الصفحات

محمود درويش والتوراة ...*سامي مهدي

⏪⏬
في نيسان 2012 نشر الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة مقالاً بالعنوان أعلاه ، نشره في الصفحة الأولى من ملحق الدستور الثقافي : شرفات ثقافية . وذكر في هذا المقال أن الأثر التوراتي في شعر الراحل محمود درويش قد استوقفه ، وتساءل : هل كان درويش يعتبر
التوراة أحد مصادره الشعرية ؟ وقال عنه إن التوراة ” أثرت فيه وعليه إلى درجة الاستلاب ” ثم تساءل مرة أخرى ” هل وقع ( درويش ) تحت سطوة الأدب العبري ، والتوراة بالتحديد ؟ ” وقال : إن درويش ” نقل مقاطع كاملة من التوراة باعتبارها من تأليفه ، أي من دون إشارة إلى المصدر ، لا من قريب ولا من بعيد ” وجاء بمقاطع وأبيات من ” جدارية محمود درويش ” وقارنها بنصوص من التوراة دعماً لرأيه . ثم نقل عن القس متري الراهب ما مفاده : أن درويش كان متعلقاً بسفر الجامعة ، وكان ملماً بالعهدين القديم والجديد ، إلى درجة أن الراهب وصفه بأنه كان ” لاهوتياً ” . ثم ختم حوامدة مقاله بالقول : إن الأثر التوراتي في شعر درويش لا يحتاج إلى دليل ، فقد قال هو نفسه ذات يوم : لقد قرأت التوراة بالعبرية ، وأحببت ركاكة بعض الترجمات العربية . وقال حوامدة ” لا غبار على ذلك ، لكن نقل بعض المقاطع كما في الأصل التوراتي تجعلنا نتحفظ على هذا النقل الحرفي . ”
واضح مما تقدم أن الشاعر حوامدة يعد اقتباسات محمود درويش من التوراة وإحالاته إليها مأخذاً عليه ، بحجة النقل الحرفي ، وهو يؤاخذه من ناحيتين ، الأولى : ثقافية ، وهي أن تأثر درويش بالتوراة قد بلغ ، في رأيه ، درجة الاستلاب ، والثانية : أخلاقية ، وهي أن درويش لم يشر إلى التوراة برغم ما أخذه منها .
والواقع أن من يقرأ شعر محمود درويش قراءة شاملة فاحصة لا يجد فيه هذا التأثر الذي يصفه الأستاذ حوامدة . فمرجعية شعر درويش الثقافية مرجعية عربية ، وليست توراتية ، ومصادره الثقافية عديدة وغزيرة ومتنوعة ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، وهذا ما تدل عليه عامة كتاباته ، وخاصة شعره وما فيه من تناصات وإحالات ورموز وإشارات كثيرة ، قريبة وبعيدة ، ولاسيما في طوره الشعري الأخير ، وما التوراة إلا مصدر من مصادره التي لا تحصى .
إن من تنطبق عليه تحفظات حوامدة ، أو بعضها ، هو شاعر فلسطيني آخر ، هو توفيق صايغ ، وليس محمود درويش . فقد كان صايغ معجباً بأدب التوراة كل الإعجاب ، وكان يعد هذا الأدب تراثه الحقيقي ، وليس التراث العربي ، إن لم يكن بوصفه شاعراً سورياً ( بالمعنى الذي حدده الحزب القومي الاجتماعي السوري ) فبوصفه شاعراً مسيحياً ( بالمعنى الديني الضيق ) . وقد طمح منذ بدايته إلى كتابة ” شعر مسيحي ” في رؤاه ولغته ورموزه . وهذا ما أوضحته بجلاء ، وبتفصيل ، في كتابي : تجربة توفيق صايغ الشعرية ومرجعياتها الفكرية والفنية . ( دار رياض الريس للنشر / بيروت / 2009 ) . وما ينطبق على صايغ في هذا المجال لا ينطبق قط على درويش .
ويبدو إن اقتباسات محمود درويش من سفر الجامعة في جداريته هي ما جعل الأستاذ حوامدة يدلي بتحفظاته . فهذه الاقتباسات كثيرة نسبياً ، ومحصورة في صفحات ست متتابعات ، ومأخوذة من إصحاح واحد من إصحاحات السفر هو الإصحاح الأول ، فبدت في القصيدة كثبفة وواضحة للعيان ، ولكن درويش لم ينقلها كلها نقلاً حرفياً ، بل القليل منها ، فقد تلاعب بها وحرف صياغاتها ، قليلاً أو كثيراً ، وأخضعها للوزن ، وقاطعها بعبارات منه ، وجعلها في خدمة نصه الشعري ، وقد خدمته من دون ريب . ولكن هل فعل درويش هذا في غير الجدارية ؟ والجواب : لا ، من دون تحفظ .
علينا أن نتذكر أن درويش كتب جداريته وهو مريض يصارع الموت ، وحاول فيها أن يعبر عن ” موقفه ” من قضية الحياة والموت ، ويقدم لنا خلاصة ” الحكمة ” التي توصل إليها بتأملاته في هذه القضية في السنوات الأخيرة من عمره ، وبعد ما حظي به من مكانة شعرية متقدمة وشهرة واسعة ثقافية وشعبية . وقد فعل ذلك بطريقة متوازنة دلالياً وفنياً وثقافياً . فعبر أولاً عن جزعه من الموت ، بإحالتنا إلى البطل السومري كلكامش وجزع كلكامش من الموت الذي أودى بصديقه أنكيدو ، ورحلته للبحث عن عشبة الخلود وعودته من هذه الرحلة خالي الوفاض إلا من قلقه وحيرته ، ليجد أخيراً أن الموت أمر لابد منه وأن الإنسان يمكن أن يخلد اسمه بأعماله الجليلة ( ملحمة كلكامش ) . ثم عبر درويش عن ” الحكمة ” التي توصل إليها بإحالتنا إلى الملك سليمان ، المعروف في الثقافة الشعبية بسليمان الحكيم ، والملقب بالجامعة بن داود ، وما توصل إليه هذا الملك من ” حكمة ” بعد أن حظي بالملك وتمتع بامتيازاته وتحمل ذنوبه وخطاياه ، فاكتشف أن ( الكل باطل وقبض الريح ) وأن الإنسان لا يجني شيئاً حتى من كثرة الحكمة ( لأن في كثرة الحكمة الغم ، والذي يزيد علماً يزيد حزناً ) . ( سفر الجامعة ) .
هما موقفان إنسانيان إذن ، بغض النظر عمن يكون كلكامش ، وعمن يكون سليمان ، وإلى من ينتمي هذا وينتمي ذاك . موقفان تبناهما درويش ، لأنهما وافقاه ، وعبر عنهما بتكامل وبتوازن دلالي وثقافي ومهارة فنية .
ومن التعجل في رأيي القول : إن محمود درويش لم يشر إلى المصدر الذي اقتبس منه ( لا من قريب ولا من بعيد ) . فهو في واقع الأمر قد أشار إلى مصدره إشارة واضحة ، قبل أن يعرض ” حكمته ” التي توصل إليها وبعدها ، أشار إليه بطريقة شعرية ، في تساؤله :
من أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حكمة الجامعة ؟
( الجدارية / ص 86 )
ثم أعاد الإشارة إليه في النهاية في قوله :
هل يضيء الذهب
ظلمتي الشاسعة ،
أم نشيد الأناشيد
والجامعة ؟
( الجدارية / ص 91 )
فنشيد الأناشيد ، وسفر الجامعة ، وكلاهما ينسبان إلى سليمان ، هما سليمان الملك في حالتيه : حالة إقباله على الحياة وتمتعه بالملك وسطوته وامتيازاته ومباهجه ، وحالة شعوره بخطاياه وذنوبه ، وجنوحه إلى الزهد والبحث عن الحكمة ، وإحساسه بالإحباط ، لأن ( الكل باطل وقبض الريح ) .
وحتى لو لم يشر درويش مثل هذه الإشارة لما كان في ذلك مأخذ عليه . فالتوراة كتاب معروف بنصوصه ورموزه وقصصه وأساطيره بين قراء العربية ، وهو متداول على نطاق واسع ليس بين العرب المسيحيين فقط ، بل بين الكثير من المثقفين والمتعلمين العرب المسلمين . والإشارة إلى كتاب معروف ومتداول كهذا بهامش تقليدي في ذيل قصيدة ليست ملزمة ولا ضرورية ، بمعايير النقد الأدبي الحديث في الأقل . وقد كان الشعراء العرب ، وما يزالون ، يحيلون إلى نصوص التوراة ويقتبسون منها دون أن يجدوا ضرورة للإشارة إلى مرجعها ، ومن هؤلاء : جبران خليل جبران وإلياس أبو شبكة وسعيد عقل وتوفيق صايغ وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم . ولم يقتصر هذا على الشعراء المسيحيين ، بل شمل الشعراء المسلمين بدرجة أو بأخرى . وكذلك شأن شعراء الغرب المسيحي . فهم يقتبسون من نصوص التوراة ويحيلون إليها دون إشارة إلى مرجعها . وما دمنا نتحدث هنا عن سفر الجامعة حصراً فيمكننا القول : إن الشاعر الإنكليزي المعروف ت. س. إليوت قد أعاد كتابة هذا السفر دون أن يشير إليه ، كتبه بصياغته هو ، وبروحه هو ، ولكن على غراره في عنايته بالتفاصيل ، في قصيدته الرائعة : الرباعيات الأربع . وقد أحالنا إلى هذا السفر في أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله :
البيوت تحيى وتموت : للبناء وقت
وللعيش وللولادة وقت
وللريح وقت لتكسر لوح الزجاج المرتخي
ولتهز الإفريز حيث يخبط فأر الغيط ..
( رباعية إيست كوكر )
فقد أراد إليوت بقصيدته هذه كتابة سيرته الروحية ، كما فعل الملك سليمان في سفر الجامعة ، وأراد توفيق صايغ كتابة سيرته الروحية هو الآخر حين كتب قصيدته ” معلقة توفيق صايغ ” . وربما هذا ما أراده محمود درويش حين كتب جداريته ، وقد نجح هو من حيث أخفق صايغ في رأيي .
على أية حال ليس هناك ، في ظني ، ما يمكن أن نؤاخذ محمود درويش عليه في ما فعله على هذا الصعيد ، لا ثقافياً ، ولا أخلاقياً ، ولا فنياً . ومن التعسف أن نتوهم أن للأدب العبري ، وخاصة التوراة ، سطوة عليه . وكونه قرأ التوراة بالعبرية وألم بنصوصها هو من حسناته الثقافية ، وليس منقصة تحسب عليه . أما مرجعيته الثقافية الأم في شعره وفي عامة كتاباته فهي الثقافة العربية . وإذا اقتبس شيئاً من خارج هذه الثقافة ، أو أحال إلى هذا النص الأجنبي أو ذاك ، أو استخدم رمزاً من الرموز الأجنبية فلا لوم عليه .
وينبغي لنا ، في الأخير ، ألا نتطير من استخدام رموز التوراة ، أو الإحالة إلى نصوصها ، أو الاقتباس من هذه النصوص ، في ما نكتبه من شعر وأدب . فالمهم هو أن ننجح في استخدامها وتوظيفها في خدمة نصوصنا فنياً ودلالياً . وعلينا ألا ننسى أن التوراة نفسها ليست كتاباً منزلاً ، ولا هي بضاعة يهودية خالصة ، وأن مرجعياتها الثقافية هي آدابنا القديمة نحن ، وأعني : الأدب السومري ، والأدب البابلي ، والأدب الفرعوني ، والأدب الكنعاني . وبقدر معرفتي بأدب العراق القديم أستطيع القول باطمئنان إن من مؤثرات هذا الأدب في أدب التوراة : قصة الخليقة التوراتية ، وقصة الطوفان ، وقصة خلق حواء من ضلع آدم ، وقصة إخراج آدم من الجنة ، وقصة هابيل وقابيل ، وقصة ولادة موسى وإلقائه في اليم ، فضلاً عن تأثيره المباشر في سفر أيوب ، ومراثي إرميا ، ونشيد الأناشيد ، وسفر الأمثال ، وقد كتبت عن ذلك بتفصيل في كتابي ” نظرات جديدة في أدب العراق القديم ” ( دار أزمنة / عمان / 2007 ) . ثم أن التوراة باتت جزءاً من مرجعياتنا الثقافية العربية والإسلامية شئنا أم أبينا . ففي مرجعياتنا هذه الكثير من المعتقدات والقصص والخرافات التي تسللت إليها من هذا الكتاب منذ العصور الإسلامية المبكرة ، وعرفت ، نقدياً ، بالإسرائيليات .
وبعد فإن ما فعله محمود درويش في جداريته لا يدخل في باب ( الانتحال ) كما قد يذهب بعض الذاهبين ، بل يدخل في باب ( التناص النصي ) بمصطلح النقد الأدبي الحديث ، أو يدخل في باب ( التضمين ) بمصطلح النقد الأدبي العربي القديم الذي كتب عنه ابن رشيق فصلاً من كتابه ( العمدة ) . وقد سجلت أكثر من أربعين تضميناً وإحالة وإشارة إلى نصوص ورموز وأسماء ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، في جداريته وحدها ، وهذا مما يدل على سعة ثقافته وبعد أفقه . وخلاصة القول : إن الشاعر محمود درويش أكبر ، فنياً وأخلاقياً ، من أن ينتحل . ومن يريد الانتحال لا يلجأ إلى مصدر معروف ومتداول ، كالتوراة ، بل يذهب إلى ما هو مغمور ومطمور
-
*سامي مهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال منشور في كتاب ( آفاق نقدية ) للكاتب الصادر عن دار ميزوبوتاميا / بغداد / 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.