الصفحات

تكتبهم فتكتب نفسك: «فُرس» أسخولوس و«مراد» تولستوي ...*يزن الحاج


نتيجة بحث الصور عن تولستوي
⏪⏬
غالبًا ما تُثير «الكتابة عن الآخر» إشكاليّات كثيرة عند تلقّيها. ولو خصّصنا هذا «الآخر»، واقتصرنا على «الآخر الشرقيّ» ستستحيل الإشكاليّات حروبًا بكل معنى الكلمة، إذ ستجتمع نظرية المؤامرة مع النّقد الثقافيّ مع طروحات مابعد الكولونياليّة مع نظريّة
الاستشراق (بمعناها السلبيّ على الدوام) لنصبح في أرضٍ موحلة زلقة لا تُتيح مجالًا للنّقاش. النقاش هنا لن يعني إلا المماحكات والمهاترات، لا سيما حين يكون الكاتب غربيًا و«تورّط» في الكتابة عن الشرق، إذ لن يكون هناك أيّ معنى لنصّه الأدبيّ إلا بكونه «أداة هيمنة» من غربٍ «يحاول تمثيل الشرق الذي يعجز عن تمثيل نفسه». أما مَنْ يحاول تقديم طرح آخر بمعزل عن الاستشراق وملحقاته، فلن يكون إلا ألعوبة بيد الغرب، أو – في أفضل الأحوال – جاهلًا ساذجًا لا يدرك الصورة الكبرى للمؤامرة التي تستهدف الشرق. وحينما نكون في وضع يُصاب فيه أنصار نظريّة الاستشراق بأعراض تشنّجيّة جسديّة ونفسيّة غريبة كلّما رأوا عملًا أدبيًا يتمحور حول الشرق، ستصبح الكتابة عن تلك النّصوص مغامرة محفوفة بالمخاطر. ولكن فلنحاول معًا أن نلعب ونستعيد «هرطقة» قراءة النّصوص الأدبيّة بوصفها نصوصًا أدبيّة. اللعبة جميلة والهرطقة تستحق الإحياء في زمن النظريّات التي خنقت الأدب. فلنلعب!

ما الذي يجمع بين مسرحيّة كُتبت عام 472 ق. م. وبين نوڨيلا كُتبت بين عامي 1896 و1904؟ كلتاهما تتحدّثان عن الآخر الشرقيّ: الآخر بوصفه عدوًا، بل ربّما العدوّ الأكبر. موضوع مسرحيّة أسخولوس واضحٌ من العنوان: «الفُرس»، وتتناول هزيمة الفُرس أمام الإغريق في معركة سلامينا (480 ق. م.)؛ وموضوع نوڨيلا ليڤ تولستوي «الحاج مراد» (أستخدم هنا الصيغة المعرّبة من اسمه، مع أنّي أفضّل شخصيًا اللفظ الأصلي: خاجي مُرات) هو القائد الآڨاريّ الأسطوريّ الذي قاوم احتلال الروس للشّيشان. كلا العملين «أدب تاريخيّ» بمعنى من المعاني، إذ يتناولان حدثين تاريخيّين كبيرين انتهيا تمامًا: يعود أسخولوس ثماني سنوات، فيما يعود تولستوي قرابة نصف قرن. كلا الكاتبين شارك في هذين الحدثين التاريخيّين: كان أسخولوس ضمن الجيش الإغريقيّ في معركة سلامينا (وفي المعركة الكبرى التي سبقتها: معركة ماراتون) الذي هزم الفُرس في المعركتين؛ وكان تولستوي قد تطوَّع في الجيش الروسيّ عام 1851، في العام الذي قرَّر فيه الحاج مراد تسليم نفسه للروس. ومع أنّ العملين مختلفان من ناحية الجنس الأدبيّ إلا أنّهما عملان فريدان من نوعهما حتّى ضمن جنسهما الأدبيّ: مسرحيّة «الفُرس» هي المسرحيّة الإغريقيّة الوحيدة التي تتناول حدثًا تاريخيًا، حدثًا بشريًا بعيدًا من الميثولوجيا المعتادة في المسرحيّات الإغريقيّة، وبذا فهي «التراجيديا التاريخيّة» الإغريقيّة الوحيدة من بين التراجيديّات التي وصلت إلينا؛ نوڨيلا «الحاج مراد»، بحسب تصنيف تولستوي الشخصيّ لها، «إستوريا» أو «سرد تاريخيّ»، أي هي نص ليس أدبيًا مُتخيّلًا بالمطلق، وليس نصًا وثائقيًا بالمطلق، وهي بهذا تشبه «الحرب والسّلم»، أو بالأحرى نسخة مصغّرة منها: كتاب يمزج التخييل بالوثيقة، على نحوٍ يستشرف التطوّر اللاحق الذي سنراه في أدب مابعد الحداثة. وكذلك نرى تشابهًا في تلقّي هذين العملين: مسرحيّة «الفُرس» مُتجاهَلةٌ تجاهلًا ظالمًا بين قرّاء التراجيديّات الإغريقيّة، مع أنّها (بحسب قراءتي على الأقل) أعظم مسرحيّة لأسخولوس بعد ثلاثيّة «الأورستيا»؛ ومع أنّ مصير «الحاج مراد» أفضل من مصير «الفُرس»، إلا أنّها تستحق ضوءً أكبر، لأنّها إحدى أعظم نتاجات تولستوي الأخيرة، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق. وأخيرًا، كلا العملين يقدّمان صورةً «موضوعيّة» لهذا الآخر العدوّ، مع أنّ الذات هي المنتصرة بينما هذا الآخر هو المهزوم، من دون إغفال الفوارق بين السّياقين كما سيتّضح لنا بعد قراءتهما.

السياق الأكبر الذي يجمع بين العملين هو الحرب. لا ينافس مسرحيّة «الفُرس» في قعقعتها الحربيّة إلا «إلياذة» هوميروس في الأعمال الإغريقيّة. تبدأ المسرحيّة بالحرب، وتنتهي من دون أن تخفت أصداء تلك الحرب التي ستتواصل بعد انتهاء الحدث المسرحيّ. نشهد أعلى درجات صليل الأسلحة وسيلان الدماء في منتصف أحداث المسرحيّة على لسان الرسول الذي ينقل أحداث الحرب البعيدة/القريبة. ميدان الحرب بعيد جدًا، ولكنّنا نحترق بلظاها لأنّ براعة أسخولوس أدخلتنا إلى الأجواء حتّى قبل وصول الرسول وأخباره الكارثيّة عن هزيمة الفُرس وعن موت الآلاف. تبدأ المسرحيّة بصوت الجوقة (الخورس)، وهم مستشارو الشاهنشاه الذين بدؤوا يستشعرون المصيبة القادمة قبل وقوعها؛ بالأحرى استشعروها لأنّها قد وقعت وانتهى الأمر بصرف النّظر عن مآلات تلك الحرب البعيدة. لم يبق في البلاد إلا النّسوة والأطفال والعجائز، بينما الشبّان والرّجال في أرض بعيدة وضحايا مصير مجهول حتى الآن. الأرض القريبة، أرض الوطن، هي التي ستنقل أخبار تلك الأرض البعيدة، أرض العدوّ قبل وصولها الفعليّ. الأرض خاوية، فقدت أزهارها، وبدأت تنوح على من غابوا. لن يعنينا هنا ما إذا كانت تلك الأرض فارسيّة أو إغريقيّة؛ فالحرب هي الحرب، ودمارها سيطال الجميع. صحيح أنّ أسخولوس سيبالغ في خسائر الفُرس، ولكنّ المسكوت عنه هنا واضح تمامًا: خسائر الإغريق كبيرة أيضًا، وهذه الأرض الفارسيّة التي اقتُلع شبّانها/أزهارها تُماثل تلك الأرض الإغريقيّة البعيدة التي سالت فيها الدماء، فارسيّة وإغريقيّة. تلك الأرض قد فقدت أزهارها أيضًا وباتت خاوية، من دون حاجة إلى قول ما نحتاج إلى قوله، ومن دون حاجة إلى أسخولوس فارسيّ يكتب مسرحيّة مضادّة. لو جرّبنا شطب كلمة «فارسيّة» في المقطع الآتي، أو أبدلناها بكلمة «إغريقيّة» سندرك ما قاله أسخولوس وما لم يقله: «حزن النّاس يملأ الأسرّة بالدّموع. وكلّ امرأة فارسيّة، في حِدادها المتهالك، قد شيّعت زوجها المتعطّش للحرب بأسفٍ غراميّ، وبقيت وحدها من بين زوجَيْ الأمس». كانت هذه النقطة بالذات (خواء آسيا)، محلّ سجال كبير بدأه الراحل إدورد سعيد في كتابه الأشهر «الاستشراق». طبيعيّ أنّ التأويل الذي طرحتُه (الخواء موجود في الأرضين الفارسيّة والإغريقيّ على السواء)، لم يكن ليرد في «الاستشراق» الذي يقوم أساسًا على إيجاد تأويل أوحد في الغالب يكون فيه الغرب مسؤولًا عن جريمة تمثيل الشرق. يرى سعيد أنّ خواء آسيا محاولة استشراقيّة من أسخولوس لنزع قابليّة الشرق على تمثيل نفسه، ودلالةٌ على أنّ نظرة أسخولوس الاستشراقيّة الغربيّة جعلت آسيا كلّها خاوية في مقابل تمجيد الغرب المتمثّل في اليونان. في حقيقة الأمر، بقدر ما تبدو فكرة استشراق أسخولوس مضحكة، إلا أنّ ما يدعو إلى الأسف حقيقةً هو تجاهل سعيد للسياق التاريخيّ الذي تقوم عليه المسرحيّة؛ يتناسى سعيد أنّ البادئ بالعدوان هم الفُرس لا الإغريق، علاوةً على أنّ الإمبراطوريّة الفارسيّة آنذاك كانت تُجسّد آسيا كلّها حقًا، وبذا فإنّ انتصارها انتصارٌ لآسيا، وهزيمتها هزيمة لآسيا، من دون أن ننسى حقيقة أنّ الحملة الفارسيّة في معركة سلامينا لم تقتصر على الفُرس بل شاركت فيها قوّات من جميع المناطق التي كانت تسيطر عليها فارس والتي كانت تشغل مساحة هائلة من آسيا. وبذا سيكون طرح الاستشراق متهافتًا هنا، إذ تكفينا قراءة هادئة للمسرحيّة كي ندرك أنّها مرآة تعكس الطرفين معًا.

في مفاجأة صعقت قرّاء تولستوي الذي كان في النصف الثاني من حياته قد بات المنظّر اللاعنفيّ العالميّ الأكبر، نُشرت «الحاج مراد» عام 1912 بعد وفاة كاتبها، ليجد القرّاء أنّها تُمجّد أحد أكبر القادة العسكريّين في حروب الشيشان. صحيح أنّ السياق التولستويّ هنا ليس بعيدًا من تنظيره اللاعنفيّ، ونرى شجبه للحرب صادحًا وصريحًا، إلا أنّ الموضوع مفاجئ في ذاته. في لعبة المرايا المتقابلة التي يدمنها تولستوي، نقرأ فصلًا عن المقاومين المسلمين، ثم فصلًا عن الجنود الروس البيادق. ومن ثمّ نقرأ فصلًا عن المقاومين اللاأخلاقيّين، ثم فصلًا عن السياسيّين الروس اللاأخلاقيّين. ولكنّ صورة الحاج مراد تهيمن على المشهد دومًا، حتّى حين يكون غائبًا. شَجْبُ تولستوي للحرب لا يطال الحاج مراد مع أنّه قائد عسكريّ في المقام الأول؛ بل على العكس: قدّمَ تولستوي للمرة الأولى ربّما صورة البطل التي كان يتحاشى تقديمها أدبيًا منذ أعماله الأولى. هذه المفارقة بالذات هي التي تصدم قارئ تولستوي: البطل الوحيد في أعمال تولستوي الأدبيّة كلّها هو الحاج مراد؛ البطل الوحيد في دنيا اللاعنف التولستويّة هو القائد العسكريّ العدوّ الذي لا ينافسه أحد في البهاء حتّى الأمير أندريه في «الحرب والسلم» الذي لمْ يُخفِ تولستوي إجلاله له حين منحه الميتة الأعظم في تلك الملحمة المذهلة. تتضاعف المفارقة حين نقرأ رأي تولستوي بمراد قبل نصف قرن من كتابته للنوڨبلا: كان تولستوي يرى استسلام الحاج مراد حركةً دنيئة. ولكن لعلّ حلّ هذا التّناقض (إنْ كان ثمة وسيلة لحلّ تناقضات تولستوي الكثيرة) هو في هذا التّناقض بحد ذاته. تولستوي الأول كان الشاب المندفع إلى الجيش، الشاب الذي لا يرى من الحرب إلا صورتها الشعريّة، مثله في هذا مثل الضابط الروسيّ بوتلر في النوڨيلا: «أما الوجه الآخر للحرب: مقتل وإصابة الجنود والضبّاط والجبليّين، فلم يكن حتّى يمرّ في خياله، مهما بدا ذلك غريبًا. بل إنّه، لاشعوريًا، كان لا ينظر أبدًا إلى القتلى والجرحى، لكي يحافظ على تصوّره الشعريّ عن الحرب.» أما تولستوي الآخر فهو تولستوي اللاعنفيّ الذي يرى الحرب عبثيّةً لا طائل منها، ولهذا ربّما ابتدأ روايته من لحظة الاستسلام، التي باتت حركةً تستحق التمجيد الآن بعد انقلاب أفكار تولستوي، مع أنّ تلك اللحظة (ولأنّها) لن تغيّر مصائر الحرب ومنطق الدنيا القائمة على العنف في جوهرها: هذا ما يدركه مراد وتولستوي. المصير الأوحد لن يكون إلا الموت أيًا يكن اختلاف النيّات. أما عبقريّة تولستوي التي لا حدّ لها فكانت في أجمل صورها حين وفَّق بين صورتَيْه المتناقضتين تلك: حين جعل بوتلر (مرآة تولستوي الشاب) الصديق الروسيّ الأقرب لمراد (مرآة تولستوي العجوز).

لا مكان للسلم في أوقات الحرب، لأنّ الحرب ستحتلّ السياقات كلّها. نجد تجسُّد هذه الفكرة عند أسخولوس في جوقة المستشارين وفي شخصيّة الملكة أتوسا، أرملة الشاهنشاه الراحل داريوس وأم الشاهنشاه الحاليّ أحشويرش. لعنة الحرب تبدأ مع بداية المسرحيّة حين نستشعر وطأة الجوّ المنذر بحدوث ويلات قريبة، ثمّ تتعاظم مع الحلم الذي رأته أتوسا. نكاد نرى الشّقوق التي ستتكاثر وتهدم بنيان قصر الشاهنشاه بكلّ ترفه وبذخه. الجوقة أوعى من الملكة بطبيعة الحال لأنّهم شهدوا وعايشوا حروبًا من قبل، بينما الملكة لم تبدأ بإدراك معنى الحرب إلا بعد أن شرعت بأسئلتها الساذجة عن مكان أثينا وطبيعة حُكمها السياسيّ، لتتجسّد عبثيّة الحرب في تساؤلها الذاهل: «وابني يريد فتح هذه المدينة؟» ولكنّ هذا الوعي لن يكتمل بطبيعة الحال لأنّ جوهر وعي الحُكّام قائم على فكرة بسيطة: طالما أنّنا بخير فالعالم كلّها بخير. لن تكترث أتوسا كثيرًا لأنباء مقتل الآلاف في تلك الحرب العبثيّة، وستعود إليها طمأنينتها حين تعلم أنّ ابنها بخير. نجد الصورة ذاتها عند الطبقة الأرستقراطيّة الروسيّة وعند سكّان قصر القيصر. طالما أنّ القيصر بخير والحفلات قائمة، فروسيا كلّها بخير مع أنّ أبناءها وأبناء الشيشان على السواء وقودٌ يوميّ لرحى الحرب الطاحنة. تلك الشّقوق التي تلتهم القصر ببطء موجودة على الدوام، وتُنذر بانهيار قادم لا محالة. لن نحتاج إلى استدعاء شبح داريوس كي يتنبّأ بهزيمة أخرى للفُرس، وبضياع هيبة الشاهنشاه، فهذا ما أدركه شيوخ فارس منذ قدوم الرسول بأنباء الهزيمة. ولن نحتاج إلى قراءة تاريخيّة لندرك أنّ مصير قيصر روسيا لن يكون شديد الاختلاف. الفارق هنا بين العملين هو أنّ أسخولوس لم يسلّط ضوءً مباشرًا على عموم الإغريق أو الفُرس، على الناس العاديّين الذين يكونون دومًا أول من تطالهم لعنة الحرب، وإن كان بوسعنا أن نستشفّ تلك الصورة من خلال العويل الذي لم ينقطع على طول المسرحيّة. مرايا تولستوي أقوى، إذ يصف لنا في فصلين متقابلين مشهدين يلخّصان معنى موت البيادق في لعبة الشطرنج الدمويّة. يستعيد تولستوي قصّته القديمة «غارة» (1852)، ويعيد كتابتها في «الحاج مراد». تتناول القصة والفصل في النوڨيلا هجوم فصيلة من الجيش الروسيّ على قرية شيشانيّة وتدميرها بالكامل. لم ينج أيّ بيت تقريبًا من الحرق والنّهب، وتتضاعف اللوعة حين ينبئنا تولستوي بمقتل الفتى ابن الرجل الذي آوى الحاج مراد قبل توجّهه إلى الروس. خلت القرية من أزهارها هنا أيضًا مع موت الفتى، وسيقابله موت آخر لفتى آخر، روسيّ هذه المرة هو الجنديّ بيوتر أفدييف الذي جاء إلى الحرب عنوةً، كي يموت فيها. اللافت في الميتتين أنّهما ميتتان هادئتان في جوّ وحشيّ يصدح بصيحات الاحتفاء. كانت الغارة الروسيّة محسومة النتائج إذ لا يمكن لقرية أن تصمد أمام وحشيّة السلاح والمدافع والنار، يُدفَن الفتى الشيشانيّ فيما أصوات احتفاءات الجنود الروس ما تزال معلّقةً في الهواء. وبالمثل، يموت أفدييف مع أنّ الأمر بدأ بمزحة فقط بين بنادق الطرفين «المرحة الطائشة». وطالما أنّ الشاهنشاه بخير، والقيصر بخير، وقادة الشيشان بخير، لن تهتزّ الصورة بفعل ميتة أو اثنتين أو ألف.

التّناقض الذي يقدّمه أسخولوس تناقض مرتبط بالزمن: الماضي أبهى وأجمل لأنّه مرتبط بالحكمة، أما الحاضر فمرتبط بطيش الشباب. وبغية تعميق هذه التّناقض يعمد أسخولوس إلى تغيير الوقائع التاريخيّة حين يقدّم صورةً ورديّة لداريوس بوصفه الملك الحكيم الرصين على عكس ابنه أحشويرش الطائش الأحمق، مع أنّ داريوس كان قائد الحملة الفارسيّة السابقة إلى اليونان والتي شهدت المصير نفسه. تعدّدت تأويلات سبب تغيير أسخولوس للوقائع، وإنْ كانت أغلبها تصبّ في معنى أنّ التّغيير كان لدواعٍ دراميّة. ولكن ما تلك الدواعي؟ أظنّ أنّ الهدف منها كان مضاعفة سوء صورة أحشويرش. إذ نجد أنّ استدعاء شبح داريوس كان نقطةً فاصلةً في تغيّر وعي الجوقة بالذات. لا أعني هنا تحوّلًا سيكولوجيًا مرسومًا ببراعة، لأنّ هذه البراعة تحتاج إلى يوريپيدس، وليست ضمن قدرات أسخولوس. ولكنّ أمارات التحوّل تتّضح بتعدّد القراءات: صارت اتّهامات الجوقة أكثر صراحة، وصارت لغتهم أوضح بشأن أنّ أحشويرش هو سبب المأساة التي حلّت بهم وبوطنهم. بذكاء، نحّى أسخولوس الملكة من الصورة، وبقيت الجوقة وحدها لتواجه أحشويرش الذي جاء يجرّ أذيال الخيبة حرفيًا. تبدو المواجهة الأخيرة قريبةً من جو محاكمة لهذا الحاكم الطائش. ليست محاكمة صريحة بطبيعة الحال، ولكن انتهت صيغة المبنيّ للمجهول التي ابتدأ بها كلام الجوقة في بداية المسرحيّة، ليصبح الفاعل معروفًا: أحشويرش دمّرنا. ومع أنّ الجوقة ستتّحد في أحشويرش في العويل الذي تُختَتَم به المسرحيّة، إلا أنّهم وجّهوا إليه أسئلة قاسية يُشتَمّ منها رائحة تمرّد داخليّ: «هذه الأرض تنوح على الشّبيبة التي نبتت منها، والتي ذبحها أحشويرش»؛ «ماذا بقي من الجيش؟ لقد كانت عظيمةً قوّة الفُرس». وهنا بالذات سيكون للتساؤل الذي طرحه كثيرون معنى أقوى: أين التراجيديا في مسرحيّة تصوّر سقوط حاكم طائش؟ تكمن الإجابة، كما أظن، في العنوان. عنوان المسرحيّة هو «الفُرس» وليس «أحشويرش»، وبذا فإنّ التراجيديا المقصودة هي تراجيديا الفُرس كلّهم، وربّما تراجيديا الإغريق أيضًا إنْ انتهج حكّامها نهج أحشويرش. الآخر هنا مرآةٌ للذات، لو أحسنّا قراءة المسرحيّة.

التحدّث عن براعة تولستوي في رسم الشخصيّات كليشيه بطبيعة الحال. ليس جديدًا أنّه يرسم شخصيّات متمايزة، وتكاد لا توجد شخصيّة – مهما كان صغر دورها في العمل – إلا وقد منحتها عبقريّته تفرّدًا خاصًا. ولكنّ شخصيّة الحاج مراد حالة استثنائيّة من بين شخصيّات تولستوي كلّها. لا ينبغي لنا نسيان أنّ تولستوي هجر كتابة الأدب تقريبًا في ثلث حياته الأخير، ولكنْ تسلَّلت بعض الأعمال التي حملت تغيّراته الفكريّة التي كانت تُفرد الأولويّة في الكتابة للزاوية الأخلاقيّة، ولكنّ المستوى الفنيّ لم ينخفض كثيرًا، وما من مجال للمقارنة أصلًا بين أعماله وبين أعمال غيره. لا محكّ لمقارنة تولستوي إلا بتولستوي، ولذا كانت لنوڨيلا «الحاج مراد» ولشخصيّتها الرئيسة هذه الحالة الاستثنائيّة ضمن أعماله. انكبَّ تولستوي على كتابتها ثماني سنوات «خفيةً عن نفسه»، على حدّ تعبيره. تعيدنا شخصيّة الحاج مراد إلى الشخصيّات العظيمة التي خلقها تولستوي في عمليه العظيمين «الحرب والسلم» و«آنا كارينينا»، بل ربّما كانت شخصيّة مراد أعظم شخصيّة أبدعها تولستوي على الإطلاق، مع إدراكي بأنّ كثيرين سيعدّون كلامي ضربًا سخيفًا من المبالغة. إنْ كانت شخصيّاته القديمة قويّةً بحضورها، فإنّ شخصيّة الحاج مراد قويّة في حضورها وغيابها على السواء، بل لعلّها تتألّق أكثر في غيابها، حين تكون محور أحاديث الشخصيّات الأخرى في النوڨيلا. يُشكّل مراد النقيض التام لشخصيّات القادة والأرستقراطيّين الروس والشيشان على السواء. تبدو الشخصيّات الأخرى محض مزحة سمجة أمام هيبته المرعبة التي لا تتناقض مع طيبته السّمحة. مراد نموذج البطل الذي لا سيئات فيه، ومع ذلك لا نرى أدنى زيف أو مبالغة في شخصيّته. يكون الضوء مسلّطًا حيث يكون مراد دومًا، ولذا تخفت الأضواء حين تحضر شخصيّة شامل الذي يبدو كاريكاتيرًا أمام شخصيّة مراد الأسمى. ويتضاعف جمال مراد لأنّ الشخصيّات البريئة والطيبة في النوڨيلا تحبّه، بينما يكرهه من يتوقون لأن يكونوا مثله ويعجزون. نرى عَظَمة تولستوي حين قدَّم هذه الشخصيّة وكأنّها من كوكب آخر لا يشبه دنيانا، ولكنّها متجذّرة في تلك الدنيا في آن. لا نراه ضعيفًا أبدًا، إلا في لحظةٍ واحدة أقرَّ بها، وباتت الفيصل الذي رسم مسار حياته. لا يتنازل مراد عن كبريائه أبدًا، برغم ابتسامته الطفوليّة التي يهبها لمن يستحق. لا نعلم سرّ تألّق هذه الشخصيّة إلا لو عزونا الأمر إلى تماهٍ خفيٍّ بين تولستوي ومراد. تولستوي يكتب نفسه هنا، أو ربّما يرسم الصورة التي يودّ لو كان عليها.

سنجد صدقًا مذهلًا حين يكتب تولستوي بلسان أبناء القرية التي دمّرتها الغارة الروسيّة: «لم يأت أحد على ذكر كراهية الروس، فما كان يشعر به الشيشان جميعًا، كبيرهم وصغيرهم، كان أقوى من الكراهية. لم يكن الكره ما يشعرون به، بل استقرّ في داخلهم أنّ الكلاب الروس ليسوا بشرًا، وكان شعورهم بالنّفور والقرف وعدم الفهم تجاه قسوة تلك المخلوقات الجنونيّة من الشدّة بحيث كانت الرغبة في سحقهم، مثل الرغبة في سحق الجرذان والعناكب السامة والذئاب، شعورًا طبيعيًا كغريزة حفظ الذات». لن نجد مثل هذا الصدق عند أسخولوس بطبيعة الحال، أو ربما لن نجده صراحةً. الشّعور ذاته موجود في ثنايا مسرحيّة «الفُرس» أيضًا، من الطرفين على السواء. لا بطل في مسرحيّة «الفُرس»، ولذا لم تلق المسرحيّة فهمًا كبيرًا لتراجيديّتها، ولكنّ البطل موجود بقوّة في نوڨيلا «الحاج مراد»، التي تُقارب التراجيديا، بل الملحمة، برغم صفحاتها القليلة. في لحظة موت مراد تموت الطبيعة كلّها، بل يموت عصرٌ كامل، ويبدأ عصر جديد يبحث عن بطل. يموت الحاج مراد مثل ميتة فتى القرية الشيشانيّة، وميتة الفتى الروسيّ بيوتر، موتًا هادئًا لا يعكّره إلا زعيق ابتهاج الأحياء. مات الحاج مراد كما عاش، بكلّ كبريائه وعنفوانه، حيث لم يتبقّ له في الدنيا إلا مريدوه الأربعة وذكرياته «التي تلاحقت في خياله من دون أن تثير فيه أيّ أحاسيس: لا الشفقة، ولا الغضب، ولا أيّ رغبة». هذه هي الميتة المرسومة منذ بداية النوڨيلا، وإنْ حاولنا تناسي الإيقاع الجنائزيّ الذي يضبط نبضات الكلمات؛ ولعلّها هي الميتة التي أرادها تولستوي لنفسه حين تماهى مع شخصيّة عدوّه القديم، ولعلّها هي الميتة التي نتوق إليها، ولكن لن ننالها على الأغلب.

*يزن الحاج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترجمات المعتمدة في المقالة:

  • «الفُرس»: سث بينارديت Seth G. Benardete (1956)، عبد الرحمن بدوي (1996).
  • «خاجي مرات»/«الحاج مراد»: پِڨير & ڨولوخونسكي Richard Pevear & Larissa Volokhonsky (2009)، هڨال يوسف (2016).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.