الصفحات

من رواية "رجل الضفّتين" ... لـ صفية قم عبد الجليل

⏪⏬
... قيل لي إنّهم بعد الإسعافات الضّروريّة، نقلوني إلى بيتي تحت المراقبة الأمنيّة والصحيّة. ووجدتُ نفسي بين المُعزّين الّذين أعرف بعضهم ولا أعرف أكثرَهم، صمّاء بكماء، أنظر إليهم في بلاهةِ من لم يستوعب ما حدث! أبنائي حولي واجمون، صامتون وعيونهم تهمي مدرارا. يرشّون وجهي وأطرافي ببعض ماء الزهر والورد ويقبّلونني بلا هوادة ويسقونني ماء ليس كالماء ويجثون تحت قدميّ كمن يخشى رحيلي بعد أن اكتووا بجهنّم موت أبيهم المفاجئ الغريب. أهلي وصديقاتي يحُفّون بي ويجتهدون في مواساتي ويبكون لبكائي ويمسحون دموعي الّتي أبت أن تجفَّ. خلق كثير جالسون، قائمون، متململون، يثرثرون كثيرا ويصمتون قليلا. صوتُ عبد الباسط يتلو آيات بيّنات في هذا المشهد السرياليّ الّذي باغتني ولم أَستعدّ له، ولا أحد يُنصتُ إليه فيعتبر! أفواج تأتي وأفواج تغادر، وأنا جاثمة في ذات المقعد كصنم أبي الهول، عاجزة حتّى على ردّ التعازي بكلمة "يْعَيِّشِكْ" الّتي تتلجلج في صدري ولا ينطقها لساني! كنتُ كآلة مبرمجة، أومئ برأسي وكَفَّيَّ كمن سيُقيم الصّلاة! حملوه في تابوت خشبيّ إلى مثواه الأخير. لم أحضر تغسيلَه ولا تكفينه! قيل لي إنّ المستشفى قام بالواجب، بعد التّحاليل والتشريح! ولم أفهم لماذا فعلوا به ذلك! هل هو من مدمني الحشيش أم وجدوه سكران ليعبثوا بجثّته؟! منعوني رغم إصراري وتوسّلاتي من مرافقته إلى سَكَنه الجديد! قالوا إنّ هذا ليس من عُرْفنا! احتججتُ بأنّ الدين لم يمنع، فأيّهما الأجدر بالاتّباع؟! قالوا: "ليس الآن وقت حجاج وتفلسف. لا يُشيِّع الميتَ غيرُ الرّجال!" انتحبتُ ضعفين، عليه وعليّ! ولذتُ بغرفتي أندُبُ حظّي وترمّلي، بل وثكلي... رضوان ليس زوجا فحسب. هو صديقي وحبيبي وزوجي وابني المدلّل أيضا، طيلة فترة مرضه وهشاشته... أخرجوني من غرفتي، وألزموني بتلقّي التعازي ممّن أعرف وممّن لا أعرف، ممّن تألّموا لمصابي وجاؤوا باكين مواسين وممّن اقتضت العادات أن يتردّدوا على دار الميّت، نهارا وليلا، يثرثرون ويتناقلون الأخبار وينصرفون كأنّ شيئا لم يكن! في غمرات حزني عليه، لم أُسْأَلْ عن ظروف موته، ولم أسأَلْ أحدا، واكتفيتُ بما قيل لي يوم عثروا على جثّته؛ فمصيبتي كانت أكبر من أن أبحثَ لها عن عِلَلٍ. بقلبي مقبرة، يُقيمُ فيها كلّ حزني عليه ودفنتُ بجانبه كلَّ الفرح والوعود الّتي كانتْ. رضوان لم يقتله المرضُ ولا الإرهاقُ. لقد تغلّبنا عليهما، وكدنا ننتصر ونحتفل ببدء عهد جديد. رضوان قتله الأجلُ! ضربةٌ مجنونةٌ قاصمةٌ قتلت الحلمَ الوليد، غرّةً بعد معاناة مريرة وشرّدت اللّوحة الفريدة أشلاء، حتّى لا يبقى له أثر يُخلّدُه كما أراد وكما حلم. يدٌ غادرة أردته عدما! لا مجال للفنّ والحلم في أرض قاحلة بور؛ لا مجال لمن يُغرّد خارج السرب! هذه الأرض لم تكن بورا ولا قاحلة. التتار الجديد أحرق الأخضر واليابس، ونبش القبور والزّوايا، وأعدم الفكر والفنّ، وحارب النور ليسدل العتمة... رضوان كان علامة مميّزة لفسيلة نادرة نبتت وسط القحط. لم تجد من يرعاها فذبُلت ثمّ ماتت وبها ظمأ إلى النّور، نور الفنّ الأصيل والحياة السامية... منْ قتل رضوان؟! هذا السّؤال يغتالني كلّما اختليتُ بنفسي! رضوان كان بينه وبين الشمس خطوة! اغتيل بليل، بظلمة حالكة. أجهضوا حلمه وقد أوشك على الوضع بعد مخاض عسير! التقرير الشرعيّ ينصّ على إرهاق مزمن، فارتجاج بالجمجمة على صخرة ناتئة، فنزيف داخليّ حادّ... هل أصدّقهم والبلاد كلّها تعيش كذبة كبرى؟! الكذبة الكبرى أن تكذب وتعلم أنّك تكذب وتعمل جاهدا على أن يُصدّقك الآخرون! كذا شأن ساسة هذا البلد والقائمين عليه... فهل أصدّقكم؟! لا اعتراض على حكمك يا الله، أيا أعدل العادلين؛ لعلّك أرحتَ رضوان من مآل أسوأ، في بلد لا يزال ليلُه طويلا، طويلا...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.