الصفحات

الفنانة التشكيلية أميرة عبدالعزيز تكتب: سحر أسطورة عصر الفن القديم

⏪⏬
ماذا لو كنت تسير في حديقة ذات أشجار كثيفة وأطلتَ النظر في جمال وروعة الأشجار العتيقة بها والجذور الممتدة بإنسيابية إلى باطن الأرض وكأنها أذرع مجتمِعة بقوة ورقة تحتضن الأرض بحنان مثل الأم التي تضم أبناءها إلى صدرها بعطف الأمومة وحبها، لا شئ يهم الجذور سوى تثبيت الشجرة في باطن الأرض وجعلها كالوتد الشديد لا شئ يستطيع أن يهزه و ينال منه كعاصفة أو ماشابه ذلك، فترى في قِدم الجذور أصالة وجمال وهيبة وقوة، مثلما ترى في حضن الأم لأبنائها الحماية والأمان والعطف، لا تريد الأم شيئاً سوى إسعادهم وتوصيلهم إلى بر الأمان بحضنها الدافئ، وصدرها الذي طالما ينبض قلبها الساكن بين جنبات أضلعه بنبضات يسمعها وليدها فيطمئن ويهدأ ويشعر بالأمان والدفئ.
وهنا يأتي سؤال يطرح نفسه وبمعنى أدق نسأله ويتساءل عليه كلٌ منا لغيره ولنفسه.. السؤال هو: من منا لا ينجذب إلى كل ما هو قديم..؟!
والحقيقة أننا نعرف جيداً إجابته ولكن وجود السؤال هنا لتلحَقٌ به إجابة محتواها حب وتقدير واعتزاز بشئ ملئ بالجمال يقعُ في أنفسنا موقع السحر…
إننا دائماً ننجذب وبشدة إلى كل ما هو قديم بجمالهِ وبساطته ورقته وأصالته.
ألم أقل لكم أن كل ما هو قديم له وقع السحر في النفس، أو ربما تميلٌ له النفس لصدقه وأصالته.
هذا حال الفن القديم الذي نُطلقُ عليه “العصر الذهبي” لما له من جذور تسكن بداخل كلٍ منا بأصالته واحترامه لعقول البشر ، لأنه كان يهتم ببناء وتنمية شخصية الفرد النفسية والمعنوية ويحثُ دائماً على التضامن العائلي والمجتمعي.
لكن ما الذي يدعونا إلى وصف العصر الحجري القديم بأنه أسطورة محيرة للعالمِ كله..!؟ هل لأنه كان مرتبط بالطبيعة..؟ أم أن الغالبية منا يحاولُ أن يعطي الإمتيازات دائماً لكل ما هو مبني على أساس الوراثة، أو كما ذكرنا من قبل فكرة التضامن والإنتماء إلى الجذور..!؟ والواقع الذي لا مفر منه أننا نشعر بها وتهفو إليها أرواحنا وقلوبنا لما تمتازُ به من الأصالة والجمال والدفئ..
وأياً كان الأمر فإن الشعور بأن ما هو قديم ينبغي أن يكون هو الأفضل، ومازال له من القوة ما يجعل مؤرخي الفن وعلماء الإجتماع والجمال والفنانين يحاولون إثبات أن أقرب الأساليب الفنية إلى قلوبهم هو أقدمها عهداً، فالبعض منهم يرى أن أقدم مظاهر النشاط الفني هو المبني على مبادئ شكلية وعلى إضفاء إسلوب زُخرفي ذو طابع مثالي على الحياة، والبعض الأخر يؤكد أن أقدم هذه المظاهر هو ما يقوم على محاكاة الطبيعة للأشياء.
وبين هذا وذاكَ يختلف موقفهم تبعاً لنظرتهم للفن، بمعنى هل إتخذ الفنان من النشاط الفني وسيلة للسيطرة على الطبيعة وإخضاعها، أم أن الفن كان مجرد أداة للإستسلام والخضوع لها.
مما لا شك فيه أن الآثار الباقية من العصر الحجري القديم توحي بل وتُؤكد أن الإتجاه الذي يعطي الطبيعة حق الأسبقية في ارتباطها بالفن ومحاكاة الفنان لها في شتى أنشطته الفنية، ولِمَ لا وقد خلقها الله بما فيها وما عليها وسخرها للإنسان.
وأكثر ما يُدهِشُكَ في فن العصر القديم الذي يعطي انطباعاً بالبدائية والبساطة في التكوين الفني أنها تكشف عن جميع المراحل المميزة للتطور الذي مرَ به الفن بعد ذلك في العصور الحديثة.
إنه فن خالص يرتقي بالإخلاص الفني الحرفي للطبيعة يكاد يصل في طريقة تصويره للأشكال الفردية من جهد وعناية بالتفاصيل إلى أسلوب أكثر مرونة وتألقاً يقترب إلى حد الإنطباعية Impressionism بشكل يبدو تلقائياً، ويدل هذا على فهم متزايد للطريقة التي يمكن بها إعطاء الإنطباع البصري النهائي شكلاً يزداد فيه الأداء المعجز وترتفع فيه دقة الرسم وحيوية الحركات واللفتات المتزايدة السرعة والتجسيمات والتقاطعات الشديدة الجرأة ما يجعلك تقف أمام شكل حي متحرك بإمكانه معالجة مشاكل الواقع والتعبير عنه بأكثر من وسيلة فنية.
⏫جدارية بمعبد منتوحتب الثاني (2060-2010) قبل الميلاد

ويالها من جدارية عبقرية..! فقد تبدو للوهلة الأولى صورة عادية ولكن نظرة البقرة إلى رضيعها وهي تبكي منتهى التعبير عن الواقع وعما يحدث منذ فجر التاريخ إلى الآن ، وإلى هذه اللحظة.. في الجدارية يُصور النحات أحد الأشخاص يقوم بحلب البقرة ورضيعها مربوط في إحدى قدميها ويبدو هزيلاً ضعيفاً محروم من الغذاء بينما هي تقف تبكي ودموعها تتساقط من عينها على خدها وهي تُسلب حليبها الذي هو الغذاء والروح لرضيعها، بينما ينال الغريب كل موارد ومكاسب الشعب ويترك أبناؤه في فقر شديد.
تُرى أي فلسفة فنية كان يتمتع بها فناني هذا العصر ..! والذي بحق يستحق أن يُطلق عليه العصر الذهبي.
وأما العجيب في هذا العصر أن التصوير فيه يبلغ من نقاء الشكل والتلقائية والتحرر من كل قيد عقلي فيعطي لمتذوق هذا الفن والمشاهد له انطباعاً بصرياً لن تجد له نظير في تاريخ عصور الفن اللاحق له إلا عند ظهور النزعة الإنطباعية الحديثة.
وكلما بحثنا نكتشف فيها دراسات للحركة التلقائية بكل مرونتها وحيويتها التي تذكرنا بالصور الفوتوغرافية الحديثة، ومثل هذه الدراسات لا نجد لها مثيل إلا في لوحات فنان مثل ديجا Degas أو تولوز لوتريك Toulouse Lautrec .

والأعجَبُ من ذلك أن فناني العصر القديم كان بإستطاعتهم أن يروا ويكتشفوا تلك الفوارق والإختلافات اللونية الدقيقة بمجرد النظر إليها بالعين المجردة ، فقد كانوا يمتلكون حث فني عالي تلقائي في الوقت ذاته، ومثل هذه الفوارق لا يستطيع إنسان العصر الحديث إكتشافها وملاحظتها إلا باللجوء إلى أدوات علمية معقدة تساعده على ذلك.
وبالرغم من أنه كان يرسم مايراه بالفعل في لحظة ولمحة واحدة للموضوع بدون أبعاد وبعيداً تماماً عن الظل والنور، ومع ذلك فقد توصل إلى وحدة الإدراك البصري التي لم يُحققها أي من العصور اللاحقة عليه بعد ذلك… وللحديث بقية…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.