الصفحات

خطايا بريئة ...*راوية يوسفي

⏪⏬
مضتْ عشرُونَ عامًا يا ولدِي، كبُرتَ وصرتَ رجلا، أراقبُ هاتفكَ عنْ كثَبٍ، أخافُ أنْ تُحِبَّ فتاةً ولا تخافُ فيهَا ما تخافُهُ فِي عِرْضِك، أعلمُ أنَّ ما أفعلُه عيبٌ في حقِّك؛ أُدَوِّنُ أرقامَ الهواتِفِ المسجَّلة في هاتفِك، فإنْ تأخَّرتَ فِي العودةِ إلى المَنزلِ مساءً، أتَّصلُ بأكثرِهِم تواصُلا معكَ.

شارَفتُ على الانتهاءِ مِنْ ترقيعِ سِروالِكَ القدِيم، أعلمُ أنَّك أصبحْتَ بطُولِ والدِك، والبنْطالُ لمْ يعُدْ يناسبُ مقاسَك، لكنَّني أحبُّه، أشعرُ وأنا أرقِّعُه كلَّ مرَّةٍ -وأنا التي مزَّقْتُه فيها عمْدًا- أنَّك لا زِلت طفلِي الصَّغير، هشُّ القلْبِ، الغَيورُ الذي كلَّما عانقَتْ يدُ والدِهِ كتفِي يتلاشَى فِي مكانِهِ خوفَ أنْ أحبَّ مُعانقِي أكثَرَ مِنه..

لمْ تعُدْ لديَّ الرَّغبةُ في تحضيرِ حلوَى الفرَاولة، مُذْ أخبرنِي الطَّبيبُ أنَّكَ تُعاني مِن حساسيةٍ تُجاهَها، لكنَّنِي أُحضِّرُها منْ أجلِ أخْتك البارعةِ في إلقاءِ الشِّعر، أطعمُها حلوى الفراولة اللذيذَة وأنصتُ إليهَا وهي تُلقي عليَّ ما نَظمَتْ فِي حُبِّ الأمِّ صباحَ كلِّ خميس.

تتعالَى أصواتُ المشاحناتِ في الحيِّ، فأسَارعُ نحوَ النَّافذةِ أترقَّبُ ظُهوركَ بينَ المتشاجرينَ ولا أراكَ. لنْ تفهمَ خوفِي، لكنَّك ستشعرُ به، ستشعرُ بالضَّيْقِ وكأنَّني أحاصِرُك، وربَّما ستقولُ لصديقكَ كمْ تَغْبِطهُ على أمِّهِ المُتفهِّمةِ التي لا تُعيرهُ اهتمامًا، ولا تسألُه مَنْ مِنَ المُغادرانِ يكونُ محمَّد، قُدِّر عليكَ أن تُولدَ في أُسْرةٍ كئيبةٍ -هكذا سترَاها- مفُعمةٌ بالأخوية، لابُدَّ أنْ تكونَ نقيًّا تجيدُ تنظيفَ الأحْذية، ذكيًّا تعرفُ منْ خلالِ الاسم أيُّ نوعٍ ذاكَ مِنَ الأدوِية، لا تُمانعُ أكلَ الخُضراواتِ المُغذِّية.

ذاتَ مرَّةٍ، سألتْنِي الجارَةُ عنْ مجالِ دراستِك، لكنَّني نسيتُ أنْ أخبِرَها أنَّك كنتَ تريدُ أنْ تُصبِحَ ملاكمًا، قبلَ أنْ أجيبَها "سيصبحُ..!" ولمْ أُكمِل. حاولتُ أنْ أتذكَّر اسمَك، مَلامحك، صَوتك حينَما ناديتنِي "ماما" للمرَّةِ الأولى، لكنَّني لمْ أتذكَّرْ أيًّا منْ هذا.. ربَّما كانَ والدُك يرغبُ أنْ يُسمِّيك على اسمِ والدِه، رُبما كتبنَا الأسماءَ فِي أوراقٍ واخْترنا من بينهَا عشوائيًا، أوْ لا، رُبَّما أنا منْ اختارتْهُ اسمًا لك، كلُّ ما أذْكرُه أنَّ اسمكَ جميلٌ، استثنائِيٌّ، يشبهُك، يشبهُ نقاطَ النَّمشِ على ظهرِ والدِك، يشبِهُ زَمَّهُ للشِّفاه أثناءَ الابتسام، يُشبه تفاصيلهُ، فلوْ اخْترتهُ أنَا فهكذا ينبغِي أنْ يكُون.

{أمُّك تُناديك}، تردُّ عليها وتتجَاهلُني مَع أنَّني مررْتُ بجانبِك، لكنَّك لمْ تَلمحني، كُنتَ تنظرُ إليهَا، وأنتَ عائدٌ منْ رحلتكَ الجَامعية إلى 《أصيلة》 -لا أعلمُ سببَ تذكُّري لأصيلة تحديدًا، لكنِّي على يقينٍ أنك ذهبتَ إليها فِي رحلةٍ يومًا مَا، فكلُّ المغاربةِ يفعلُون- فرحًا تُغازلُها فِي الشارعِ الرئيسيِّ الذي مررتُ منْهُ صُدفةً وأنا فِي طريقِي لأستقلَّ قطارَ الرَّابعة، فعَرفتُ فورَ رُؤيتِكَ أنَّكَ ابنه، ابنُ وَالدك .. [ابنُ وَجعِي]..
-
*راوية يوسفي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.