تتمايز لغة الشاعر : محمَّد علي خضور بأنها لغة تحاول أن تبتعد عن التشكيل اللغوي المعهود ، وهي لغة تتوق إلى أن تكون نسيج حروفها ، بعيداً عن النسق السائد ، والنمطيات المألوفة وإذا كنت سأفرد للعناوين هذا المبحث ، فلأني أرى أنه المفتاح الأولي الذي
يُمكِّننا من فهم العالم الذي يلجه الشاعر ، فالعناوين تُشكّل العتبات النصية الأولى التي يريد لها أن تكون مؤسسة لهندسة تشكيل بناء القصيدة في معماريتها على مستويي الصورة والتركيب ، وبهذا التشكيل يبدو عنونة الشاعر لديوانه : ( العزف بأصابع مستعارة) الذي بني على التركيب الاسمي ، وهو ما يفيد الثبات والاستقرار في التركيب ، فيما جاء الابتداء منقطعاً عن خبره المُقدَّر بما يشي بحالة المسكوت عنه التي يريد الشاعر أن يبقيها حبيسة هذا البناء الفنيّ في معمار العنوان الذي لا يعطي كل شيء للقارىء ، وإنما هو يحيل ذهن المتلقي على الالتفات عبر موروث الذاكرة الجمعية التي تقول بشياطين الشعراء ، وهو ما يلمح إليه التركيب الوصفي : (أصابع مستعارة ) التي أقامها الشاعر على أساس مجازية اللغة باستعاضة الجزء عن الكل ، فالأصابع هنا ، إنما هي القدرة الكامنة ، والطاقة المختزنة ، والمخيلة المتوثّبة التي يمتلكها الشاعر ، فيما تكون دلالة الاستعارة إماءةً إلى تلك الموهبة التي ارتبطت في موروثنا الجمعي بجنيات الشعراء التي كانت تلهمهم الشعر ، وبذلك يحاول العنوان في تشكيله المعماري أن يجمع الأصالة في لبوس الحداثة من دون أن يخدش الحسَّ الجماليّ لأيّ من طرفي التشكيل اللغوي في العنوان من خلال عملية امتزاج ألغت الحدود الفاصلة بين ما هو موروث يقبع في الذاكرة ، وبين ما هو مُتولَّد في المخيلة المتجددة عبر هذا النسيج الذي يُشكّل فسيفساء العنوان الذي أراد له أن يكون تعبيراً عن حالة استحضار الموروث المُتخيَّل ليفرغ فيه هواجس الحالة الإبداعية القائمة في الذات عبر الدمج بين الافتراضي والواقعي في بوتقة لغوية واحدة .
وفي عنوان ديوانه الموسوم بـ : ( مفاتيح لزنزانة الروح ) تتجلَّى رغبة الشاعر في التحليق بعيداً عبر عوالمه التي يتفيأ فيها ظلال الخيال من خلال تفرّده باستنطاق الخفي ، والكشف عن مكنونات الأسرار في محاولة لفك شيفرة الوجود ، إنه الحلم الذي يحلّق بالشاعر ، وهو يسعى لقنص لحظة الحقيقة ، وتجلّي كنه الوجود عبر مسباره الشعري ، ومساره الذي يحاول أن يبوصل سمته ، وهو ما يتبدَّى بدلالة الدوال الاسمية الثلاثة التي جمعت بين ما هو معنوي غيبي (الروح ) وبين ما هو مادي واقعي ، ولنلاحظ أن استخدام الروح قد جاءت في مرتبة متأخرة من حيث بناء الجملة ، وهو تأخير مقصود يحيل على حمولات جمالية تفيد رغبة الشاعر في أن يحقّق عنصر التشويق وإثارة القارىء لمعرفة لمن ستكون هذه المفاتيح التي جاءت بصيغة الجمع ما يفيد بدلالة كثرة التأويلات التي يمكن أن تكون للكشف عن ماهية الروح ذلك العلم الغيبي الذي اختصَّ به الله عزَّ وجل َّفي قوله : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (، وفي هذه الإحالة التناصة الممتصة في التركيب ما يشير إلى أن العنوان لدى الشاعر: محمد علي خضور قد جاء منغلقا على ذاته ، وهو انغلاق في حدود يحاول الشاعر أن ينعتق من أسرها ، وبذلك تبدو دلالة : (زنزانة ) بما تحمله من عنصر يتوسط تشكيل العنوان ، لتكون العقبة بين المُتمنَّى في الوصول إليه ، وهو عالم الروح ، وما يحاول السعي لبلوغه لتجاوز الحالة باستخدام الدال : ( مفاتيح ) التي جاءت لتؤكد توق الشاعر إلى فضاءات التأويل المختلفة ، وبهذا التنوع وإمكانية تعدّد القراءات وفق الذائقة الجمالية والإرثية التي يمتلكها المُتلقّي تكمن قدرة التشكيل الجمالي للعنوان في أن تفتح مخيلة القارىء على ما هو أبعد من مسافة اللغة المُشكّلة للعنوان كي تأخذه إلى استكناه أغوار البعد الأعمق الذي يحتاج من القارىء أن يغوص فيما وراء الكلمات بدلالاتها المتخفية ، ليكتشف أبعاد اللغة وجماليتها في العنوان الذي يُمسك بالقارىء ليلج ما بعده من دواخل شعرية تنفتح بدورها على عوالم و فضاءات أخرى .
*د. وليد العرفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.