الصفحات

الجزء العاشر من رواية المأساة الفلسطينية “حرمتان ومحرم” للروائي الفلسطيني صبحي فحماوي


⏪ قوة الفيتو!
معاناة وتعقيدات إدارية شديدة في واحة الرمال، تجعل أبو مهيوب يدوخ في الذهاب والإياب، من مديرية إلى وزارة، ومن وزارة إلى دائرة، ومن دائرة إلى إدارة، ومن إدارة إلى مركز، ومن مركز إلى هيئة، ومن هيئة إلى جماعة.. وفي كل مكان يصله، يسمع أوامر
وتوجيهات كثيرة:
” سلِّمنا جوازات السفر.”.. “ابحث بين تلك النماذج عن نموذج (دال) ونموذج (راء) لكل معلمة، وعبىء لك كمحرم، نموذج (جيم).”… ” ضع طوابع على المعاملة. “….” اختمها من غرفة رقم 13″….” اذهب إلى المحاسب.” ….” اختمها من رئيس القسم.”….” أين هما صورتا المعلمتين، وصورتك أيضاً؟ ارفقها مع المعاملة..”….
يواجه أسئلة كثيرة في كل مكتب يزوره، فيجيب عليها ويلاطف الحيطان، وأحياناً يسخر من نفسه وهو يسعى، فيغني مع الفنان سيد مكاوي:
(اسعى اسعى اسعى اسعى. خذ لك صورة، ستة فتسعة!)، يغني بصوت مكتوم وهو ينطلق مسرعاً لختم أوراقه في الدوائر المختصة، متجاهلاً معاناته وهو يدوخ سائراً على قدميه، أو راكباً في المواصلات العامة، متنقلاً من حي إلى آخر، فيجهد بلاءه.
وبعد خمسة أيام من العذابات، واللف والدوران، والأخذ والرد، يتمكن الرجل من تثبيت المعلمتين في مدرسة واحدة، إذ كان توزيعهما في البداية في قريتين متباعدتين خارج المدينة، ولكن المَحرم يشرح لكل منهم موقفه، وينبرى قائلاً لهم بالقلم العريض:
” كيف أكون محرماً لحرمتين؛ كل منهما في بلد؟”
ولا يتوقف عند ذلك، بل يستعطف المدير، ويلاطف البواب، ويعمل صحبة مع رئيس القسم، ويدفع بالتي هي أحسن، فيستطيع تثبيتهما داخل المدينة، وعدم التفريط بهما في قريتين بعيدتين، تنفعه في هذا شهادة المَحرم، وتضع في يده قوة (الفيتو) العربي، الفاعل في مواجهة الحريم !
يرتب أمورهما الوظيفية، ويستأجر شقة من بيت طينيٍّ، في حارة مجاورة للمدرسة، عبارة عن غرفتي نوم وصالة جلوس صغيرة، واحدة للبنتين، والثانية للمحرم، وهكذا تعيشان معه في بيت واحد، وكل يوم تذهبان إلى المدرسة، وتعودان منها، فتجدانه قد اشترى أغراض البيت، وقام بطبخ الطبيخ، ونفخ النفيخ، وجلى أطباق وأواني الطعام، ونظّف البيت، وتجدانه عند دخولهما البيت يعمل وهو يغني:
” أمّونة إيه الأسباب ؟
أمونة ما تردي عليِّ؟
إن شاء الله ما ردِّيتي عليِّ، يا أموناااااااا! “
فتضحكان معاً، وتقول لـه ماجدة :
“ها أنا أرد عليك يا (أبومهيوب)، فلا داعي للشتائم والمخانقة!
ينتبه الرجل، فيلتفت إلى الصبيتين قائلاً: ” يا أهلاً، يا أهلاً، أشرقت الأنوار، يا أرض اهتزي وما عليك إلا الشمس والقمر؛ تغريد وماجدة! ولكن كيف تجتمع الشمس والقمر؟ لا تصدِّقا تخاريفي يا بنات، يبدو أن هذا من تأثير الجوع، فالغداء جاهز.” فتجيبه ماجدة بدلالها الطفولي، ترافقه ابتسامة تغريد الصامتة: ” آه والله يا أبو مهيوب، إننا ميتتان من الجوع، فنحن لم نفطر بعد!”


– لماذا لا تتناولان فطوركما قبل الذهاب إلى المدرسة يا بنات! الفطار أهم وجبة، فبعد العشاء نستمر بلا أكل، حوالي اثنتي عشرة ساعة، فكيف نذهب إلى العمل، ونواصل جوعنا ثمان ساعات أخرى؟ عشرون ساعة جوع، معناها جريمة في حق ابن آدم! فتؤكد ماجدة قائلة :” كلامك صحيح يا أبو مهيوب، فالعلوم الصحية تقول: كلما يزيد عدد الوجبات، وتقل كمية كل وجبة، تصير الصحة أفضل، والوزن أقل .” فيوجه الرجل حديثه إلى تغريد مناكفاً ماجدة، كي يخلق جواً في البيت :” قولي لهذه الماجدة، التي توزع النصائح الطبية لتخفيف الوزن: كيف تسمنين ويزداد وزنك كل يوم، وأنت تعرفين العلوم الصحية؟” فتؤيده تغريد ضاحكة :” لا تنس قولها إنها ميتة من الجوع، ومع ذلك تسمن! “
” حرام عليك يا تغريد، فأنا أعمل نظام حمية قاس من أجل المحافظة على وزني، شوفي خصري، على قد الخاتم !”
تجلس المعلمتان ومحرمهما حول طاولة المطبخ، ويبدأون بتناول الطعام باسم الله. وعلى المائدة تنفتح ماجدة بحديث مدهش :
“هل سمعت خبر السائق الذي تزوج المعلمات الأربع اللواتي كان ينقلهن يومياً بسيارته الأُجرة، من مدينة الواحة إلى قرية السراب؟” فتقطع تغريد قطعة خبز وهي تقول:
“كل المعلمات وحتى الطالبات يتحدثن في الموضوع! ولكن كيف تزوج الملعون أربع معلمات مرة واحدة! يقلن إنه متزوج، وليس أعزب!” فتضع ماجدة بعض الطعام في صحنها وهي تقول: ” ويقلن إنه كان قد طلّق زوجته الأولى قبل أيام من مغادرته المدينة لآخر مرّة مع عشيقاته الأربع، فسكنّ معه في بيت استأجره مسبقاً في قرية السراب، مكون من غرفتيّ نوم، بحيث تنام الزوجات الثلاث في غرفة، والتي عليها الدور تنام في غرفة الذكر، إذ لا يجوز الجمع بين زوجتين تحت سقف واحد. السقف هو المهم، فإذا كان السقف بخير…!” تضحك تغريد وهي تغمس بالخبز:” والله إنها ضربة معلم لصالح ذلك السائق! فقد تكون رواتب الزوجات هي السبب!” فتفغش ماجدة رأس بصل صغير وهي تقول:” وقد تكون ندرة المتقدمين للزواج والعنوسة هي السبب!” فتضيف تغريد وهي تتناول شريحة بصل:” وقد تكون المواصلات البعيدة بين المدينة والقرية واختلاء السائق بهن!”
– وقد تكون مقارنة ثقافتهن بجهل زوجته المتعفنة داخل بيتها هي السبب!
– وقد تكون أنانية الرجل، ورغبته بالاستمتاع بما ملكت يداه هو السبب!
– المصيبة أن أولياء أمور المعلمات الأربع، لم يشهدوا زواجهن، ولم يقبضوا مهورهن، ولم يعلموا بالخبر إلا بعد وقوعه! ولن يرفعوا رؤوسهم بذلك الزواج “الخطيفة”!
تصب تغريد الشاي في كأسها وهي تقول:” ماذا سيحصل لو اختلف الزوج مع إحدى زوجاته وطلقها، فكيف ستعود إلى أهلها وكيف ستتدبر أمر نفسها وحدها؟ المضحك في الأمر، أن السائق قد سكن معهن في القرية، ولم يعد للمدينة. فعلّقت ماجدة ساخرة :
“عملية توفير مصاريف، ووقت السائق والراكبات، ولا تنسي أن المعلمات الأربع يعشن حالة بطالة زوجية، فالزواج أدخلهن في عجلة الإنتاج التناسلي والطفولي والأمومي! أليس السائق في هذه المغامرة فاعل خير في مكافحة البطالة الاجتماعية؟ “
– لو عاد إلى المدينة، فقد يقتله نفر من ذوي إحدى زوجاته. على الأقل، واحد متهور سيقوم بالمهمة! تتحدثان وتتضاحكان وهما تأكلان، بينما أبو مهيوب يراقبهما، وهو يمضغ الطعام بهدوء، ويسمع الخبر مندهشاً، ومستغرباً ما تقولانه! يحمدون الله، وهذه تمسح وتنظف، وتلك تغسل الصحون وتجففها، وأبو مهيوب يرمي النفايات في الحاوية، ثم تذهب البنتان إلى غرفة نومهما، ويذهب أبو مهيوب إلى غرفته، حيث نوم القيلولة، وفي المساء يعودون لتجاذب أطراف الحديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.