(1)
مقهى قديم ، كراسي متآكلة، طاولات مخلعة، مطحنة البن التي تضرب عن العمل أكثر مما تعمل ، عصارة القهوة التي تتوقف فجأة دون سابق إنذار . بالداخل عاطلون عن العمل ، متقاعدون ، بائعوا سجائر بالتقسيط ، ملمعوا الأحذية ، سماسرة ، لصوص ، مهربون ، بائعوا الخمور في السوق السوداء .
فضاء معزول عن الزمن ، وعلى الحائط خلف " الكونتوار " عقارب الساعة متوقفة عن الدوران منذ زمن بعيد ، المرآة تعكس رؤوساً ملت منها الحياة وملت هي الحياة ، رؤوساً طحنتها الأيام ، داخلها أفواه بلا أسنان تلوك بذاءات وشتائم ، الضحكات في الأفواه مشوهة كأنها تصدر عن كهوف . شخوص تتشابه في رفضها للحياة ، تلتصق نواصيها بالواجهة الأمامية للمقهى ، تلتهم سيقان وأرداف النساء ، وتستمني في خيالاتها . في هذا الفضاء الممسوخ يتبوأ " مسعود" مقعده ، غارقا في معطفه الطويل المهتريء وطاقيته البنية ، رافعا ياقة المعطف إلى الأعلى درءاً لبرد يتوهمه ، " مسعود" الذي تأخر به الزمن حتى شاخ بين كراسي المقهى وموائدها واعتبره جلساؤه خارجا عن دائرة الموت . إصدقاؤه القدامى تسربوا من عقد الحياة أو هاجروا وتركوا خلفهم مدينة عاهرة مغتصبة من طرف الأغراب ، تغص شوارعها بالعاطلين عن العمل ، وبشحادين جدد وفدوا إليها من القرى المجاورة التي توالت عليها سنون الجفاف والِإمْحَال . الأغراب إستولوا على كل شيء ، الدور الفاخرة والفنادق والحانات ، والمقاهي ، والمحلات التجارية العصرية والسيارات الفاخرة حتى الأرصفة إستولوا عليها ولم يتركوا للراجلين غير الإسفلت يشتركونه مع دواليب السيارات . وحدهم المجانين لم يتغيروا و تشبتوا بأمكنتهم الهامشية القديمة ، ولم يأبهوا للتغيير الذي زحف على الأمكنة وفتح شهية الإستثمار الفاحش الذي لم يحترم فضاء المدينة .
(2)
يتيه "مسعود " في ليل المدينة ، يدخل حانة ، يشرب حتى يثمل ، يثير فيها فوضى ، يلقي به الندل خارجها ، يدخل حانة أخرى تلفظه بدورها ، وهكذا يجد نفسه في شارع المدينة ، يقصد أحد مهربي الخمور، يقتني نبيذاً رخيصاً وفي الحديقة العمومية وعلى أحد الكراسي الذي نُهِبَتْ بلاطاته الرخامية ، يجلس ، يدس القناني تحت مقعد الكرسي ، يحتفظ بواحدة بجانبه ، يفتحها ثم يشرع في الشرب من فمها مباشرة ، كأنه يمص حلمة ثدي ، الظلام من حوله كثيف رغم الأضواء الكابية التي ترسلها نجوم
كسولة علقت في مناطق متفرقة ونائية من السماء ، أرغمته برودة الليل ان يسحب ركبتيه داخل كنزته إلى أعلى صدره ويلتف بمعطفه آخداً وضع جنين في رحم أمه ، أحس بالوحدة والوحشة تنخران عظامه ، سحابة ضيم خيمت عليه ، تذكر أن الموت تأخر به كثيراً ثم كيف أمهله في محطات كثيرة وآخرها في حادث سير ذهب ضحيتها أحد أصدقاءه وخرج هو منها سالماً ، بساقين مهروستين ، أجبرته هذه الحالة أن يقضي شهوراً ينط على عكازين ثم تخلى عنهما فيما بعد قبل ان يستعيد توازنه فمشى متمايلاً يعتمد على الفراغ . لم يصدق أنه أفلت من موت محقق وهو يرى نفسه بعد الحادث يأكل ويمشي ويتغوط ككل المخلوقات ، ولم يدر في خَلَدِهِ أن الموت الذي أفلت منه سابقاً والذي جعله يعتقد أنه اصبح في منجى عنه ، يراقبه الآن وهو يعب نبيذه على مهل في وضعه الجنيني ذلك .كان جسمه يرتعد من البرد ويهتز بفعل أفاويق متكررة جعلته يتقيأ الخمرة التي شربها على معدة فارغة .
ـ رجل بئيس ! قال الموت . ثم أضاف
ـ ماذا سأجني من حرمانه من الحياة التي لم يعشها كما ينبغي لرجل مثله ؟.
كان مقرراً أن يجهز عليه في تلك الليلة ـ ولذلك ركن الموت عربته على رصيف الطريق المسفلت المحيط بالحديقة غير بعيد من المقعد الذي يجلس عليه " مسعود" ـ إلا انه امهله هذه المرة كذلك حتى يستمتع اكثر بالحياة . وبما أنه من غير اللائق ان يدخل الموت ملكوت السماء وعربته فارغة فقد قرر البحث عن رجل آخر ، لم يكن ذلك الرجل بعيداً ، كان أحد المشردين الذي ينام على مقعد آخر في ركن مظلم من الحديقة ، عبأ الموت روحه في كيس وساق عربته نحو السماء ، وفي نفس الوقت غادر "مسعود " مقعده مترنحاً ومترنماً بمقطع من أغنية حزينة . وفي ساعات الصباح الأولى وجد المتشرد متخشباً ومتجمداً ، كما يحدث بين فينة وأخرى لأغلب مشردي المدينة في ليالي الصقيع .
ــــــــــــــــ
*احماد بوتالوحت
مقهى قديم ، كراسي متآكلة، طاولات مخلعة، مطحنة البن التي تضرب عن العمل أكثر مما تعمل ، عصارة القهوة التي تتوقف فجأة دون سابق إنذار . بالداخل عاطلون عن العمل ، متقاعدون ، بائعوا سجائر بالتقسيط ، ملمعوا الأحذية ، سماسرة ، لصوص ، مهربون ، بائعوا الخمور في السوق السوداء .
فضاء معزول عن الزمن ، وعلى الحائط خلف " الكونتوار " عقارب الساعة متوقفة عن الدوران منذ زمن بعيد ، المرآة تعكس رؤوساً ملت منها الحياة وملت هي الحياة ، رؤوساً طحنتها الأيام ، داخلها أفواه بلا أسنان تلوك بذاءات وشتائم ، الضحكات في الأفواه مشوهة كأنها تصدر عن كهوف . شخوص تتشابه في رفضها للحياة ، تلتصق نواصيها بالواجهة الأمامية للمقهى ، تلتهم سيقان وأرداف النساء ، وتستمني في خيالاتها . في هذا الفضاء الممسوخ يتبوأ " مسعود" مقعده ، غارقا في معطفه الطويل المهتريء وطاقيته البنية ، رافعا ياقة المعطف إلى الأعلى درءاً لبرد يتوهمه ، " مسعود" الذي تأخر به الزمن حتى شاخ بين كراسي المقهى وموائدها واعتبره جلساؤه خارجا عن دائرة الموت . إصدقاؤه القدامى تسربوا من عقد الحياة أو هاجروا وتركوا خلفهم مدينة عاهرة مغتصبة من طرف الأغراب ، تغص شوارعها بالعاطلين عن العمل ، وبشحادين جدد وفدوا إليها من القرى المجاورة التي توالت عليها سنون الجفاف والِإمْحَال . الأغراب إستولوا على كل شيء ، الدور الفاخرة والفنادق والحانات ، والمقاهي ، والمحلات التجارية العصرية والسيارات الفاخرة حتى الأرصفة إستولوا عليها ولم يتركوا للراجلين غير الإسفلت يشتركونه مع دواليب السيارات . وحدهم المجانين لم يتغيروا و تشبتوا بأمكنتهم الهامشية القديمة ، ولم يأبهوا للتغيير الذي زحف على الأمكنة وفتح شهية الإستثمار الفاحش الذي لم يحترم فضاء المدينة .
(2)
يتيه "مسعود " في ليل المدينة ، يدخل حانة ، يشرب حتى يثمل ، يثير فيها فوضى ، يلقي به الندل خارجها ، يدخل حانة أخرى تلفظه بدورها ، وهكذا يجد نفسه في شارع المدينة ، يقصد أحد مهربي الخمور، يقتني نبيذاً رخيصاً وفي الحديقة العمومية وعلى أحد الكراسي الذي نُهِبَتْ بلاطاته الرخامية ، يجلس ، يدس القناني تحت مقعد الكرسي ، يحتفظ بواحدة بجانبه ، يفتحها ثم يشرع في الشرب من فمها مباشرة ، كأنه يمص حلمة ثدي ، الظلام من حوله كثيف رغم الأضواء الكابية التي ترسلها نجوم
كسولة علقت في مناطق متفرقة ونائية من السماء ، أرغمته برودة الليل ان يسحب ركبتيه داخل كنزته إلى أعلى صدره ويلتف بمعطفه آخداً وضع جنين في رحم أمه ، أحس بالوحدة والوحشة تنخران عظامه ، سحابة ضيم خيمت عليه ، تذكر أن الموت تأخر به كثيراً ثم كيف أمهله في محطات كثيرة وآخرها في حادث سير ذهب ضحيتها أحد أصدقاءه وخرج هو منها سالماً ، بساقين مهروستين ، أجبرته هذه الحالة أن يقضي شهوراً ينط على عكازين ثم تخلى عنهما فيما بعد قبل ان يستعيد توازنه فمشى متمايلاً يعتمد على الفراغ . لم يصدق أنه أفلت من موت محقق وهو يرى نفسه بعد الحادث يأكل ويمشي ويتغوط ككل المخلوقات ، ولم يدر في خَلَدِهِ أن الموت الذي أفلت منه سابقاً والذي جعله يعتقد أنه اصبح في منجى عنه ، يراقبه الآن وهو يعب نبيذه على مهل في وضعه الجنيني ذلك .كان جسمه يرتعد من البرد ويهتز بفعل أفاويق متكررة جعلته يتقيأ الخمرة التي شربها على معدة فارغة .
ـ رجل بئيس ! قال الموت . ثم أضاف
ـ ماذا سأجني من حرمانه من الحياة التي لم يعشها كما ينبغي لرجل مثله ؟.
كان مقرراً أن يجهز عليه في تلك الليلة ـ ولذلك ركن الموت عربته على رصيف الطريق المسفلت المحيط بالحديقة غير بعيد من المقعد الذي يجلس عليه " مسعود" ـ إلا انه امهله هذه المرة كذلك حتى يستمتع اكثر بالحياة . وبما أنه من غير اللائق ان يدخل الموت ملكوت السماء وعربته فارغة فقد قرر البحث عن رجل آخر ، لم يكن ذلك الرجل بعيداً ، كان أحد المشردين الذي ينام على مقعد آخر في ركن مظلم من الحديقة ، عبأ الموت روحه في كيس وساق عربته نحو السماء ، وفي نفس الوقت غادر "مسعود " مقعده مترنحاً ومترنماً بمقطع من أغنية حزينة . وفي ساعات الصباح الأولى وجد المتشرد متخشباً ومتجمداً ، كما يحدث بين فينة وأخرى لأغلب مشردي المدينة في ليالي الصقيع .
ــــــــــــــــ
*احماد بوتالوحت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.