⏬
* الحبيب بالحاج سالمكلّما قرأت نصوصا للشّاعرة سعاد حسن العتابي رأيت فيها انتشارا لمعنى أراه جامعا حتّى غدا في شعرها قطب الرّحى، وكان بمثابة
المفهوم أو الفلسفة أو العنوان لفلسفة أو رؤية للفنّ والحياة والإنسان في علاقته بذاته ومنزلته في الكون.. أعني "الانتظار"، وهو معنى نراه واصلا ناظما لنصوصها كلّها، حتّى لكأنّه الغرض الأكبر عنه تنبثق، وإليه ترتدّ كلّ المواضيع والأغراض والمعاني الأخرى.. ويبدو لي أنّنا لو أردنا أن نسم الشّاعرة أو نصف شعرها وسما عامّا ووصفا شاملا، لجاز أن نقول عنها إنّها شاعرة الانتظار... ولو رمنا انطلاقا من فهم عامّ لمعنى الانتظار لما وجدنا خيرا من " تعريفه" اللّغويّ، وفي ذلك يردّ الانتظار إلى النّظر، تمهّلا وتوقّفا وترقّبا وارتقابا.. وهو بالتّعدية ذو موضوع، كما للنّظر صورة حسّيّة قريبة او بعيدة، أو صورة غير مدركة وليس لها حضور آنيّ مباشر.. وينفتح هذا المعنى المعجميّ العامّ على دائرة دلاليّة، هو مركزها، وهي شعاع له وانتشار..فلا ينفصل، في نصوص شاعرتنا، وفي كلّ انتظار إبداعيّ، عن القلق والخوف والحيرة والرّفض والرّهبة والرّغبة والوعي والحلم والرّؤيا والأمل واليأس والوحدة والغربة والتّيه والحزن والصّمت ومعاناة المسافة والالتماس والبحث والألم والبكاء والعزم والتّفاؤل والشّوق واللذّة... وهي معان في النّصوص منفصلة متّصلة، مختلفة مؤتلفة، متفرّقة مجتمعة، بعضها أظهر من بعض، وبعضها مشروط ببعض، وهي، على كلّ حال، راجعة إلى الانتظار، لا تظهر صريحة أحيانا، ولا ينفكّ بعضها عن بعض إلاّ لما يقتضيه العرض من تقسيم وتصنيف وفصل وتفصيل... وفي المحصّلة لا يكون الانتظار إلا حالة حبّ، فلا ينتظر، في أكمل معاني الانتظار، إلاّ المحبّ منفصلا عن محبوبه، توّاقا إلى وصله واعتناقه.. وحسبنا بعض النماذج من نصوص شاعرتنا لنرى منزلة هذا المعنى الكبير في نظم تلك النصوص، وفي مساعدتنا للوصول إلى جوهر الشخصية أو الذّات الشّاعرة وهي مسكونة بالانتظار، يتقلّب ويتلوّن، ليتجلّى في صور عدّة، هي وجوه له وأحوال وصور..ولن نقف إلا عند بعض المعاني ممّا نعدّه أجدر بالإظهار، فنغنى به عن غيره..
1) الانتظار خوف.. يعتبر الخوف حالا من أحوال الانتظار الملازمة له، تسكن وجدان الذّات الشّاعرة فتكسوه سوادا وإحساسا حادّا بظلام الوجود.. وكثيرا ما لا نلمس حضورا " حرفيّا " لمعنى الخوف، وإنّما هي الصّورة توحي به وتقوله، فنرى الشّاعرة متوقّعة متوجّسة، ونكاد نحسّ ارتجافها فزعا وفرقا ، وكأنّها تتخوّف خطرا داهما وسط الظّلمة الجاثمة في ليل " كموج البحر أرخى سدوله...": .." وقفتُ على شاطئ الحياة خرج الزمن من بين الضلوع في ليلة تاهت نجومها...
" 2) الانتظار قلق.. وهو في معناه الأعمّ انزعاج واضطراب نفس وانتقاض للسّكينة والهدوء، وحركة وانتفاء للاستقرار على حال.. يلازم الذّات الشّاعرة المنتظرة، فيكون مغالبة للزّمن المضني مضيّا أو وقوفا، كما يكون ضيقا بالحال وسوئها : .." الوقت يرتع والدقائق تختفي سئمت تغربي الشّجون تحيط كوكبي..
" 3) الانتظار معاناة المسافة.. المنتظر ينظر إلى وراء أو إلى قدّام..لا يسكن حيث هو مكانا وزمانا..مكانه وزمانه هناك..حيث لا يوجد، ويريد أن يوجد.. وحيث الآخر نريد أن نكون حيث هو أو يكون حيث نحن..فيريد أن يمحو المسافة، فيقرّب البعيد ويتّصل بموضوع الرّغبة: .."أيها البعيد القريب ... أنشد الدفء بين حناياك ...
" 4) الانتظار حلم.. في حال العاشق المنتظر، يكون الحلم فعلا منبثقا عن ملكة التّخيّل والتّخييل، تحقّق غير المتحقّق، وتستحضر الغائب، وتنشئ الكون الذي تريد الذّات وإيّاه تتّخذ بديلا عن الحاضر والواقع.. وهو، في نصوص شاعرتنا، الأداة أحيانا، والماهية التي بها يتحدّد جوهر الذّات العاشقة المنتظرة : .. "وأنا الأحلام الهائمات في الشّوق .. حروفا لقصيدة.. ونديما للسهر ..
" 5) الانتظار صمت... يقتضي الانتظار الصّمت، وهو حال ملازمة للعاشق ، ولغة أخرى، وامتناع عن لغو العالم، وترك لضجيجه، واعتكاف وتأمّل وانصراف إلى موضوع الرّغبة يستحضر، ويكون الحقيقة الماثلة، المنقلبة عن خيال وحلم، ليكون الصّمت في البدء والمنتهى شرط الاهتداء إلى سبيل الأسطورة الكاملة الحيّة النّابضة جسدا حقّا: "جنّدتُ صمتي ليلقي كلمة لتصبح حقيقة .. تنسلخ من خيال نتجّسدُ .. نتوّحدُ .. ننطلقُ نُمسِكُ بخـــيط الــــدرب لتكتمل الأســـــــــطورة ...
" 6) الانتظار تيه وألم وبكاء.. ترى الشّاعرة العاشقة المنتظرة وجودها " نزولا" إلى حيث لم تشأ، فكانت " نجمة تائهة" لا تهتدي، فهامت تتلمّس السّبيل والنّور، وبكت ألما واغترابا.. وفي هذه المعاني يتّخذ الانتظار أكمل أبعاده ومضامينه الوجوديّة ، وتنضمّ الشّاعرة إلى معسكر الشّعراء والشّاعرات الباحثين والباحثات عن الدّرب : "نزلـــــتُ ... نجمة تائهة من الأفق همتُ ملتمساً خيط فجرٍ موصدة أبـــواب اللقـــاء نشجتُ وقلبي الانتظار...
" 7) الانتظاراشتياق... الشّوق " نِزاعُ النّفس إلى الشيء.." وحال ناتجة عن الانفصال عن الشيء/موضوع الرّغبة، ومحرّك للحلم مغذّ للخيال، وقوّة تقلّص بل تنفي المسافات، حتّى ليغدو كيان المنتظر كيانا مشوقا تغمره الأشواق، وتحقّق له المشتهى والإشباع : ويغدو الجسد سورا شائك الأشواق فيطلق عصفور القصب أغنياته وتتراقص النخيل بخصر ممشوق كلّما اهتّز جاد رطبا، أشبع لذّة الاشتهاء..
" 8) الانتظار رغبة في مغامرة..رغبة في المطلق... كلّ انتظار هو حالة عشق، وكلّ عشق عند الشّاعرة لا ينبني إلا على انفصال بين الذّات العاشقة والذّات المعشوقة، وعلى مسافة، فتلجأ الذّات العاشقة إلى الحلم، ليتحقّق تحقّقا رؤيويّا الاتّصال بموضوع الرّغبة، وتنصهر "الضّفّتان" وتكون المغامرة رحلة اتّصاليّة مآلها البهجة النّاسخة للبؤس في الواقع..وترسم الشّاعرة في ذلك أبدع اللّوحات الشّعريّة النّابضة شوقا وفرحا : "وجدتك في الضّفة الاخرى تراقصني ..على أنغام الموج تداعب خلجان شَعري نتبادل الحسرات نطرّز ضحكاتنا بلهفة الروح.. نتآمرُ على المسافات تقصرُ وتقصرُ ... انصهرت وانصهرنا ... معها " وتجد الرّغبة أكمل موضوع لها في المطلق خلودا ناجما عن فعل إنسانيّ، يخرج بمقتضاه الإنسان منكرا حدود عالمه، مشتاقا إلى منزلة أرقى وأجدر بإنسانيّته..وترى الشّاعرة في العشق سبيلا إلى هذا الخلود المنشود، فتغنّي من تراه ذاتها رفيقا إلى هذا العالم..وفي التّغنّي انتظار : "شاركيني الرقص فوق الموج قوامـــك شراعي جدائلك اللحن وعزف المطر توّســدي قلبي ومهجتي تمايلي دلالاً في حكايات سنابلي دعيــــنا نعشق لنوُجِــدَ الخلــــود ...
" 9) الانتظار عشق..وإرادة جمال.. من عمق ذاتها تشتقّ الشّاعرة ذاتا منها إليها، متّصلة بها، منفصلة عنها، إليها تشتاق، وبها تتغنّى، وإيّاها تنتظر..وما تنتظره هو خلاصة جمال الوجود، صنيعة شوق، ومآل مسيرة بحث وتيه وصمت وترهّب واعتكاف : " أنتَ صوت الصّمت وشهقات الشجن والدروب المعتمة وشمس الأصيل أنتَ خسوف قمري وليلي الطويل وأنوثــة جدائلي وخجل الخدود أنت ... يـَأسي وبـَأسي أنتَ زغرودة عرس شجية ولحن نواعير الزمان أنتَ عشـــــــقي..
" 10) الانتظار قصيدة.. ليس الانتظار في وجدان الشّاعرة ووجودها قعودا واستكانة، بل هو بأس واقتحام لمجاهل الرّوح.. وانتظار قصيدة هي أمّ القصائد أو لوحة هي كلّ اللّوحات، تفكّ حروف الأبجديّة المستعصية، وتبلغ " أقاصي الرّوح" : " تمرّدَتْ أبجديتك على سطوري فرسمتك قصيدة .. بلون القمر وسحر المطر وصمت الالم ياسمين يُعرّشُ على نبضي نخلة باسقة بشموخها غيمة شوق تنثر العطر في دروب العمر سَكَنٌ في أقاصي الروح ربيع فيه أحلامي كالفراشات .." كذا بدا لنا أنّ الشّاعرة تقول الانتظار..وتقول ذاتها انتظارا..وتقول الوجود انتظارا..وكل من أتى هذا العالم يأتيه لينتظر أمرا أو شخصا أو حدثا..ينتظرانقضاء نهار أو ليل أو شهر أو شتاء.. ينتظر قطارا راحلا أو قادما..ينتظر ولادة أو موتا أو قيامة وانبعاثا ونعيما..ينتظر غدا..ينتظر الآن.. وكذا الشّاعرة تنتظر وطنا وحبيبا وقصيدة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.