الصفحات

بنك ضحايا الحب || بقلم: أسيل منصور ــ فلسطين


في بيتي الكائن في وسط حي الورود جلست أقلب صفحات الجريدة ..كنت طبيبا نفسيا خبيرا
أعمل في عيادتي الشخصية والتي أستقبل فيها المرضى الذين يراجعونني من شتى البلاد .لم تكن الحالات مستعصية أمام قدرتي بالأخص أن لي باع طويل في المهنة وبينما كنت أقرأ العناوين لفت اهتمامي إعلان لوظيفة شاغرة في مكان جديد يدعى "بنك ضحايا الحب" ..ضحكت من الاسم وسرت روح التحدي في نفسي بالذات لأن العنوان شدد على أن الحالات
في البنك من أصعبها في العالم ولم يستطع أي طبيب المساهمة في شفائها. قررت أن أقدم طلبا للقبول وأرسلت للبنك سيرتي الذاتية وقُبِلْتُ بدون مقابلة شخصية كالمتوقع..مرت الأيام وحققت نجاحا باهرا في البنك وتحسنت معظم الحالات بعد بضع جلسات كرستها لكل حالة ..وفي يوم صادف اليوم الأول للربيع أعلمني مدير البنك على أن هناك حالة جديدة تسترعي اهتماما خاصا وأن عليّ محاولة كل الطرق لمعالجتها ..ابتسمت بسخرية وغرور وطمأنته ووعدته أن تخرج الحالة من البنك قبل انتهاء الربيع.

توجهت للغرفة رقم سبعة وخمسين ،طرقت الباب ودخلت .كانت الحالة امرأة في الثلاثين من عمرها لم تكن جميلة ولم يكن بمظهرها ما قد يجذب أحدهم فكتبت في دفتري أن سبب المرض قد يكون الرفض أو حب من طرف واحد ..
جلست على الكرسي وبدأتُ الجلسة ،سألتها عن اسمها فلم تجب فطلبت إليها أن تخبرني بقصتها فلم تجب أيضا لكنها ناولتني كتابا اتضح لي بعدما فتحته أنه دفتر مذكرات يخصها ..أخذته وخرجت .

في الدفتر انتظرتني قصتها ..لقد كانت طبيبة فيما مضى كرست حياتها لمرضاها ولم تكترث لأي شيء آخر إلى أن وصل هو إلى المشفى ..كان مديرها في العمل والذي عُيِّنَ مؤخرا ،في العقد الرابع من العمر .متزوج وله أطفال ومن اللحظة الأولى التي رأته فيها أغرمت به وكأنه أحس بذلك فحاول أن يقسو عليها حتى تنساه ولكن حتى قسوته لم تزدها إلا تعلقا به ورغم الحب استمرت في مسيرة عطائها لمرضاها واحترم هو فيها ذلك وكان كلما يرى كيف تعاملهم وبأي ود تتعاطى معهم كان يراها بضوء آخر ونجح في تجاوز شكلها وذابت طبقات القسوة المفتعلة عن قلبه وأغرم بها هو أيضا فأحس بالذنب لأن هذا الحب أخذ مكان حبه لزوجته وأصبح يكرس وقته كله للمشفى وازدهر القسم الذي كانا يعملان فيه سوية ..وكانت هي بالجبن الذي لم يسمح لها أبدا بأن تفاتحه بالأمر وكذلك الأمر بالنسبة له إلا أن الانسجام بينهما بات واضحا ولطالما تبادلا الضحكات على أمور مشتركة بينهما ولم يعترفا أبدا بما يكنه الواحد من مشاعر للآخر.
ومضت السنوات على هذا الحال وكان كل منهما يزداد تعلقا بالآخر حتى قررت إدارة المشفى نقله هو إلى مشفى آخر ..جُنّ جنونهما ولكن لم يحاولا تغيير مسار القدر فافترقا وبعد الفراق مرضت هي وتطور مرضها الصحيّ إلى مرض نفسي وعانت من الذهان وبدأت تراه في كل مكان تحدثه ويحدثها واستمرت بالعمل إلى أن بدأت ترتكب أخطاءا وتضرر بعض مرضاها فرفدت ولاحظ أقرباؤها بمرضها فنقلوها إلى بنك ضحايا الحب.
بعد قراءتي لقصتها علمت أن وضعها سيّء فهي ترى حبيبها ماثلا أمامها كل يوم تكلمه ويكلمها وَمِمَّا زاد الوضع سوءا هو أن الدواء الذي وصف لها لم يكن ناجعا ولم يفد في حالتها.قررت أن أكرس عدة جلسات لها وطلبت إليها أن تنقل لي كلام ومشاعر حبيبها فتجاوبت معي وبدأت أتعرف على شخصيتها .لقد كانت الطبيبة من أرق من عرفت من النساء وكانت مشاعرها نحو حبيبها عارمة وفي كل جلسة كنت أراها كما فعل هو بضوء آخر ..وتعرفت على اهتماماتها الكثيرة فوجدت الكثير من الأشياء المشتركة بيني وبينها ووقعت في حبها من غير أن أدري ورغم كل الحواجز التي حاولت بناءها بيننا ..صبرت مدة طويلة قبل أن أعترف لها وعندما فعلت انفجرت بضحكة ساخرة وجننت أنا من ردة فعلها وسألتها لم تضحك فأجابتني بأنها مجنونة وأن عليه الابتعاد عنها قدر المستطاع ..قررت الاستقالة وحاولت أن أنساها ففشلت وبدأت أتهيؤها أمامي وأتكلم معها وزاد وضعي سوءا ولم أعد أنجح في علاج الحالات التي كانت تصلني وفشلت فشلا ذريعا في علاج حالتي التي شخصتها رغم أني كنت أنا المريض وقررت أن أعود إلى بنك ضحايا الحب لكن المرة كمريض .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.