفٍ وجريء ؟
وهل هو في علاقة مباشرة مع نصوص القصّة القصيرة جدّا؟ وما هي دلالاته المخفية؟
إنّ "نافذة بلا جدار "هو عنوان حقّق تجنيس القصّة القصيرة جدّا التّي تعتمد على المفارقة والمباغتة والادهاش، كما يحقّق وظيفة إغرائية تجاريّة فكلمة نافذة مثلا تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، فلا يمكن لنا أن نحصرها بأن تكون مجرّد كوّة في جدار، أو أن نبحث فقط عن معناها اللغوي الذي يعني :النّافذة أي اخترق وخرج، ونقول نفذ الشّيء أي جاز وخلص، والنّافذة من الجسم هي العيون والأنف والأذن ، وكلّ ما يربطه بالخارج ....إلخ فقد تكون وسيلة إتّصال وربط : الإتّصال بالعالم الخارجي ، والربط بين فضاءين منفصلين "خاص وعام ".
وقد تكون للحاجة للضّوء والهواء : فالجدار بلا نافذة جدار صامت وضيّق وخانق .
وقد تكون مصدر راحة، يقول العالم النّفسيّ الفرنسي "صموئيل لوباستيه "إنّ الأشخاص الذين يعيشون في المنزل ونوافذه مفتوحة...يحتاجون الإتصال الدائم بالآخرين وحتّى لو كان ذلك عن طريق سماع كلامهم من خلال هذه النوافذ المفتوحة ".
وقدتكون مصدر خطر : فالنافذة هي المنفذ الوحيد الذي يستطيع اللص الدّخول منه.
أو مصدرا للخطيئة بالنسبة للمرأة : فالمرأة في المجتمع المحافظ لا تطلّ من النّافذة إلّا استجابة لرغبة قلبها الذي وقع في حبّ أحدهم، حيث يتبادلان النّظرات والحديث وتظبط المواعيد الغراميّة من خلال النّافذة، والنّافذة مصطلح إعلامي أيضا فيقال نافذة على العالم ، نافذة على السياسة...إلخ .
لكنّ هذه النّافذة بلا جدار، هذا الجدار الذي ماهو إلّا حاجزا يفصل بين شيئين، بين غرفتين مثلا، أو هو أرض تحيط بالبيت، يقول تعالى في سورة الكهف "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه "، فالجدار يستعمل عادة للحماية وتطويق مساحة معيّنة، وظيفته هي عزل وغلق الفضاءات الخارجيّة، المفارقة أنّ هذا الجدار لا وجود له! ومنه فلا وجود للفصل والحماية والتّطويق...
"نافذة بلا جدار " عنوانًا مشوّقا يخلق بدواخلنا علامات الفضول، وحيرة التّساؤل "من حطّم ذلك الجدار ؟"وهو علامة مرئية استفزّتني ولعبت دورًا مهمّا في لفت انتباهي، هذه النّافذة التّي نجدها مكتوبة في المجموعة "بلون أحمر " قرميدي تتمحور حوله هالة من الألوان المتدرّجة، فالأحمر دلالة للحرب والدّمار والقتل، وهو دلالة أيضا للقوّة والإثارة والعاطفة، وكما هو يدلّ على الخوف يدلّ أيضًا على الحبّ، هذه النّافذة التي يقول الأستاذ مصطفى المعطاوي في المقدّمة " أنّ ” نافذة بلا جدار ” تمثّل حقّا نافذة يطلّ منها المؤلف على أرضه / من جدران تهدّمت "، ليجد المتلقّي نفسه مقحمًا للنّظر من نافذته ليشاهد الخراب والدّمار والأنقاض أيضًا، والنّظر منها ولكن من خلال هذه المجموعة القصصية "نافذة بلا جدار "، والسّؤال الذي يراودني هنا هل يريد منّا الكاتب أن ننظر فقط لنشاركه شعور الحسرة والنّدم أم أنّه يحمّلنا مسؤوليّة كلّ ذلك؟
إنّ هذا العنوان حقّق علاقته الإيحائية بالدلالة ومثّل عتبة مهمّة للمجموعة القصصيّة القصيرة جدّا في تلقّيها، وكان بمثابة الموجّه والمسيّر لما تحتويه وساعدنا للوصول إلى الدلالات الخفيّة والإشارات المهمّة على قدرة الكاتب القصصية بمختلف قيمها الفنيّة والجمالية.
ـــــــــــــــــــ
أ / مريم بغيبغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1/جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مجلّة عالم الفكر ، الكويت، المجلّد 25، ع 3 ،1997.
2/المرجع نفسه ص 4.
3/المرجع نفسه ص 7.
يرى النّاقد المغربي حميد حمداوي أن" العنوان هو المفتاح الضـروري لسبر أغوار النّص ، والتّعمّق في شعابه التّائهة، والسّفر في دهاليزه الممتدّة ، كما أنّه الأداة التي بها يتحقّق إتّساق النّص وانسجامه، وبه تبرز مقروئيّة النّص وتنكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة وبالتالي فالنّص هو العنوان والعنوان هو النّص، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية ، أو علاقات تعيينية أو إحالية أو علاقات كليّة أو جزئيّة"1، ومنه فالعنوان من أهمّ العتبات النّصيّة التي تمكّن القارئ من فهم مكنونات النّص، وهو
نقطة انطلاقه للولوج إلى النّسيج النّصي فلا يمكن تصفّح نصّ دون تناول عنوانه، وهو عند النّاقد الغربي " رولان بارث" "عبارة عن أنظمة دلاليّة سيميولوجيّة تحمل بين طيّاتها قيم أخلاقيّة وإيديولوجيّة "2، فالعنوان مرتبط ارتباطا عضويا بالنّص فهو لا يمكن أن يكون بعيدا عنه فيكمله، كما أنّه يعتبر علامة لغويّة تعلو النّص التسمية وتحدّده، وهو يمارس عمليّة الإغواء في محاولة لجذب المتلقّي والمساهمة في إنتشار المنجز الأدبيّ.
والعنوان يتمتّع بقوّة دلالية وإشهاريّة تؤثّر على المتلقّي، وهكذا جاء عنوان "المجموعة القصصية القصيرة جدّا " التي صدرت حديثا للكاتب السّوري الكبير "محمد ياسين صبيح " "نافذة بلا جدار " فلهذا العنوان دلالات كثيرة لا يمكن الاستغناء عنها، وهذا للعلاقة الكبيرة التّي تربط بينه وبين النّص الموازي، فهو عنوان ساطع وملفت للإنتباه فيه تشويق، وقد أثار لديّ شهوة قراءة المجموعة ككلّ.
و من أجل دراسة العنوان سيميائيا لابدّ من مقاربة بنيته ودلالاتها "فالبنية تستوجب قراءة العنوان صوتيا وتنغيميا وصرفيا وتركيبيا وبلاغيا وإيقونيا، في حين تستلزم الدلالة دراسة العنوان على ضوء علاقة العنوان بالدلالة، متسائلين عن طبيعة العلاقة هل هي علاقة كليّة أو جزئية؟ وهل هي علاقة مباشرة أو غير مباشرة؟ وهل هي علاقة تعيين أو علاقة تضمين؟ وهل هي علاقة حرفيّة أو علاقة إيحائيّة "3 ، وفي هذه العجالة سأكتفي مقاربة العنوان دلاليا.
إنّ عنوان المجموعة القصصية القصيرة جدّا "نافذة بلا جدار" يحمل في بنيته دلالات عميقة باعتباره علامات تحمل في طياتها دلالات تتخطى الدلالات المعجمية،هو عنوان مشحون ساخر يطرح العديد من التّساؤلات:
ما حاجتنا لنافذة بدون جدار؟
فالنافذة هي شبّاك ينفذ منه النّور والهواء، وهو فتحة صغيرة في جدار، المفارقة أنّها بلا جدار!
ولا النافية للجنس إذا سبقت بحرف جرّ فإنّ عملها يلغى فكلمة جدار هنا ماهي إلّا اسم مجرور بالباء الزائدة، والسّؤال الذي يلحّ علينا:
ما طبيعة العلاقة بين "النّافذة والجدار "؟ وما طبيعة العلاقة بين "نافذة بلا جدار "والنّصوص القصيرة جدّا"الموجودة في هذه المجموعة؟
لماذا جاء العنوان غير مألوفٍ وجريء ؟
وهل هو في علاقة مباشرة مع نصوص القصّة القصيرة جدّا؟ وما هي دلالاته المخفية؟
إنّ "نافذة بلا جدار "هو عنوان حقّق تجنيس القصّة القصيرة جدّا التّي تعتمد على المفارقة والمباغتة والادهاش، كما يحقّق وظيفة إغرائية تجاريّة فكلمة نافذة مثلا تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، فلا يمكن لنا أن نحصرها بأن تكون مجرّد كوّة في جدار، أو أن نبحث فقط عن معناها اللغوي الذي يعني :النّافذة أي اخترق وخرج، ونقول نفذ الشّيء أي جاز وخلص، والنّافذة من الجسم هي العيون والأنف والأذن ، وكلّ ما يربطه بالخارج ....إلخ فقد تكون وسيلة إتّصال وربط : الإتّصال بالعالم الخارجي ، والربط بين فضاءين منفصلين "خاص وعام ".
وقد تكون للحاجة للضّوء والهواء : فالجدار بلا نافذة جدار صامت وضيّق وخانق .
وقد تكون مصدر راحة، يقول العالم النّفسيّ الفرنسي "صموئيل لوباستيه "إنّ الأشخاص الذين يعيشون في المنزل ونوافذه مفتوحة...يحتاجون الإتصال الدائم بالآخرين وحتّى لو كان ذلك عن طريق سماع كلامهم من خلال هذه النوافذ المفتوحة ".
وقدتكون مصدر خطر : فالنافذة هي المنفذ الوحيد الذي يستطيع اللص الدّخول منه.
أو مصدرا للخطيئة بالنسبة للمرأة : فالمرأة في المجتمع المحافظ لا تطلّ من النّافذة إلّا استجابة لرغبة قلبها الذي وقع في حبّ أحدهم، حيث يتبادلان النّظرات والحديث وتظبط المواعيد الغراميّة من خلال النّافذة، والنّافذة مصطلح إعلامي أيضا فيقال نافذة على العالم ، نافذة على السياسة...إلخ .
لكنّ هذه النّافذة بلا جدار، هذا الجدار الذي ماهو إلّا حاجزا يفصل بين شيئين، بين غرفتين مثلا، أو هو أرض تحيط بالبيت، يقول تعالى في سورة الكهف "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه "، فالجدار يستعمل عادة للحماية وتطويق مساحة معيّنة، وظيفته هي عزل وغلق الفضاءات الخارجيّة، المفارقة أنّ هذا الجدار لا وجود له! ومنه فلا وجود للفصل والحماية والتّطويق...
"نافذة بلا جدار " عنوانًا مشوّقا يخلق بدواخلنا علامات الفضول، وحيرة التّساؤل "من حطّم ذلك الجدار ؟"وهو علامة مرئية استفزّتني ولعبت دورًا مهمّا في لفت انتباهي، هذه النّافذة التّي نجدها مكتوبة في المجموعة "بلون أحمر " قرميدي تتمحور حوله هالة من الألوان المتدرّجة، فالأحمر دلالة للحرب والدّمار والقتل، وهو دلالة أيضا للقوّة والإثارة والعاطفة، وكما هو يدلّ على الخوف يدلّ أيضًا على الحبّ، هذه النّافذة التي يقول الأستاذ مصطفى المعطاوي في المقدّمة " أنّ ” نافذة بلا جدار ” تمثّل حقّا نافذة يطلّ منها المؤلف على أرضه / من جدران تهدّمت "، ليجد المتلقّي نفسه مقحمًا للنّظر من نافذته ليشاهد الخراب والدّمار والأنقاض أيضًا، والنّظر منها ولكن من خلال هذه المجموعة القصصية "نافذة بلا جدار "، والسّؤال الذي يراودني هنا هل يريد منّا الكاتب أن ننظر فقط لنشاركه شعور الحسرة والنّدم أم أنّه يحمّلنا مسؤوليّة كلّ ذلك؟
إنّ هذا العنوان حقّق علاقته الإيحائية بالدلالة ومثّل عتبة مهمّة للمجموعة القصصيّة القصيرة جدّا في تلقّيها، وكان بمثابة الموجّه والمسيّر لما تحتويه وساعدنا للوصول إلى الدلالات الخفيّة والإشارات المهمّة على قدرة الكاتب القصصية بمختلف قيمها الفنيّة والجمالية.
ـــــــــــــــــــ
أ / مريم بغيبغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1/جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مجلّة عالم الفكر ، الكويت، المجلّد 25، ع 3 ،1997.
2/المرجع نفسه ص 4.
3/المرجع نفسه ص 7.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق