الصفحات

والشاعرُ بالشاعرِ.. يُذكر؟ ...*إبراهيم يوسف - لبنان


⏪⏬ - والشاعرُ بالشاعرِ.. يُذكر؟
من أحاديث شمس الجبل وجانب من سيرة السيد علي الحسيني

مع جزيل الشكر وغاية الامتنان للدكتور أحمد شبيب دياب ملك الخواطر واللماحة ودسامة الحديث

يحلو له بدل الوضوء؟
أن يَتَيَمَّمَ بغبار المعارك
التي خاض غمارها في مدى ما حفلت بها أيامه
أشد تصميما وبهاء من "دون كي شوت" المجيد

يقارع رياح الليل العنيفة
وصقيع الشتاء وصوت المزاريب
بسيفه المكسور وحصانه الأعرج
في زمن عزَّت فيه سيوف اليمن
وأمجاد الخيول المطهمة الأصيلة

ويردُّ بعد الغياب من وراء صنين شمس الجبل
إلى أصلها السِّرياني القديم
ليتلو صلاته الحارة في موعدها
ويمارس طقوس عبادته في الليالي الطويلة

و الشكر له أيضا على بالغ عنايته
في الاحتفاء بتكريم وذكرى
الشاعر الطبيب السيد "علي الحكيم"

والشكر كذلك... لعزّة الحسيني
ابنة المحتفى به وسائر أسرتها الكريمة

http://assanabel.net/archives/4680

إبراهيم يوسف - لبنان

ومني أنا المتردّد الخَجِلُ... المكسور
باقة أزهار مرويّة من مياه
صنين تنحدر برشاقةِ متزلجةٍ على الجليد
وتصب في البردوني
فتروي وتحرِّض على جانبيه
شذا النسرين
ليفوح في أرجاء وادي العرايش

يؤمه المتعبون في الدنيا
طلبا للسكينة والهدوء

وكؤوس خمرٍ من أقبية كسارة
مترعة حتى الشفاه
عَصَرَتْها أقدامُ حورية من دار السلام

"تسقيكَ من طرْفِها خمرًا
ومن يدها خمرًا
فما لك من سُكْريْنِ من بدِّ"

ومن مرصد كروم كسارة وأقبية النبيذ
المعتق بسمة حب.. ولفتة وفاء وتقدير
لميشال طراد
توأم الشاعر... الطبيب

إنت وأنا عم يسألونا كيف..؟
منضل شو بيحلالنا... نغنّي
ما بيلتقى مرات عنّا رغيف
ومنعيش بأطيب.. من الجنة

عم تمرقي... عا حفّة الشباك
هالتاركو صبح ومسا مفتوح
ولو، ما عاد تسألي شو باك؟
ولا عاد ياخدنا القمر ويروح

ميشال طراد

وعلى خطى السيد علي الحسيني؟
والشُّعراء.. يَتَّبِعُهُم الغَاوُون

عيون السُّود مكحّلي... يا خمرِ الدّوالي
والحبّ في عهدِ الهوى عمرو دوالي
عليل القلب والنومْ في حضنكْ دوالي
من لهفتي جنّ قلبي.. ما تعلّم ولا تابْ

من وجد عيبا، أو نشازا في العتابا..؟
فليقومه وأنا راض وشاكر لمن يفعل

شعراء العتابا... والعامية "مغمورون"
يجودون بالطرب وفرح الحب على القلوب
دون أن ينالهم من الشهرة ما يستحقون

ومن لم يقتنع ويصدق ما أقول؟ فليستمع لملحم زين
هذا الشاب المهيوب، صاحب الصوت العذب الرخيم


لم تكن الضيعة تتعدى دسكرة متواضعة، تنام باكرا فيحضن ليليها أكواخ الفلاحين؛ وكل أهاليها يعرفون "السيد علي الحكيم"، وكنت أعرف بيوتها وأسماء ساكنيها فردا فردا. وفي الجوار الأبعد والأدنى كان السيد معروفا من الجميع.

كثيرا ما كنت ألتقيه في الطريق عائدا إلى بيته، أو يحمل حقيبته متوجها ليعود مريضا في منزله. لكنني عرفته مباشرة للمرة الأولى عندما كنت طفلا؛ عالجني يومئذ بالبنسلين أهم مضادات العصر، من طفح جلدي انتشر على وجهي، وحينما شفيت؟ لم يصبني ما توقّع وروّع أهلي من التشويه. ولم يعاودني الطفح اللعين لا من قريب أو بعيد.

وعرفته للمرة الثانية في العام الذي تقدمت فيه من امتحان الشهادة الابتدائية "السرتفيكا"، وأنا في الصف الخامس ابتدائي. كان يعرف أبي عن قرب ويكِنُّ له مودة عالية، لأمانته ومسموعاته الحميدة بين الناس، وشهرته في العناية بأرضه. كنت أجلس على المقعد المجاور له، في حافلة تقوم برحلة واحدة في اليوم إلى بيروت، وتعود مساءً إلى الضيعة من جديد، وتمر في رحلتها على العديد من المدن والبلدات، حينما أقلتني من زحلة حوش الأمراء في الطريق.

حدثني كما يحدث الرجل الرجل، وأشعرني بالغبطة والاعتزاز، وهو يهتم لأمر فتى لم يتجاوز عمر المراهقة بعد. وسألني وهو يبادلني الحديث أن أعرب له : اشتريتُ حصاناً كريمٍ. كدتُ أصحِّحُ له حصانا كريما؟! لكنني انتبهت إلى الفخ الذي نصبه لي. ما ساعدني حقا أن الرجل معروف بثقافته الواسعة، ولا يمكن أن يرتكب ما تراءى لي أنه خطأ.

كان النجاح حينئذٍ في امتحانات شهادة "السرتفيكا" سقف المدرسة؛ مفخرة الأهل والمعلمين. وما يستحق الإشارة إليه بعيدا من الإعراب، ومن حصانٍ أراده السيد على الحكيم أحلى من غزال وأرشق من الريم. حينما علّمنا مدرس اللغة الفرنسية آفة الطمع، وكيف نصرِّف فعل ما نملك avoir، قبل أن يعلمنا فعل être كيف ينبغي أن نكون.

وكان وهو "المتنوّر الفهيم" يتمادى في عقابنا، فيصفعُنا على وجوهنا ولا يكتفي؟ ليستخدمُ حينما لا تدعو الحاجة عصاً يختارُها من شجر الرُمّان، بالغة العقدِ يلهبُ بها أصابعَ أيدينا، فتفقدُ الإحساسَ بفعل الخدر.. والبرد الفظيع.

ولم يعلمنا أستاذ التاريخ والجغرافيا والأناشيد، أن الجبل الذي لا تغيب عنه الثلوج قبالتنا حتى أواخر الصيف، ويحاذي البلدة من الغرب هو بعينه جبل صنين - الكتاب. عرفت أنه صنين الأشم بعد أن تجاوزت الابتدائية بسنوات. أما المدير طيب الله ثرى الجميع؟ فكان يعلمنا مادة العربي ووسيلته العصا، فلا يختلف عن مدرس الفرنسية الكريم.

وكنتُ أنافقُ لأهلي عن اهتمامي ومحبّتي لمدرستي، وضغينتي المُبيَّتة لمجدِه ورمزِه وأنا أردّدُ النشيد الوطنيّ في الصباحات الباردة، التي لا يتحملها طفل هزيل مثلي، ولا زلتُ أنافقُ حتى اللحظة أن لبنان بلدٌ عظيمٌ بحكامه وأهله!

حمدا لله؛ فقد تعززتْ أحلامُ أولادي، وتغيَّرَت أساليب التعليم فاختفى العقاب بالعصا، وتبدَّلت أساليب التربية وألوان الكتب ورائحة الأوراق العثة الصفراء تثير حساسية الأنف، ولم يكتفوا بالكتب الملونة الجذابة فحسب؟ بل اسْتُبْدِلت صورُ الكتبِ بدمىً تتحركُ على الشاشات المُتنوّعة، تسلبُ عقولَ الأطفال وتشغلُ فكرَ الصغار والكبارِ على السواء.

وقبل سنوات من الابتدائية وقع لي بعض ما يستحق تدوينه في "محاضر أحاديث شمس الجبل"، لمالكها أحمد شبيب دياب، ومعه صكٌ بها بلا منافس أو شريك. كنتُ يومئذ طفلاً في بداية عمري، حديثَ العَهدِ بالمدرسة أرْتَبِكُ وأنا أكتب وأقرأ؟ وكنت ألهو في أرضٍ ترابية مكشوفة، حينما وجدتُ قطعةَ نقودٍ معدنيَّة في الحاكورة جنبَ الدّار، فرُحْتُ أحكُّها لأزيلَ عنها التراب، وبدأتُ أتهجّأ ما رأيتُه مكتوباً؟ فَ، فَلَسْط، فلسطين. تعثرتُ طويلا لكنني تمكنت أخيرا من قراءتِها.

كانَ أبي رحمهُ الله يراقبُني ويسمعُ ما أتهجأ، حينما تمكَّنتُ بجُهدٍ وتعثّرٍ من لفظِ المفردة كاملة. هكذا لم يتركْ ماراً في الطّريق المحاذي التي تشرفُ عليه دارُنا؟ إلاّ وأخبرَهُ بالواقعة وذلكَ الفتح العظيم. صدقاً.. لا زلتُ حتى السّاعة أحتفظ بهذه الذكرى، وأشعرُ بفيضٍ من الاعتزاز بما قاله أبي، وبأنَّ فلسطين.. أولُ مفردةٍ قرأتُها في فجرِ طفولتي.

واقعة أخرى تستحق الإشارة والتسجيل؟ حينما لم تكن الضيعة تُعنى بزراعة الزيتون، لأسباب ما زلت أجهلها حتى اليوم. لا سيّما وأن هذه الزراعة برهنت عن نجاح ملحوظ. مهما يكن الأمر فقد كان يأتينا في موسم الزيتون من الشمال، وبعض المناطق القريبة الغنية بمواسم الزيتون، من يصرِّف جزءاً من إنتاجه عندنا. يعرض بضاعته في الساحة العامة طيلة اليوم. وفي المساء يكون غالبا قد باع ما حمله، ليأتي من يدعوه مع دابته للمبيت في منزله.

كنت مارا في الساحة وقد حلَّ الظلام، ووجدت صاحب الزيتون قد انتهى من بيع حمولته، وما زال جالسا يسند ظهره إلى حائط المسجد، مسترخيا على الأرض بشرواله، يعتمر لبّادة من الصوف على رأسه - زي كان يتميز به بعض سكان الجبل - ودابته مربوطة إلى جانبه وقد خيّم على الساحة المساء، دون أن يأتي بعد من يتكرّم على الرجل ويدعوه لقضاء الليل في منزله، حينما تقدمت منه متعثرا بخجل الأطفال، ودعوته ليتفضل ويرافقني إلى منزل أهلي.

في المنزل دفعت الدّابة إلى حظيرة المواشي، ووضعت لها علفا من تبن وشعير. وكانت المفاجأة التي استوطن وقعها في قلبي طيلة عمري، وقد سمعت أبي يطريني ويربت على كتفي لاعتزازه بمبادرتي، ويرحب بالرجل ويهمس لأمي بفيض من الصفاء الوجداني العميق؛ أرأيت: صار الصّبي رِجّال. هكذا تحول يوسف عنتر - وهذا اسمه لم أنْسَهُ - إلى صديق لأهلي دامت صداقته حتى وافاه أجله، وأخي وقع لاحقا في هوى ابنته التي لم أرها، لكني رأيت صورتها وأمي تفرغ جيب قميصه للغسيل وتتأمل الصورة.. الصورة الجميلة التي رأيتُها وعلقتْ قسماتها في وعي العميق.

والمرة الثالثة التي عرفت فيها السيد علي الحكيم، عندما نظمت قصيدة رحت أستفتيه بأمرها، بعد أوَّلِ رعشة في القلب وَهرمونة مراهق غلاّبة دهمتني مع بثور البلوغ في وجهي. فغزاني الوحي مع الشعر يأتي من رحمِ الحب ولا يستقيمُ بدونه. هكذا وُلِدَتْ قصيدتي الأُولى لا الأخيرة، وكتبت نصا عن الواقعة المشهودة عنوانه "ذلك اليوم الحزين".
هكذا بقي السيد في ذاكرتي. لم أنسه أو ينسه من عاصروه في شمس الجبل، ممن بقي منهم على قيد الحياة، وقد تحولت الضيعة إلى مدينة فيها عشرات الأطباء والمحامين، وتؤمِّن كل أنواع الخدمات حتى استباحة سمعة الناس.
وهكذا شعرت بالحسرة والمرارة والحنين، وأنا أتجول فيها وحيدا على قدمي، بعدما اتسعت وتمزّقت وضاقت بمبانيها. قطعتها من أولها إلى آخرها. من الغرب على حدود آخر بيت في ضهر المغارة والنبي ساما، حتى أول السهل في أقصى الشرق، حيث حُشْبَى النبع الصافي كالدموع. حشبى القبو والمطاحن والغسيل المنشور على الصخور، والمرجة والبطاطا المشوية والجرجير. ومن النبي نجّوم في الشمال المحاذي لطاريا، إلى الدرجة وباب الحارة في الجنوب.
تهت في طرقات واسعة ومبان عالية ودارات فخمة، واستغرقت رحلتي طويلا فالتقيت بعشرات الناس ومنهم نساء تجاوزن في لباسهن حدود المقبول. لكنني لم ألتق بواحد أعرفه ويعرفني؛ وحملتني الرحلة إلى الأخوين رحباني. وطليت بعد غيبة سني لقيت الدّني متغيرة ومنّا دني. متل الغريب وقفت قدام البواب وما حدا منهن سألني شو بني.



لكنني لو عدت أكتب النص من جديد؟ لتوسلت صياغة مختلفة آخذا في الاعتبار "ركاكة" التعبير، وبعض ما كنت سأتحفظ عليه.


 الشعر يا صاحبي فشأنٌ مُختلِف؛ لهفتُهُ تعيشُ حيَّة في الفكر والوجدان، ولي معه حكاية حَزينة؛ حزينةٌ بلا ريب.. تعودُ إلى زمن المراهقة، حينما كنتُ مُقبلاً على الّدُنيا مُعْتدًّاً بنفسي مفتوناً بها، أمشي مزهوا مُسْبَطِّراً في الطريق، ولا أجدُ ما عدايَ يستحِقُّ الاهتمام.. إلاَّ قصيدةً نظمتُها عند أوَّلِ خفقةٍ للقلب وَحَاثَّةِ ذَكَرٍ درجتْ مع الدم، حينما غزاني الوحيُ لأول مرة في “التَّبّان”. فالشعرُ لزومُ الحبّ يأتي من رحمِه ولا يستقيمُ بدونه. هكذا وُلِدَتْ قصيدتي الأُولى.. والأخيرة.
سلختُ في إعدادها أيَّاماً من الصَّبابة والتّمني، ولياليَ من السَّهر والضّنى والنزق اللعين، وحينَما استقامتْ كما خيل إليّ..؟ قلتُ أستشيرُ أصحابَ الشأن، قبل أن يَحْمِلها “الهوى”، وينثرَها بلسماً يداوي بها جراحَ المُحبِّين، ومرضى القلوب التي أضنتها اللوعة والسَّهر الطويل. هكذا توجَّهتُ من فوري إلى عيادة السيِّد علي رَوْضَة. طبيبٌ غلبَ شعرُهُ شهْرَتَهُ في الطبّ والتمريض.
هذا الشاعرُ الطبيب عاشَ يتيماً، فغلبَت كنيتهُ لأمِّه”رَوْضَة” على كنيته لعائلته “الحسيني”، التي تعودُ في جذورها إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. إذاً هو السيد علي “رَوْضَة” أو “الحسيني”؛ ويُطلِقونَ عليه كذلك لقبَ “الحكيم”.. من سُلالةِ آلِ بيت الرسول الكريم شاعرٌ وطبيب. عرفَتْه سائرُ قرى الإقليم متحدِّثا لمَّاحا لبقاً، ومصغياً عاليَ الفطنة والذكاء، يشدُّ إليه المستمعين بشغفٍ وحبٍّ واحترام.
استقبلني استقبالاً لائقاً وحَسبَني مريضاً في البداية، وأن علَّتي ليست في فكري بل العلة في بدني؛ ولمَّا سألني عن مرضي وممّا أشتكي..؟ ارتبكتُ أمامه وتعرَّق جبيني وتولّتني الحيرة والتردد والخجل، وهو يشجَّعني ويحثني على الكلام. وحينما وَدَّني على نحو ملحوظ، وربَّت على كتفي وأنستُ إليهِ..؟ بحتُ له بسري.. وشعري.
لاحتِ الحفاوة على وجهه وانفرجتْ أساريرُه، ولمعتْ عيناه توسُّماً بفتحٍ شِعْرِيٍّ جديد، وبانت عليه فرحة مقرونة بالمفاجأة، وهو يتلقى خبرالشاعر الجديد، فاستدعى على عجل “روز” ابنته؛ طالبة في الإعدادي تساعدُهُ في عيادته كأمينةً للسر أيَّامَ العطل، ثمَّ أوصاها بألاَّ تُدْخِلَ إلى العيادة مَنْ يأتي مِنَ المرضى أو الزوار، لكي لا يُعَكِّروا علينا صفوَ جلستنا، فالوقتُ كما قال مخصَّصٌ للشعر لا للعلاج والتمريض. ثُمَّ صرَفها وعادَ فناداها بعدَ قليل، وطلبَ إليها أن تعدَّ لنا القهوة.. القهوة التي لم أكن قد تعاطيتها وأحببتُها بعد.
كنتُ مزهواً بنفسي وقد استمعَ إليَّ باحترام بالغ، وابنته الجميلة أعدَّتْ لنا القهوة من أجلي؛ وقد أصرَّ بعد تمهيدٍ قصير أن أحتسيها معه. كل ذلك لكي يضمنَ للجلسة أهميتها ومعناها. ثم أشعلَ لفافة تبغ وسألني إن كنتُ أُدَخن..؟ وأجبته بالنفي؛ ولا؛ خجولة من لساني واكبَتْها إشارة من رأسي إلى فوق. هكذا تَجَنَّبَ الإلحاح بدعوتي للتدخين.. كما ألحَّ عليَّ بتناول القهوة.
لعلّه لو لم يكن شاعراً ولو كان طبيباً فحسب..؟ لما كان يدخِّن. عبَّ رشفة مكتومة من القهوة ونفساً عميقاً من “سيكارته” واسترخى في مقعده، ثمَّ التفتَ إليّ وابتسَّمَ مشجعاً من جديد، قائلاً لي باهتمام من يتوقع مفاجأة لا يدري ما تكون: هيَّا هاتِ ما عندك يا صديقي.
في الواقع لا أذكرُ من القصيدة إلاَّ عنوانها: “حبٌ في الشتاء”، وكلمات قليلة من المطلع أقول فيها: “قصَصْتُ شَعْري ولمَّعتُ سُبَّاطي..”، والسُّباط هو الحذاء، وعلى الأرجح أن تكون المفردة إسبانية الأصل، غنمها العرب فيما غنموا من أيام أمجادهم في الأندلس..؟ هذا كل ما أذكره من العنوان ومطلع القصيدة.. لحسن الحظ بطبيعة الحال.
مهما يكن الأمر؛ فقد أخرجتُ من جيبي قصاصة ورقٍ هي مُدَوَّنَة القصيدة، وثروتي التي كلفتني من طول التأمل والصبابة ما كلفتني، وتنحنحتُ قليلا وبدأت بالعنوان، حيث توقفَ الطبيبُ عنده قليلا وسألني: أليسَ الحبُّ أوْلى في الربيع من الشتاء يا صديقي..!؟ وأجبته على الفور دون أن أدقق ولو قليلا في إجابتي: وهل الوحلُ يبقى حتى الربيع..!؟
إجابة مُستنكَرة وغباءٌ مطبق وخيال صبي يافع، غزته هواجس المراهقة واستحكمت في وعيه وإحساسه وشعره؛ وقد دهمت وجهه البثور وفحَّت من جسمه نتانة تيس الماعز، وريح الشهوة العمياء فألهبتْ خياله وألهمته قصيدته، ومحورها يدورُ حولَ الحبّ في زمنِ الشتاء.. أو الوحل، ولا أدري حقيقة من أين أتتني هذه الخاطرة المنكودة!؟. فرواية “الحب في زمن الكوليرا” لم تكن قد نُشِرتْ أو عرفتُها بعد، لأقتبس منها عنوان قصيدتي على سبيل المثال.
ومع هذا وذاك فميدان الشاعر، لا يصح أن يقتصر أو يتقيد فيلتزم بحدود في الفكر والتعبير عن خلجاته ووجدانه، وله مطلق الحرِّية والحق أن يشردَ عن المألوف، وأن يتمرَّدَ على الضوابط والأوزان والقواعد والأعراف. ويبقى ميدانَه غرامٌ يضيق به القلب ولا تتسع له أربع رياح الأرض! وإلاَّ فكيف يكون الشاعر ملهَماً “ويجوز له ما لا يجوز لغيره”؟!.
هذه المرَّة لاحَ على فمِهِ طيفُ ابتسامة، لكنَّه لم يعلِّق ودعاني بتهذيب مقرون بالصبر والكياسةِ والرثاء لاُكملَ الإلقاء. لم أكد أبلغُ مِنَ القصيدة البيتَ الثالث، حتى فاضَ كيلُه، فتنحنحَ وتململَ في مقعده، ثمَّ وجم قليلاً وبانتِ الخيبة في عينيه خيبة قاسية بلا شك. لكنه كانَ كريماً معي، فاستوقفني دونَ أن ينسى لياقته معي، قائلاً لي ببرمٍ يخلو مِنَ التَّهَكم، وضيقٍ لا يخلو من الابتسام:
دخلَ على أبي حنيفة أعرابيٌ، تبدو عليه إماراتُ النعمة والوقار، من رصانة في محياه وعلاماتٍ أثيرة في هيأته ولباسه.. وأبو حنيفة جالسٌ براحةٍ تامة متكئاً بمرفقه إلى مسندٍ في جواره. وما إن دخلَ الأعرابي بوسامته وهيئتِه الرزينة، حتى استقام أبو حنيفة وتأدَّب في جلسته، فلملمَ نفسه واسترجعَ قدميه الممدودتين إلى الوراء، احتراماً لحضور الوافد الكريم.
رحَّبَ أبو حنيفة بالزائر ودعاهُ بحفاوة إلى الجلوس.. ثُمَّ سأَلهُ عن حاجته وقد استقر بهما المقام..؟ قال الأعرابي: جئتُ أًستفتيكَ في الدين والدنيا؛ ثمَّ ابتدأَ يسأًله.. .. سأله عن مناسكِ الحج وسأله عن أحكامِ الزكاة، وعن الصوم وأُصول الحج وعن مواقيت الصلاة، والأعرابي مصغ يستمع فلا يردُّ ولا يدلي برأي.
لكن مسألة في الصلاة التبسَت على فهم الأعرابي، مما قاله أبو حنيفة وهو يتحدث عن صلاتيّ الظهر والعصر.. فسأله مستوضحاً هذه المرَّة: وما الحكمُ يا مولاي إذا تقدَّمَ العصر على الظهر؟!.. قالها الأعرابيُّ بهدوء وأناة وفواصل بين الكلمات، كمن يريد إحراج أبي حنيفة بالسؤال.. لكن أبا حنيفه أجابه على الفور ولم يَصْحُ مِنْ صدمَتِه بعد: عندما يتقدم العصر على الظهر..؟ يعودُ أبو حنيفة فيمُدُّ ساقيه ويجلس على هواه، دونما حَرَج ولا مؤاخذة أو ملامة من الزوار الكرام.
لم ينتهِ الطبيبُ من الحكاية حتى نادى “روز”، لكي تعود بأوعية القهوة الفارغة إلى المطبخ، وتباشرَ بإدخال المرضى على الفور. وهكذا عاهدتُ نفسي يا صديقي، ووفيتُ صادقاً بوعدي فلم أطرقْ بعدَها بابَ النظم أبداً، ولو أنني أهوى الشعر، وأُميِّزُ منه بينَ الحسنِ والرائع والرديء، وأتذوَّقُ سُلافَهُ حتى الرحيق. لكنني آليتُ على نفسي ألاَّ أنظُمَهُ أو أُفتي به أبداً، بعدَ هزيمةٍ منيتُ بها وخيبةٍ منكرة، مازالت مرارتُها تحتَ لساني، وفي عمق مخِّي وذكرى ذلك اليوم الحزين.
إبراهيم يوسف

*إبراهيم يوسف

كاتب لبناني













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.