الصفحات

بعد الهزيمة: إميل حبيبي وغسان كنفاني ...*يزن الحاج

بعد الهزيمة: إميل حبيبي وغسان كنفاني

⏪⏬
يرتبط اسم إميل حبيبي بروايته الأشهر «المتشائل» (1974)، وهي الخيار الأول حين نودّ الكتابة أو الحديث عنه؛ وتلك كانت نيّتي
لاعتبارات كثيرة ذاتيّة وموضوعيّة: فالرواية إحدى أعظم الروايات العربيّة، وأعدّها شخصيًا أجمل رواية عربيّة على الإطلاق. ولكنّ الكتابة عن «المتشائل» تستلزم مدخلًا نفهم منه وصفة إميل حبيبي الفريدة في الكتابة، ولذا لا بدّ لنا من تسليط الضوء على عمله الأول «سداسيّة الأيام الستّة» (1968). وتلك – مرةً أخرى – باتت نيّتي. ولكن تنبّهتُ إلى تاريخ نشر الكتاب: 1968، وهو العام الذي يؤرّخ أيضًا لصدور كتاب آخر لمبدع فلسطينيّ آخر، «عن الرجال والبنادق» لغسّان كنفاني؛ فصارت النيّة النهائيّة تقديم قراءة لهذين الكتابين معًا، إذ إنّنا – أولًا – أمام أهم كاتبَيْن في السرد الفلسطينيّ، وثانيًا أمام كتابين لا بندرجان تحت جنس أدبيّ بعينه، وثالثًا أمام كتابين صدرا بوصفهما ردّة فعل على الهزيمة، ورابعًا هما يقدّمان رؤيتين متوازيتين ومتقاطعتين في آن لمعنى أن تكون فلسطينيًا بعد الهزيمة، على الأخص لأنّ كلًّا من المؤلّفَيْن يمثّل فرعًا من الفرعين الفلسطينيّين: إميل حبيبي في الداخل، وغسان كنفاني في الخارج. ولعلّ هناك خامسًا وسادسًا وسابعًا ستتكشّف لنا حين نقرأ العملين بالتّوازي، وحين نقرأ كاتبيهما بالتّوازي أيضًا.

بدأ إميل وغسان مشوارهما في الكتابة بالتّزامن تقريبًا، من منتصف الخمسينيّات إلى أواخرها، وبدآ مشوار النّشر بالتّزامن تقريبًا في أوائل الستينيّات، ونوّعا في الأجناس الأدبيّة على نحو متماثل تقريبًا حيث كتبا القصة والرواية والمسرحيّة، عدا عن عملهما اليوميّ في الصحافة. ولكنّ المنحنى البيانيّ لمسيرتهما في الكتابة ليس متشابهًا أبدًا: لدينا فارق العمر، إذ كان غسّان في عشريناته (مواليد 1936)، بينما كان إميل في أربعيناته (مواليد 1921)؛ ولدينا كمّ النّتاج، إذ كان غسان غزير الإنتاج بدرجة عصيّة على التّصديق (قرابة 20 كتابًا في 11 سنة)، بينما كان إميل شحيح الإنتاج بدرجة تدعو إلى الأسف (7 كتب في 28 سنة)؛ ولدينا بالطبع اختلاف توجّهاتهما السياسيّة التي كانت متضادّة تقريبًا: كان إميل حبيبي عضوًا في الكنيست الإسرائيليّ لعقود، فيما كان غسان كنفاني الناطق الرسميّ باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. كانت هذه النقطة الأخيرة بالذات السبب الأكبر في إساءة قراءة أعمالهما إذ قُدّمتْ لدى النقّاد ولدى الشريحة الأكبر من القرّاء من الزاوية السياسيّة لا الجماليّة، ما أثّر سلبًا عليهما معًا، وعلى إميل خصوصًا. قُدّمت أعمال غسان بوصفها أعمال المناضل السياسيّ، وقُدّمت أعمال إميل (في الحالات القليلة أو النادرة التي يُنظَر فيها إلى أعماله أصلًا) بوصفها أعمال الوجه المناقض لغسان. ولكنّ القراءة المتمعّنة لأعمالهما ستجعلنا ندرك مدى التّماثل بينهما من ناحية التّجريب والجرأة اللغويّة والكتابة من دون اكتراث للتّصنيفات المدرسيّة. هذا ما نجده في أعمال إميل منذ البداية، وما تطوَّرت إليه أعمال غسان الأخيرة.

ما الذي حدث عام 1968؟ كان هذا العام هو العام الذي تلا أكبر زلزال في تاريخ فلسطين، ولعلّه أكبر حتّى من النكبة: كان العامَ الذي تلا هزيمة 1967 التي رسّخت النكبة أكثر، وفتحت الباب أمام زمنٍ فلسطينيّ جديد يكاد ينتفي فيه الأمل. ولكنّ الصورة كانت مختلفة في المشهد الأدبيّ فلسطينيًا وعربيًا. بات هذا العام تأريخًا وانطلاق أدب جديد يحاول فهم نفسه كي يحاول تقديم عالمٍ جديد بالمطلق، أو كشف عالمٍ كان التّفاؤل الثوريّ قد دفنه: عالم التفاصيل المنمنمة لإنسان مهزوم بات يُدرك جرحه ويتحدّث عنه بدلًا من تجاهل آلامه «الصغيرة» لصالح الألم «الكبير». كان هذا هو العام الذي أرَّخ لولادة سردٍ فلسطينيّ جديد لا يشبه ما قبله فلسطينيًا أو عربيًا؛ سرد ينطلق من الهزيمة ويواجهها بصراحة بلا رتوش. لم تعد هناك فلسطينان، بل باتت فلسطينًا واحدة وحَّدتها الهزيمة. شهد هذا العام غزارة إنتاج لن تتكرّر في مسيرة إميل حبيبي، حيث كتب ستّ قصص شكّلت مجموعته «سداسيّة الأيام الستّة» في إشارة صريحةٍ إلى الحرب/الهزيمة التي بدأ بها تاريخٌ جديدٌ للبلاد وله شخصيًا. وفي الجهة المقابلة جمع غسّان قصصًا قديمة من عالم ماقبل الهزيمة، وأضاف إليها قصّتين جديدتين وتذييلًا، لتكون المحصّلة كتابًا «هجينًا» فوضويًا بمثابة مرآة للفوضى التي كانت تطوّق غسان.

نقرأ المقدّمتين اللتين تتصدّران الكتابين فتبدوان مختلفتين للوهلة الأولى، ولكنّهما منبعان في مصبٍّ واحد في حقيقة الأمر. يتحدّث كلاهما عن القصص بما يشبه الاعتذار، حيث يصوّرها إميل بكونها «آهة لا يقوى صدري على حبسها» خرجت على نحوٍ لاواعٍ من سياسيٍّ محترف يتذوّق الأدب، فيما يقدّم لنا غسان قصصه بكونها استعادةً «لرحلتي القصيرة إلى الماضي الذي ما يزال ينبض في رأسي». وكذلك، يقدّم كلاهما القصص بكونها وسيلةً لا غاية، إذ يقول إميل: «إذا أسهمت هذه القصص في الإقناع بأن لا طريق معقول غير هذه الطريق [السلام العادل، سلام الشعوب بحق الشعوب] لا يذهب التنهّد هباءً، ويعود الأدب يسند السياسة الصحيحة»، ونجد صدى مماثلًا في كلام غسان: «هذه تسع لوحات، أردتُ منها أن أرسم الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق والذين معًا سيرسمون اللوحة الناقصة في هذه المجموعة».

حين نقرأ العملين معًا سيكون الشّكل أوّل ما يلفت انتباهنا. يتراوح العملان بين الرواية والقصة من دون أن يندرجا تحت أيٍّ منهما بدقّة. صدرت «سداسيّة الأيام الستّة» في طبعات عديدة، يهمّني منها هنا السداسيّة نفسها بمعزل عن القصص الثلاث والتمثيليّة التي أضافها إميل حبيبي لاحقًا إلى الكتاب ليصبح عنوانه «سداسيّة الأيام الستّة وقصص أخرى». نُشرت القصص الستّ للمرة الأولى عام 1968، وأراد منها إميل تقديم «الوجه الآخر لمأساة هذه الحرب – السجين عشرين عامًا وهو مقطوع عن أهله، استيقظ يومًا على لغط في باحة السجن، فإذا به يلقى أهله جميعًا وقد حُشروا معه. فكيف يشعر في هذا اللقاء بعد طول القطيعة والوحدة، أيّ لقاء؟» بينما ينقسم كتاب غسان كنفاني «عن الرجال والبنادق» إلى قسمين: يتكوّن الأول من مدخل وأربع قصص مترابطة، ويتكوّن القسم الثاني من أربع قصص مترابطة على نحو أقل يليها تذييل شكَّلَ لاحقًا الفصل الأول من رواية «أم سعد» التي ستصدر في العام التالي 1969. كتاب إميل موحَّد أكثر، وسنكون هنا أمام أول عمل عربيّ حديث ممّا اصطُلح على تسميته لاحقًا «متتالية قصصيّة»، حيث تبدو القصص الستّ بمثابة ستّة مظاهر مختلفة لجوهر أوحد: عالم فلسطين الموحَّدة بعد الهزيمة. كتاب غسّان متشظِّ أكثر، ولكنّه أوجد رابطًا منطقيًا بين القصص (أسماها لوحات) ليرسم بها خلفيّة تاريخيّة لمرحلة ماقبل الهزيمة، ويغوص بنا أثناءها في عالم المخيّم القاسي: مخيّم اللاجئين، وصولًا إلى المخيّم الآخر: مخيّم الفدائيّين، حيث يحاول غسّان تخفيف قتامة المخيّم الأول من خلال إضاءة مُبالَغ فيها أحيانًا للمخيّم الثاني كي يوازن بين المشهدين ويوازن الصورة الكليّة لفلسطين بعد الهزيمة على الأخص.

ينطلق العملان من الأطفال، وإنْ كان عالم إميل حبيبي عالم مدينة أو بلدة، بينما عالم غسان كنفاني عالم قرية ومخيّمات. اكتفت «سداسيّة الأيام الستّة» بقصة واحدة بطلها طفل، وأفردت فسحة القصص الخمس اللاحقة لعوالم الكبار، حيث الحب والسجن والماضي والطبّقات الاجتماعيّة. بالمقابل، كانت لوحات «عن الرجال والبنادق» تتقلّب بين مرحلتي نهاية الطفولة وبداية الصبا في الغالب، وإنْ بدا الأمر محض قناع رقيق يُخفي وراءه القصة الحقيقيّة والأبطال الحقيقيّين: عالم الفدائيّين، وعالم صِدام الماضي والحاضر وتلاقيهما في زمن ثورات مُجهَضة وحروب كارثيّة: 1936، 1948، 1967 حيث تتكرّر الإشارة إلى عبارة «عشرين عامًا» التي ترسم دورات الحياة الفلسطينيّة تحت الاحتلال بين النكبة والهزيمة. وبرغم الاختلاف بين زاويتَيْ الرؤية بين الكاتبين إلا أنّ بوسعنا التقاط تماثل كبير عند الأطفال في قصصهما. يفتتح إميل سداسيّته بقصة «حين سَعِد مسعود بابن عمه»، ويفتتح غسان القسم الثاني من كتابه بقصة «الصغير يذهب إلى المخيّم». بين القصتين عام واحد فقط، ولكنّ الفاصل الفعليّ بينهما عالمان شاسعان وهزيمة كبرى. يكتب غسان في آذار/مارس 1967 عن «زمن الاشتباك»، أي الزمن الذي تُمسي فيه غاية الإنسان الوحيدة (الأطفال خصوصًا) هي النّجاة فقط؛ النّجاة في عالمٍ لا يُتيح لك أصلًا إمكانيّة وجود سقف لمكان تدعوه بيتًا. نتعرّف إلى طفل يروي لنا حكاية عثوره على خمس ليرات تمثّل كنزًا آنذاك له ولعائلتين تسكنان معًا في ما قرّروا تسميته بيتًا. يعثر الولد على الكنز، يحاول إبقاءه لنفسه في أنانيّة لا تشبه الأنانيّة، ثم يُضيعه ويتّهم ابن عمته بصمت. يكشف لنا غسان في هذه القصة البسيطة عن عالمٍ آخر هو عالم المخيّم، عالمٍ فُرض على الفلسطينيّين بحيث بات يرتبط بهم دومًا. عالم المخيّم هو زمن الاشتباك الذي يقصده غسان، حيث «يكون من مهمتك أن تحقّق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حيًا. وفي ما عدا ذلك يأتي ثانيًا. ولأنّك في اشتباك مستمر فإنّه لا يوجد ´ثانيًا`. أنت دائمًا لا تنتهي من ´أولًا`». بمعنى آخر، لا مكان للطفولة في زمن الاشتباك هذا، وما تقديمُ «بطل» طفل إلا لعبة سرديّة لكشف السّتار عن عالم آخر يسحق الطفولة ويسحق الحياة برمّتها؛ عالم تكون غايتك الوحيدة فيها أن تنجو، لا أن تعيش. فالعيش ترف، وذلك الزمن ليس للترف أبدًا. نرى اللعبة السرديّة ذاتها في قصة إميل «حين سعد مسعود بابن عمه»، التي نشرها في نيسان/أبريل 1968. بطل الحكاية طفل، ولكنّ الحكاية ليست حكايته وحده، بل حكاية حمولة كاملة، وبلدة كاملة، ووطن كامل. حين يكتشف مسعود وجود أبناء عم له سيظنّ أنّه نجا وبات مساويًا للأطفال الآخرين. ولكنّ إميل حبيبي يرسم لوحة أخرى وراء لوحة الأطفال تلك: ما معنى اكتشاف أبناء عم وعائلة كبيرة حين تمسي العائلة كلّها تحت الاحتلال؟ بل إنّ السؤال الأقسى هو الذي لا يجرؤ مسعود على طرحه صراحةً: «هل حين ينسحبون، سأعود كما كنت ... بدون ابن عم؟» المفارقة الجارحة هنا هي أنّ حياة الفلسطينيّين تُصاغ تبعًا للاحتلال: تكبر العائلة وتتّحد حين يتضاعف الاحتلال وتتسع رقعته، ويعود الطفل وحيدًا حين ينسحب الاحتلال. المفارقة الأخرى هي أنّ قصة غسان كنفاني كُتبت قبل الهزيمة بينما كُتبت قصة إميل حبيبي بعد الهزيمة، ولكنّ العالم واحد. الفارق الوحيد هو أنّ السجن كبر، المخيّم كبر، بينما السّقف ما يزال واطئًا كما كان، بل ربّما بات خانقًا أكثر بعد أن تضاعف عدد السجناء.

يتشارك العملان في محاولة عبثيّة للربط بين الماضي والحاضر. الحاضر في الأدب الفلسطينيّ عمومًا، وفي هذين العملين خصوصًا، عابرٌ وليس أكثر من مرحلة لالتقاط الأنفاس ومتابعة الانتقال من الماضي إلى المستقبل. الحاضر، بمعنى ما، نقطة نهاية ماضٍ ونقطة انطلاق ماضٍ آخر سيرسم معالم مستقبل مجهول. بما أنّ إميل حبيبي عاش حياته في مكان واحد، ستكون محاولة الربط بالنّسبة إليه مرتبطة بالزّمن بالضّرورة؛ تقوم السداسيّة كلّها على استعادة لزمنٍ مضى لمحاولة فهم زمنٍ حاضرٍ باغت الجميع. الذاكرة ذاكرة زمنيّة لا مكانيّة برغم حضور المكان، لأنّ المكان هنا ثابتٌ بين زمنين متغيّرين. عناصر المكان، بشرًا وحجرًا وطبيعةً وذاكرةً، هي ذاتها، ولكنّنا نقرأ تحوّلاتها في الزمن. في «حين سعد مسعود بابن عمه» نرى حضورًا لأماكن أخرى مثل الكويت والقاهرة، ولكنّها أمكنة بعيدة ليست مرتبطةً بمكان الحكاية. تطرأ التغيّرات على الأشخاص وعلى ذكرياتهم. الشارع لم يتغيّر ولكنّ سكّانه بدؤوا رحلة إدراكهم لتغيّر الزمن حين جاء الغرباء/الأقرباء من الضفة، حيث تبدأ «سلسلة المرة الأولى» في حياة مسعود، ابتداءً بتغيّر اسمه من فجلة إلى مسعود وليس انتهاءً بتغيّر نطق الأحرف حين يحاول التّماهي مع لهجة أقربائه. سيسترد مسعود اسمه القديم «فجلة»، ولكنّنا ندرك معه أنّ هذه الاستعادة ظاهريّة فقط لأنّ التغيّر بدأ، ولم يعد الزمن على ما كان عليه. في «أخيرًا نوَّر اللوز» يلجأ إميل حبيبي إلى ذاكرة الحب كي يُجسّر الهوّة بين زمنين كانا بعيدين وتلاقيا أخيرًا. الطبيعة لم تتغيّر برغم تغيّر السكّان، فاللوز ونوّاره باقيان، ومنعطفات الطريق باقية؛ بل إنّ هذه الطبيعة هي التي حرّضت ذكريات الماضي المنسيّة فتأجّجت بقوّة حارقة. يحاول بطل القصة أن يخدع نفسه ويخدعنا حين يتحدّث عن ازدواجيّة المكان، ولكنّ الازدواجيّة ازدواجيّةُ ذاكرة، إذ نقرأ ذاكرتين علقت إحداهما في الماضي ولا سبيل إلى استعادتها أبدًا، فيما تحاول ذاكرة ثانية العيش في الحاضر، ولكنّنا سندرك عبثيّة المحاولة لأنّ الذاكرة الجديدة مرتبطة بتلك الذاكرة القديمة. هذا الضّياع والتخبّط بين ذاكرتين يسم السداسيّة كلّها، ويتجلّيان في أقصاهما في قصة «أم الروبابيكا»، أعذب قصص السداسيّة. أم الروبابيكا هي مدوّنة هذين الزّمنين، وهي من ستصون الذاكرة. سيستعيد إميل حبيبي شخصيّة أم الروبابيكا في عمل لاحق «أم الروبابيكا: هند الباقية في وادي النّسناس» (1992)، إذ أدركَ، كما أدركْنا، أنّ تلك المدوِّنة العظيمة تستحق الخلود لأنّها ستخلّد معها هذين الزمنين، وذاكرتيهما. تُعلّمنا أم الروبابيكا أنّ الذاكرة مأوى الوحيدين، وأنّ أشياء الراحلين سترسّخ وجودهم، وأنّ العائدين من سجن المنفى إلى السجن القديم، من الماضي إلى الحاضر، سيستعيدون كنوزهم التي أضاعوها، ولكنّ الذاكرة ستبقى وأم الروبابيكا ستبقى لتصون ذاكرةً أخرى لراحلين آخرين إلى سجون منفى جديدة. سنجد الفكرة ذاتها في قصة «الخرزة الزرقاء وعودة جبينة» التي تستعير قالب الحكاية الفولكلوريّة أو الأسطوريّة حيث نسير بين زمنين بالتّوازي، حين تتناوب القصة بين الحكاية المتخيَّلة وبين صورتها الموازية في الحاضر. مرةً أخرى، نحن أمام مكانٍ ثابت ليس أكثر من خلفيّة لتحوّلات الزمن.

يتغيّر المشهد قليلًا في قصّتَيْ «العودة» و«الحب في قلبي» لنغدو أقرب إلى الحاضر، ولتغدو القصتان أقرب إلى التّوثيق من دون أن تفقد فنيّتهما العالية. تتمحور قصة «العودة» حول المظاهرات التي قامت في الذكرى الأولى لهزيمة 1967. ولكنْ برغم العنوان المتقشّف الذي قد يُنبئ بمضمون توثيقيّ جاف، إلا أنّنا أمام أكثر القصص تجريبيّة في «السداسيّة»، حيث كسر إميل حبيبي القصة إلى خمس وحدات سرديّة أصغر تُشكِّل بمجموعها القصة الكبرى، ولكن يمكن قراءتها بوصفها «فلاشات» أو ما اصطُلح على تسميتها «قصة قصيرة جدًا». تُسهم عناوين تلك الوحدات الخمس في إزاحة تقشُّف العنوان الأكبر، بحيث نبدو مرة أخرى أمام عالمٍ أقرب إلى عالم الحكايات الفولكلوريّة بعناوينها السحريّة: «كيف ظهر في شهور السنة شهر جديد هو حزيران الثاني؟»، «كيف أصبح لشاب واحد ألف أم؟». تُخْتَتم السداسيّة بقصة «الحب في قلبي» التي نجد فيها مكانين للمرة الأولى، ولكنّ حضور المكان إيهام بارع يُفضي بنا إلى توثيق آخر لمأساة المعتقلين في سجون الاحتلال. يستلهم الكاتب أفق المكان الأجنبيّ البعيد ليُعمّق وطأة المكان القريب، يستلهم مأساة بعيدة في الماضي ليُعمّق وطأة المأساة الحاضرة، حيث نقرأ رسائل مهرَّبة من فتاة فلسطينيّة معتقلة إلى عائلتها: رسائل من السجن الأصغر إلى السجن الأكبر تحكي قصة لقاء فتاتين وحَّدهما السجن الأصغر. ربّما كانت هذه القصة هي أكثر قصة تروي حكاية الفلسطينَيْن اللتين باتتا فلسطينًا واحدة بلا ترميز. هنا نكتشف الصورة التي رسمها أبناء أراضي عام 1967 لأبناء أراضي عام 1948، بعد عشرين عامًا من القطيعة. ستكتشف الفتاتان مدى قرب عالميهما بل تطابقهما تقريبًا؛ ويبدو إميل حبيبي هنا وكأنّه يُفرغ أفكاره الشخصيّة في رسائل تلك الفتاة التي تنفض سذاجة جهلها القديم حين التقت أخيرًا بإحدى بنات العائلات التي بقيت في فلسطين ولم تنزح. لعلّ هذه القصة ليست أفضل قصص السداسيّة ولكنّ براعة الكاتب في مزج الاقتباس الاستهلاليّ مع متن القصة ضاعفَ اللوعة. كانت الاقتباسات الاستهلاليّة في القصص السابقة كلّها مقاطع من أغانٍ غنّتها فيروز، ولكن هذه المرة دوَّن إميل حبيبي بيتين شعريَّيْن من «أغنية لم تُنشدها فيروز كلامًا ولكنّها تُنشدها دفئًا». سنفهم معنى الدفء أكثر حين نستشعر الألم الذي يغمر البيتين اللذين يلخّصان مأساة الفلسطينيّين، الباقين والمنفيّين على السواء:

عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيه .. يكون وراءه فَرَجٌ قريبُ

فيأمنُ خائفٌ ويُفكُّ عانٍ .. ويأتي أهلَه النّائي الغريبُ

بالمقابل، الزّمن هو الثّابت في المعادلة التي تُشكِّل لوحات «عن الرجال والبنادق»، بينما الأمكنة متغيّرة. لعلّ هذا انعكاس لارتحالات غسان كنفاني العديدة، ولعلّها محاولة لتوثيق الأمكنة في خريطةٍ أدبيّةٍ تسعى لتصحيح خرائط الأمر الواقع، ولعلّها تعويضٌ متخيَّل للنّقص الذي يقاسيه كنفاني في الواقع، حيث يرسم صورةً مُتخيَّلةً للأمكنة التي لم يرها مذْ أُرغم على النّزوح مع عائلته من فلسطين؛ ويتبدّى هذا في أعماله كلّها تقريبًا. يُشكِّل القسم الأول من «عن الرجال والبنادق» أربع لوحات كتبها غسان عام 1965، ولكنّه لم ينشرها إلا بعد الهزيمة. قد تبدو للوهلة الأولى مشروعًا غير مكتمل لرواية أو قصة طويلة، برأي عديدين، ولكنّ قراءاتي العديدة للوحات تجعلني ميّالًا أكثر إلى عدّها عملًا مكتملًا: قصة طويلة بأربعة فصول. ويتعزّز هذا الإحساس حين نرى الفارق بينها وبين القسم الثاني الذي نلمس فيه بعض التّخلخل بسبب الاختلاف بين لوحاته. أي أنّ القسم الأول مشروع كتاب مستقل يماثل نوڨيلا «أم سعد» حجمًا، بينما القسم الثاني مشروع مجموعة قصصيّة تضمّ قصصًا مختلفة. ولكنْ دمجهما غسان في كتاب واحد تحت عنوان عريض «عن الرجال والبنادق» يوثّق فيه بإيجاز رحلة الفلسطينيّين من الاحتلال إلى المقاومة، ومن مخيّم اللجوء إلى مخيّم القتال. بطل القسم الأول هو الفتى منصور ابن قرية مجد الكروم، ورحلة تفتُّح وعيه الوطنيّ، وسعيه للتحرّر من كونه فلّاحًا ليصبح أحد المناضلين. القصة، بلوحاتها الأربع، مكتوبة بروح التّفاؤل الثوريّ الذي طَبَع أعمال الستينيّات قبل الهزيمة. اللافت في القصة هو أنّ غسان لا يكتب عن الستينيّات بل يوثّق لنضال الفلسطينيّين أيّام النكبة، مع استعادات سريعة لأيام ثورة 1936. نرى أمامنا جيلين: جيل ثورة 1936 وقد شارفوا على نهاية الكهولة حين باغتتهم النّكبة، وجيل أولادهم الذين تفتَّح صباهم مع النّكبة وانقسمت مصائرهم. يتنوّع تركيز السرد بالتّساوي بين هذين الجيلين، حيث كان منصور بطل أول لوحتين، وأبوه وخاله بطلَيْ اللوحتين الأخيرتين. براعة غسان كنفاني في السرد لا تبلغ المستوى ذاته في رسمه للشّخوص، باستثناء شخصيّة أم الحسن. تبدو الشّخوص كلّها متماثلة برغم اختلاف الأجيال: كلّهم وطنيّون محبّون للأرض، شهمون، كريمون، طيّبون، شجعان، باستثناء قاسم شقيق منصور. مشكلة قاسم التي حرمته من تعاطف الكاتب هي أنّه بات ابن مدينة بعد تخرّجه من كليّة الطب، وابتعاده عن القرية. لا يُخفي غسان مشاعره وأحكامه وتعاطفاته تجاه شخوصه، إذ الرسالة واضحة: كلُّ من تخلّى طوعًا عن أرض طفولته، ولو من أجل شقّ طريقه في الحياة، خائنٌ لهذه الأرض وسيكون ميّالًا إلى العدوّ. لذا سنلاحظ تألّق شخصيّة منصور، لأنّ الكاتب أكرمه بجرعةِ ضوءٍ أكبر حَرَم منها شخصيّة قاسم التي صُوّرت في عتمةٍ كاملة. في قصص من هذا النّوع لا بدّ من وجود خصم يُبرز عظمة الأبطال الأخيار، وكان قاسم هو الخصم الذي اختاره غسان كنفاني، بحيث بدا مشابهًا للجنود الإنگليز، ولا يرد ذِكره إلا مع اليهود. ولكن بمعزل عن هذا الأمر الذي حوَّل القصة إلى ما يشبه الأمثولة، لم يحرمنا غسان من سرده المدهش، على الأخص حين يصف الأشجار، والسّماء، والمطر، والملامح الخارجيّة للشخوص.

في القسم الثاني المكتوب بين عامي 1967 و1968، ينتقل غسان كنفاني من عالم القرى المناضلة إلى عالم المخيّمَيْن: مخيّم اللاجئين ومخيّم الفدائيّين. يتحوّل المكان فيما الزّمن أوحد: زمن النّضال والمقاومة، أو بعبارة غسان: «الرجال والبنادق». ثمّة محاولة لكتابة زمن آخر في قصة «الصغير يكتشف أنّ المفتاح يشبه الفأس» حين يروي غسان قصة انتقال مفتاح بيت الأهل في البلاد من الوطن إلى المنفى. يلفت انتباهنا في القصة أمران: التركيز على شهر أيّار، شهر النّكبة؛ وتاريخ كتابة القصة الذي سبق الهزيمة بشهر واحد. تسير القصة بين شهرَيْ أيّار هذين اللذين يفصل بينهما عشرون عامًا. تبدو القصة، في القراءة الأولى، مناقضةً لجوّ غسان في الكتاب عمومًا، بحيث تدفعنا إلى التساؤل عن سرّ إدراجها فيه مع أنّها لا تمجّد المناضلين والفدائيّين، بل تركّز على شهر الخيبات الممتد عشرين عامًا. لم يكن غسان يعرف ما سيخبّئه الشهر التالي، ولكنّ إيقاع القصة الجنائزيّ يجعل القصة أقرب لأن تكون قصة مابعد الهزيمة لا ماقبلها. هذا ما تبدو عليه القصة لو قُرئت بمعزل عن سياق الكتاب، ولكنّ كاتبها أصرَّ على إيرادها لوحةً من لوحات «الرجال والبنادق». سنحلّ المعضلة حين نطبّق معيار المقارنة الذي يقوم عليه القسم الأول من الكتاب: مناضل مقابل خانع. هنا نحن أمام زمنين: زمن خيبات، وزمن نضال. وعلى الأرجح أنّ قصد غسّان كان أنّ النوستالجيا لا مكان لها في دنيا النّضال. ذكريات المفتاح لا تعني إلا الهزيمة، لأنّه مرتبطٌ بزمنه الحقيقيّ: زمن البطولة حين كان المفتاح جزءًا لا يتجزأ من البيوت. ومع انتقال المفتاح إلى المنفى، بات شيئًا نافلًا لا معنى له، بل ربّما زائدًا عن الحاجة إنْ لم يدفعك إلى استعادة الزمن الحقيقيّ الوحيد: زمن البوصلة التي لا تشير إلا إلى خيمة النّضال، وكلُّ ما عداها باطل. المفتاح مفتاح ذلك البيت في ذلك الزمن، ثمّ بات فأسًا تُذكّرنا بالأرض ومعناها على الدّوام، لذا أنهى غسّان القصة بزفرة ارتياح لأنّ الجيل الجديد اكتشف صورة المفتاح الحقيقيّة: فأس تلك الأرض البعيدة التي لا بدّ من استعادتها. أرض ذلك الزّمن الأوحد الذي لا ثاني له برغم تقلُّب الأيام والأعوام.

ولذا كانت الانتقال طبيعيًا إلى اللوحتين اللاحقتين وإلى التّذييل («الملاحظة، بحسب تسمية الكاتب). سنكون هنا أمام أضعف القصص فنيّةً لأنّهما كُتبتا بقصد واضح: أمثولة تُعزِّز الفارق بين من ارتضى زمنه وبين من يخلق زمنه. كُتبت القصتان في شهر واحد: شباط/فبراير 1968، وهما ردّة فعل عاطفيّة على الهزيمة. سيتّضح مُراد غسان من قصة المفتاح السابقة حين نقرأ هاتين القصتين. هنا قصتان عن الرجال الأساطير، عن الرجال وبنادقهم مقابل الرجال الخانعين الذين لم يقاتلوا. في قصة «صديق سلمان يتعلّم أشياء كثيرة في ليلة واحدة» يُلقِّننا غسان سخافة أن تكون بريئًا في زمن النّضال: أن تكون بريئًا – بحسب عالم غسان كنفاني – يعني أن تكون خانعًا بالضرورة. وحدهم المذنبون هم الرجال، ذنوبهم هي أنّهم يُرسّخون بنضالهم الزّمن الأوحد. هؤلاء الرجال هم الذين يستحقّون أن يكون لهم اسم في قصص غسان، بينما الآخرون لا أسماء لهم، مجرّد أجسادٍ تتنفّس لا معنى لحياتهم. إما أن تكون سلمان الفدائيّ الأسطورة، أو أن تبقى بلا اسم، وأن تكون صديق سلمان في أفضل الأحوال. وكذا الأمر في قصة «حامد يكفُّ عن سماع قصص الأعمام» التي يُكرّس فيها غسّان فكرة منح الأسماء للفدائيّين وحرمان من عداهم منها، إذ ينقل رمزيّة فقدان حامد لسمعه بسبب اقترابه من الدبّابة حين قصفَها، لتصبح فقدانًا طوعيًا للسمع عن كلّ ما يُسيء إلى صورة الفلسطينيّ المناضل، فهو لن يسمع قصة «سقوط» أخته، ولن يسمع «قصص العجائز، والأمهات، والأطفال. الخوف والذل والعويل. الحيرة والضياع. التخلّي. قصص الأعمام بالذات عن الحكمة والظروف،» لأنّ الكلام الذي تسعى لوحات الكتاب تكريسه هو كلام أوحد: كلام الرجال والبنادق، كلام من يستحقّون اكتساب اسم.

يقدّم كتابا «سداسيّة الأيام الستّة» و«عن الرجال والبنادق» رؤيتين مختلفتين عن فلسطين بعد الهزيمة. يمكن لنا قراءتهما بوصفهما رؤية مدينة مقابل رؤية قرية أو مخيّم، أو رؤية الداخل مقابل رؤية الخارج؛ ولكنّ المهم هو أنّنا لم نعد أمام فلسطينين، بل أمام فلسطين واحدة. الكتابان تجريبيّان بامتياز، ولا يشبهان أيّ كتاب عربيّ حديث صدر قبل عام 1968. يتّحد الكتابان أكثر في مسألة اللغة، وهي أكثر نقطة عويصة في السرد العربيّ الحديث عمومًا. يقدّم الكاتبان بجرأة لغةً تتراوح بين المحكيّ والفصيح بحيث تبدو أقرب إلى «لغة شعبيّة» غير قاموسيّة لا تشبه لغات معاصريهما العرب. هي لغة جديدة لدى غسان كنفاني متطوّرة عن لغة سرده القديمة على جمالها، ولكنّها أبهى لدى إميل حبيبي الذي يستحق اشتغالُه في اللغة وقفةً مستقلّة. الفارق بين اللغتين هو أنّ لغة غسان تجريبيّة ومحاولة لإدخال عنصر جديد في عالمه السرديّ، بينما هي جزءٌ لا يتجزأ من عالم إميل حبيبي الذي انطلق تجريبيًا منذ البداية، وقدَّم أعمالًا تحمل بصمة متفرّدة. ليس هذا غريبًا حين ندرك أنّنا أمام كاتبٍ لا ينهل من اللغة وحسب بل يُثْريها. نادرون هم مَنْ يُثْرون اللغة، ولكنّ الأندر هم مَنْ يضيفون إليها؛ وقد أضاف إميل حبيبي كلمة «المتشائل» التي نَحَتَها من حياته وحياة الفلسطينيّين. ولكنّ «المتشائل»، كلمةً وروايةً، محور مقالة قادمة.

*يزن الحاج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.