الصفحات

تشيخوف… سيد القصة القصيرة وملهم المبدعين العرب


⏪⏬
تشيخوف يمتلك أسلوبا أرفع مني في الكتابة، وهو فريد من نوعه”. بهذه الكلمات نعى ليو تولستوي سيد القصة القصيرة أنطون تشيخوف بعد وفاته عام 1904.

وبالطبع، عندما تعلم أن عملاقاً بحجم ليو تولستوي، يصف كاتباً يصغره بحوالي 30 عاماً بهذه الطريقة، فحتماً ستوقن أنك أمام حالة نادرة خلقت شكلاً جديداً في الأدب العالمي.

بالرغم من أنه بدأ مسيرته في عصر الرواية الروسية الطويلة، ووسط أيقونات الإبداع العالمي أمثال دوستويفسكي، تولستوي، وتورغينيف، إلا أن تشيخوف بعبقريته وضع القصة القصيرة في المكانة الحقيقية التي تستحقها وسط فنون الكتابة، ومع عمره القصير، مثل قصصه، بات اسم تشيخوف ملهماً للعالم أجمع ومن أكثر الكتاب شعبية على كوكب الأرض.

وقبل أن نرصد تأثير تشيخوف في العالم العربي يجب أن نشير إلى أن ازدهار حركة الترجمة في القرن التاسع عشر، لعبت دوراً كبيراً في التفاعل الثقافي والفكري، بين بلاد القياصرة والعرب، وقد عظم هذا الدور بعد الثورة البلشفية، وتوطد العلاقات السوفياتية-المصرية، وتم تأسيس عدة دور نشر في روسيا أنتجت تراجم متميزة عرفت طريقها إلى المكتبة العربية، وقدمت عمالقة الأدب الروسي، ومنهم تشيخوف، الذي ألهم صناع الإبداع العربي سواء في القصة القصيرة أو في عالم المسرح.

ربما تأثر الكثيرون بتشيخوف، لكن يبقى اسم الأديب المصري يوسف إدريس متصدراً لقائمة هؤلاء الكتاب حتى أنه لقب بـ”تشيخوف العرب”. ويجمع بين القاصين حبهما للطب والأدب فكلاهما كان طبيباً وكاتباً، ولا ننسى أشهر مقولات تشيخوف “الطب هو زوجتي الشرعية، والأدب هو عشيقتي”.

لكن بجانب تقارب حياتهما الشخصية نجد أن طريقة السرد والغوص في أعماق الروح البشرية، كانت من أهم مميزات القاصين الروسي والمصري، فالقصة القصيرة بالنسبة إليهما لا تعني السطحية بل التركيز والصدق وبراعة الحكي، وهو ما يتضح في جميع أعمال تشيخوف، ويظهر جلياً في أولى مجموعات إدريس القصصية “أرخص ليالي” التي صدرت عام 1954.

وعند النظر إلى قصص تشيخوف نجد نزعة واقعية قوية تميل إلى البحث عن الحقيقة وعدم تزييف أو تجميل الواقع بل مواجهة الهموم وأوجاع البشر، إلى جانب الحداثة والبحث عن الحرية في كل شيء حتى في الحب، كما نرى في واحدة من أهم قصصه القصيرة السيدة “صاحبة الكلب”، وكل هذه السمات نستطيع أن نلتمسها بسهولة في أدب يوسف إدريس، ومنها مجموعته القصصية “بيت من لحم”.

ولم ينفي إدريس نفسه هذا التأثر، اذ قال عنه الناقد شعبان يوسف في كتابه “ضحايا يوسف إدريس وعصره” ومن خلال بعض المقالات النقدية حول القصاص المصري، إن أحاديث إدريس لا تخلو من الإشارة إلى تشيخوف باعتباره المؤثر الأعلى في كتاباته، لكنه كان يحلم دائماً بتجاوزه، وإن كان يرى أن أي كاتب قصة قصيرة في العالم، لا بد أن يكون قد تأثر به.

تشيخوف لم يكن قصاصاً عظيماً فقط بل مسرحياً رائعاً، ويعد أحد أبرز الشخصيات التي ساعدت في ولادة تيار الحداثة في المسرح بأربعة أعمال كبرى تحمل توقيعه هي “العم فانيا”، “النورس”، “الشقيقات الثلاث”، و”بستان الكرز”، كما يعتبره كثيرون من أعظم مبدعي المسرح العالمي، بل ويتمتع بنفس مكانة الإنكليزي ويليم شكسبير.

وساهم تشيخوف في تقديم الدراما المسرحية التي توازن بين التراجيديا والكوميديا، وعلى رغم من أن وضع الشخصيات قد يبدو مأساوياً وحزيناً لكنك ترى في نفس الوقت فكرة العبث أو الملهاة والتي تمثل حقيقة من حقائق الحياة البشرية، وهو ما يظهر جلياً في أشهر أعماله “الشقيقات الثلاث” عام 1901، و”بستان الكرز”، آخر مسرحياته، والتي تم عرضها للجمهور عام 1904 وذلك قبل ستة أشهر من وفاته.

هذا الإرث الغني كان منهلاً لا ينضب للمسرح العربي، والعراقي خاصة، الذي بدأ تقديم أعمال تشيخوف منذ سنوات طويلة، لكن هذه التجربة العراقية اكتملت مع د. صلاح القصب، المخرج الذي قدم منذ ثمانينيات القرن الماضي مسرحيات تشيخوف الأربعة، واستطاع من خلالها أن يعرض رؤية متميزة مع توظيف الإضاءة والمؤثرات الصوتية درامياً، حتى وإن كانت هذه الأعمال تعتبر مثاراً للنقاش والجدل أحياناً، لكنها أسست لأفكار تشيخوف في المسرح العربي.

ولا يعالج تشيخوف الحياة اليومية للشخصيات فحسب، بل يتناول تأثير العصر والمناخ المجتمعي على البشر، وبذلك يتلاقى مصير الفرد مع الواقع الاجتماعي، فمسرحياته هي أفضل وسيلة لتناول هموم الناس في أي مكان، ولذلك كانت أعماله عابرة للأزمنة، ،مناسبة لكل العصور، ومن هذا المنطلق اختار الفنان والمخرج السوري الراحل بشار القاضي أثناء إشرافه على تأسيس المسرح القومي في حلب تقديم مسرحية بعنوان “سهرة ضاحكة مع تشيخوف”، مأخوذة من أعمال الكاتب الروسي وتم عرضها على مسرح الشعب في سوريا في أوائل السبعينيات.

ولأن مسرحيات تشيخوف نابضة بالحياة وزاخرة بالدراما الاجتماعية النفسية، فإنها مازالت تلهم صناع الفن والمسرح المعاصر، مثل المخرج والممثل اللبناني كارلوس شاهين الذي جذب الجمهور بمسرحية مقتبسة عن “بستان الكرز” وحقق نجاحاً كبيراً على أحد مسارح بيروت عام 2015.

وتعد “بستان الكرز” أيقونة مسرحيات تشيخوف التي أضحت جزءاً من التراث العالمي، حيث يحمل البستان “التشيخوفي” رائحة كونية إنسانية، ويعكس حالة الحنين والبكاء على أطلال الماضي في أي مكان، وهي مسرحية تتحدث عن زوال الزمن وتغيرات العالم وأهمية الحفاظ على الإرث الثقافي عبر قصة سيدة تملك بستاناً للكرز، وترفض بيعه تمسكاً بالماضي الجميل رغم حاضره المؤسف وتكاثر الديون عليها حتى ينتهي الأمر بعرض البيت والبستان، رمز الوطن، في المزاد العلني بسبب إفلاس العائلة، ويرسى العطاء على رجل أعمال ثري يقطع كل أشجار الكرز، وهنا يأتي الطالب تروفيموف رمز الأمل، ويرفض البكاء على الماضي بل يدعو إلى إصلاحه من خلال الحاضر، والتوقف على الشعور بالألم والحنين للسنوات الماضية.

ويمكن اعتبار المسرحية التي عرضت عام 1904 تنبؤاً بالمستقبل وسقوط الإمبراطورية الروسية، وبأن الثبات والتحلل المجتمعي والانهيار الاجتماعي بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، أو بالأحرى ربما كانت هذه تصورات تشيخوف لثورة 1917، التي أعادت كتابة تاريخ روسيا، والعالم أجمع، وربما بسبب هذه الأفكار كانت أعمال تشيخوف دائماً تداعب أحلام المبدعين الباحثين عن التغيير في العالم العربي قديماً وحديثاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.