حين ضاع منه كل شيء، وقفَ ببابها ، لم يفتح أحدٌ له ، لم تحتضنه أذرع كانت تقطر حناناً فيما ما مضى. الليل بارد، والعتمة ترمي بظلالها وجه الأماكن ، كم قطع من المسافات وهو يتعثر بأذيال انكساراته ، يجيء لاهثاً يحمل وجعاً قديماً يحتوي كل حياته التي هيمن عليها الفقر والعوز، بعد أن انفتحت له بوابة القدر صار غنياً بين ليلة وضحاها، مستغلاً الظروف السياسية التي يمر بها البلد ،يمشي مرتجفا كئيباً من ثقل جناحيه، تتسلقه رغبة للسير في طريق ينبذ قدميه ، رأسه يترنّح ثملاً بلا كأس .
أعادَ الطرق ولا من مجيب ، بعد قليل، يسمع صوت غمغمة تتناهى إليه من داخل المنزل .
حانت منه إلتفاتة نحو حديقته التي كانت مرسى لأصابعه وهي تقلّم الأشجار وتزرع الشتلات والورود ، شجرة التوت مازالت تقف بالكاد تصالب طولها ، لولا الحائط الذي يسندها . يقترب منها كانت الشجرة جاثمة وحولها الأحراش والشوك يلتف حولها .يتمعّن في أغصانها ،يجدها يابسة ،لم يكن ثمة أوراق ، عارية تماماً ، يهزُّ رأسه تاسَّفاً ، يعود ليمسح قدميه بسجادة الباب الصغيرة .يقف إزاء الباب ويعاودَ الطرق ، يضع يده على أكرة الباب، يطرق رأسه مرهفاً السمع، خطرَ في باله أن ينظر إلى النخلة التي كانت تقف قبالة الشجرة .
.استغربَ عدم وجودها .تقدم يبحث عن مكانها .
يرى الجذع المتبقي منها مازال مغروساً في الأرض .يقف في الزاوية المعتمة قرب الجدار المتداخل مع انتصاب الباب الخشبي ، الجميع لفظه مع زجاجات العرق الر خيصة عند الأرصفة القذرة ،عاقبتهُ الحانات وقامرتْ ببقايا كبريائه، ربحت الرهان وخسر هوّ ..سلبت منه العزيمة والإصرار على الاحتفاظ بكرامته إلى آخر المطاف.
منذ صعوده الخرافي السريع لتقلد المناصب الحكومية وحتى سقوطه فوق الأرصفة والحانات الموبوءة والسجون النتنة .وهو يمنّي النفس أن لا يعود منكسرا خالي الوفاض ، يعود الآن كطائر ليل مهيض الجناح يمشي مرتجفاّ، يتعثر بقدمين أثقلهما الوقوف بباب السلاطين وأصحاب الكروش، تذكَّر بعد مدة طويلة أنه بلا بيت ولا شراع، والموج يغمره من رأسه حتى قدميه، لا سبيل إلى للهرب من واقع مرير ، يعود الآن لعلهم يقبلون بوجوده ..جاء يطلب المغفرة، يحلم بحضن دافيء وكف حنونة تربّت على كتفه .يسمع أحد ما يقترب، يضع أذنه لصق الباب، يجيئه الصوت من الداخل ،عرفه أنه صوتها :
__من في الباب ؟،
يتردد بالجواب ..يتنحنح ويشحذ حنجرته.. يهمس بصوت كسير:
__أنا يا إقبال ..أنا زوجك .
.لم يسمع جواباً..سمعها تنشج ، ظل ينتظر الرد..ولما طال وقوفه، قال :
__أرجوك يا أقبال افتحي الباب ..دعيني أدخل أني ارتجف ..أرجوكِ .
__أنا لا أعرفك.. لا يحق لك الوقوف ببابي .
الليل يشهد عليه بالخسارة ، وتلك المغامرة غير محسوبة، كل خطوة خطاها نحو هذا المكان،تطوي أوجاعا لا حصرلها والبكاء لا يجدي، سمعها تقول له:
__إذهب من هنا ..لامكان لك بيننا ..اذهب ولا تفكر أن تطرق بابي مرَّة أخرى ؟
ليس الطريق سالكاً، وغبار الليل فقدَ حروف النقاء ،البرد القارس يزمجر في الأجواء مع خفقات الريح
طوال مسافة الطريق، يتحّدث مع نفسه _أي طريق أسلك بعد كل هذا الطوفان _؟..صاريته تكسرت على أمواج خيباته، حمل في تعاريج حنجرته الذبيحة بضع كلمات ..قال لها متصنعاً جوّاً من المرح:
__حبيبتي ..افتحي الباب أليس أنا حبيبك وزوجك ؟
أرجوكِ.. أنا نادم على كل مافعلتُ بك، أقسم عليكِ بما تؤمنين ..خذيني لموضع الدفء.. أريد أن اغتسل بمائك الطاهر وأسقط ذنوبي كلها ..لاتغلقي بابك بوجهي ..لا أستطع العيش بعيداً عنكم ..
__أنا وحدي بالدار يارجل ..أولادي تزوجوا وكل واحد منهم ذهب إلى حال سبيله.
__ماذا تقولين .. تركوكِ وحيدة كما فعلتُ أنا ؟
__خرجوا من بيتي بارّين بيّ وأنا راضية عنهم ..إلاّ انت لامكان لك عندي .. اتركني أعود لموقدي .. فالرواق بارد .
__وأنا أرتجف من البرد.. ارحمي شيبتي وكبر سنّي ؟
__لمَ لم ترحمني كل هذه السنين ...تركتني أعيل أطفالا لا يملكون فلساً واحدا ..بعد كل هذه السنين جئتَ تطلب الغفران ؟
ساد سكون عميق ، هدأت الريح ،أوقنَ بالهزيمة ، بكى كثيرا على أعتاب بابها ،أنهكتهُ حرارة الدموع .. شعر أن المسافة بينهما طويلة، وأن الذكريات الجميلة إلتحفت العدم ،أدرك أن ظمأه لن ترويه كل أمطار الدنيا ..
ضرب بقبضته خشب الباب وصاح :
_حتى الله يغفر للمجرمين.
_لن أغفر لك ...عشتُ حياتي ذليلة ..أنا بنت العِز.. جعلتني أعمل خادمة في البيوت، انكسرَ ظهري من أجل إعالة أولادي الذين تركتهم بلا سؤال ..جعلتني أبيع كل شيء من أجل سداد ديونك..ارجوك ارحل .
_ أين أجد أولادي ؟
_اخبرتهم أنك مت .دعهم يعيشون بسلام أرجوك ..عد من حيث أتيت؟
مضى وقت طويل. ظل واقفا يفكر كيف ستقود هذه الطريق خطواته ، لمّا انقطع نثيث المطر..وهدأت الريح ..فتحت الباب بهدوء .صفعت أنفها رائحة الأرض المعشوشبة المبلولة ، تلفتت يميناً وشمالاً ، لم تجد له أثراً ، أرادت أن تغلق الباب ، خطر في بالها شيء ما ..سرعان ما خرجت متجهةً صوب الباب الرئيس ، وجدته يغذ السير مبتعدا بخطى متثاقلة، يسحب قدميه بصعوبة وسط الأرض الموحلة ، مكثت تنظر إليه طويلاً ،الدموع الحرّى تنهمر فوق خديها الناتئين .
قبل أن تغيبّه عطفة الزقاق ويختفي ظلّه.. صاحت به بحرقة :
_قاســم ..قاســم؟!
أعادَ الطرق ولا من مجيب ، بعد قليل، يسمع صوت غمغمة تتناهى إليه من داخل المنزل .
حانت منه إلتفاتة نحو حديقته التي كانت مرسى لأصابعه وهي تقلّم الأشجار وتزرع الشتلات والورود ، شجرة التوت مازالت تقف بالكاد تصالب طولها ، لولا الحائط الذي يسندها . يقترب منها كانت الشجرة جاثمة وحولها الأحراش والشوك يلتف حولها .يتمعّن في أغصانها ،يجدها يابسة ،لم يكن ثمة أوراق ، عارية تماماً ، يهزُّ رأسه تاسَّفاً ، يعود ليمسح قدميه بسجادة الباب الصغيرة .يقف إزاء الباب ويعاودَ الطرق ، يضع يده على أكرة الباب، يطرق رأسه مرهفاً السمع، خطرَ في باله أن ينظر إلى النخلة التي كانت تقف قبالة الشجرة .
.استغربَ عدم وجودها .تقدم يبحث عن مكانها .
يرى الجذع المتبقي منها مازال مغروساً في الأرض .يقف في الزاوية المعتمة قرب الجدار المتداخل مع انتصاب الباب الخشبي ، الجميع لفظه مع زجاجات العرق الر خيصة عند الأرصفة القذرة ،عاقبتهُ الحانات وقامرتْ ببقايا كبريائه، ربحت الرهان وخسر هوّ ..سلبت منه العزيمة والإصرار على الاحتفاظ بكرامته إلى آخر المطاف.
منذ صعوده الخرافي السريع لتقلد المناصب الحكومية وحتى سقوطه فوق الأرصفة والحانات الموبوءة والسجون النتنة .وهو يمنّي النفس أن لا يعود منكسرا خالي الوفاض ، يعود الآن كطائر ليل مهيض الجناح يمشي مرتجفاّ، يتعثر بقدمين أثقلهما الوقوف بباب السلاطين وأصحاب الكروش، تذكَّر بعد مدة طويلة أنه بلا بيت ولا شراع، والموج يغمره من رأسه حتى قدميه، لا سبيل إلى للهرب من واقع مرير ، يعود الآن لعلهم يقبلون بوجوده ..جاء يطلب المغفرة، يحلم بحضن دافيء وكف حنونة تربّت على كتفه .يسمع أحد ما يقترب، يضع أذنه لصق الباب، يجيئه الصوت من الداخل ،عرفه أنه صوتها :
__من في الباب ؟،
يتردد بالجواب ..يتنحنح ويشحذ حنجرته.. يهمس بصوت كسير:
__أنا يا إقبال ..أنا زوجك .
.لم يسمع جواباً..سمعها تنشج ، ظل ينتظر الرد..ولما طال وقوفه، قال :
__أرجوك يا أقبال افتحي الباب ..دعيني أدخل أني ارتجف ..أرجوكِ .
__أنا لا أعرفك.. لا يحق لك الوقوف ببابي .
الليل يشهد عليه بالخسارة ، وتلك المغامرة غير محسوبة، كل خطوة خطاها نحو هذا المكان،تطوي أوجاعا لا حصرلها والبكاء لا يجدي، سمعها تقول له:
__إذهب من هنا ..لامكان لك بيننا ..اذهب ولا تفكر أن تطرق بابي مرَّة أخرى ؟
ليس الطريق سالكاً، وغبار الليل فقدَ حروف النقاء ،البرد القارس يزمجر في الأجواء مع خفقات الريح
طوال مسافة الطريق، يتحّدث مع نفسه _أي طريق أسلك بعد كل هذا الطوفان _؟..صاريته تكسرت على أمواج خيباته، حمل في تعاريج حنجرته الذبيحة بضع كلمات ..قال لها متصنعاً جوّاً من المرح:
__حبيبتي ..افتحي الباب أليس أنا حبيبك وزوجك ؟
أرجوكِ.. أنا نادم على كل مافعلتُ بك، أقسم عليكِ بما تؤمنين ..خذيني لموضع الدفء.. أريد أن اغتسل بمائك الطاهر وأسقط ذنوبي كلها ..لاتغلقي بابك بوجهي ..لا أستطع العيش بعيداً عنكم ..
__أنا وحدي بالدار يارجل ..أولادي تزوجوا وكل واحد منهم ذهب إلى حال سبيله.
__ماذا تقولين .. تركوكِ وحيدة كما فعلتُ أنا ؟
__خرجوا من بيتي بارّين بيّ وأنا راضية عنهم ..إلاّ انت لامكان لك عندي .. اتركني أعود لموقدي .. فالرواق بارد .
__وأنا أرتجف من البرد.. ارحمي شيبتي وكبر سنّي ؟
__لمَ لم ترحمني كل هذه السنين ...تركتني أعيل أطفالا لا يملكون فلساً واحدا ..بعد كل هذه السنين جئتَ تطلب الغفران ؟
ساد سكون عميق ، هدأت الريح ،أوقنَ بالهزيمة ، بكى كثيرا على أعتاب بابها ،أنهكتهُ حرارة الدموع .. شعر أن المسافة بينهما طويلة، وأن الذكريات الجميلة إلتحفت العدم ،أدرك أن ظمأه لن ترويه كل أمطار الدنيا ..
ضرب بقبضته خشب الباب وصاح :
_حتى الله يغفر للمجرمين.
_لن أغفر لك ...عشتُ حياتي ذليلة ..أنا بنت العِز.. جعلتني أعمل خادمة في البيوت، انكسرَ ظهري من أجل إعالة أولادي الذين تركتهم بلا سؤال ..جعلتني أبيع كل شيء من أجل سداد ديونك..ارجوك ارحل .
_ أين أجد أولادي ؟
_اخبرتهم أنك مت .دعهم يعيشون بسلام أرجوك ..عد من حيث أتيت؟
مضى وقت طويل. ظل واقفا يفكر كيف ستقود هذه الطريق خطواته ، لمّا انقطع نثيث المطر..وهدأت الريح ..فتحت الباب بهدوء .صفعت أنفها رائحة الأرض المعشوشبة المبلولة ، تلفتت يميناً وشمالاً ، لم تجد له أثراً ، أرادت أن تغلق الباب ، خطر في بالها شيء ما ..سرعان ما خرجت متجهةً صوب الباب الرئيس ، وجدته يغذ السير مبتعدا بخطى متثاقلة، يسحب قدميه بصعوبة وسط الأرض الموحلة ، مكثت تنظر إليه طويلاً ،الدموع الحرّى تنهمر فوق خديها الناتئين .
قبل أن تغيبّه عطفة الزقاق ويختفي ظلّه.. صاحت به بحرقة :
_قاســم ..قاســم؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق