*آمنة وناس
على ضفاف قلمه يكتبنا السفر، عبر ركائب تقرؤنا بابتسام، المعنى من صمته يعتبر، و الورق بحبره في سلام. الحرف مع دواخله في وصال، فالقصيدة من نبعه تحكي الحلم، تسأل فينا عن عنوان السكينة و الترحال، عبر مسيرة بين الفرح و الألم. يستفهم عن دهشة الواقع، بين أحضان الفصول، عن إرادة نجمها ساطع، عن الرفض و القبول. يبحث عن أرض لا يستنشقها صقيع الحروب، لا تضربها حوافر الدمار، اعتقادا منه بأن الحياة دروب، و بأنها عزيزة هذه الديار. يقول يا وطني لك شهقة الأنفاس، فدمعي بين أحضانك شفاء، لجرحك النابض في الإحساس، لوجعك النازف شقاء، هو الشاعر اللبناني "محمد علي سرور".
*مرحبا بك سيدي
غمرتني بمقدّمة عالية، حدَّدتْ لي معالم طريقي قبل أن نبدأ. فألف شكر لكِ وتحية.
*س عندما تتسلل القصيدة من على صهوة الدهشة دواخل الشاعر "محمد علي سرور" ، كيف يشهق لها إحساسه؟
ج القصيدة، ذلك الكائن المتكبّر، المتحكّمُ بلا حدود... بالرؤى، المنسوج من صدوعِ الوهلةِ والكشف الماكر... تخيفني، توقعني في دوَّامة القلق، دون أن أبدي تمنُّعا في مجاراتها... كأنني هنا أسيرَ مزاجها الذي لا فكاك من ركوبِ صهوتهِ. تأتي القصيدة دون أن تعلمني بقدومها... كأنها أميرة الكشف والسؤال عن أحوال الرعية.
*س عندما يغفو حرفك بين كفي هذه القصيدة، كيف يرتاح على هدهدتها؟
ج للأسف، لا يغادرُني الخوف، ولا يهدأ القلق بي، إذ خلال الكتابة وبعد اعتقادي بإنجاز النص الشعري أقع في متاهةِ الأسئلةِ حول أهميةِ ما كتبت وجودته... لماذا توقعنا القصيدة التي نخالُ أنها اكتملت بمزيد من التعبِ ولتشوُّش الباحث عن ألأبعد؟ هنا كلمة سرِّ القلق.
*س تقول الشاعرة اللبنانية "سامية زين" "أترك للحرف الحرية في احتضان نبضي فيبدع في ترجمته على الورق"، إلى كم من سفر تأخذك هذه القناعة؟
ج أحترم قول الشاعرة سامية زين، وأراني أوضح قصدها، كوني أقتنع بكوني الناقل... أي صلة الوصل بين الحبر والحرف... كأن لي دور المنقّح والمزيّن لشيء ما في النص، لكن المسألة الأبعد التي علينا الاعتراف بها هي: ذكاء النص، الذي أعتبره أذكى من الكاتب والشاعر الذي خطّه بالسهر والسفر وفتح الدروب بين شعاب الهواجس والأسئلة. هنا نصبح بنائين لحديقةٍ كلُّ حاجاتها حاضرة، ولا يبقى علينا إلا واجب التنسيق وهندسة الفوضى الرائعة في عكاظ الكلمات والرموز والصور. أعتبر النص ملاذي، كونه يشبهني، يشبه هذياني الساقط كرذاذِ الندى الصباحي... الشفيف والقريب من رقة الزجاج ونقائه.
*س عندما يكتظّ حرف الشاعر "محمد علي سرور" "بالأنا"، أين يأخذ "النحن"؟
ج يعتبر "بودلير" بأن "الأنا" كريهة، وحين تضع ثقلها في النص نكون أمام إشكالية الثقة بجودة النص واكتبه معا. ال "نحن" هي الكلمة الأكمل التي تنمُّ عن تواضع وثقةٍ وبالتالي عن كون النص ليس ملكًا حصريًا لكاتبه- بالمعنى الأدبي والرسالي للكلمة. هنا يصبح القارئ شريكا أو نزيل أحدِ أفكار النص، بمعنى القارئ من الداخل والناقد السوي الذي يقرأ بالبعد الذي يعنيه كواحد من جماعة...
*س إلى كم من إحساس يثق حرفك في ال"هو" ليعبر خلجاته و يبلغ حد البسمة؟
ج الهمُّ الإنساني واحد في كل مستوياته واختلاف مقاصده وتنوّعها. كم من قضيَّةٍ لا نعرف أهلها ونقاسمها الإحساس والتضامن والانفعال الشعوري البعيد والعميق، كذلك هو الحب، حالة إنسانية. حين أراقب نضجي الإنساني ومدى حياديتي تجاه من تتعلق بحياتهم ومصائرهم العدالة الإنسانية وقوانينها أشعر بسلامة كياني... بنأيه عن عاهات التحيّز والاستلاب والالتحاق بركب الجهل والظلامية. أحب نصّي معافى من آفةِ التمييز والعنصرية- بمعناها الفكري والثقافي. ال "هو" في مكان ما هو: أنا وهو الآخر.
*س في منتصف الصمت، استنشقتك، حرف بوسامة الخريف، إلى كم من مسافة يعبرك هذا المعتقد؟
ج الخريف هو الفصل الجميل، الذي يُعرّي الطبيعة تمهيدا لاغتسالها وبدء دورةِ حياة جديدةِ في مسيرتها. هنا الاستنشاقُ يكون تمهيديًا، مؤسِّسًا لحياة طازجة- نلمُّ بواكير نواتها أملًا واستضاءة ومواعيد مع التمنيات، نسكَر على رائحة الشتوةِ الأولى وتنهيدةِ الأرض التي ناوشها صقيع المطر اللذيذ. يعبُرني هذا المعتقد إلى حيث التجدّد وحيث لكل قصيدةٍ دورة حياتها كما الطبيعة.
*س تقدمت بي الحياة حتى نضج الرحيق، سألت العشب الأسود هل بلغت طور المشيب، برأيك هل بلغ طور المشيب؟
ج هو المعنى المجازي لمسألةٍ أخرى وهي "النضج". حيث القصيدة تستدعي الرعونة، بعض الشقاوة والجنون. تستدعي تجاوز الممنوع ومخر عباب الأسئلةِ المحرّمة والمواقف الواضحة والعالية. أخاف هنا أن أصاب بالنضج والوقوع فيما يسمّى الحكمة. تلك الكلمة لا أحبّذها، حيث مهمّتهم ترويض العقول والإرادات: أقصد في الشعر والأدب.
*س "للجنون أبجدية بيضاء...بيضاء"، أي عنوان توشوشه لنا هذه الأبجدية؟
ج كسرُ الحاجز، إتباع مذهب اللامألوف... تجاوز النمط.. الجنون أبيض لأنه يخرج على القوالب المتوارثة والجاهزة حد حجز العقل وقمع الإرادة. أسأل نفسي: لماذا نحن أمة متخلفة؟ لماذا كلَّ أشكال القمع... حتى أننا نمارسه على أنفسنا. لماذا علينا التزام القوانين والقواعد بحذافيرها، ولا نبني على الشاعريّة؟ على الأدب العالي؟ على الغرابة والدهشةِ، بالمعنى الإبداعي للكلمة؟ لقد مارست الجنون... وسوف أمارسه حيث سنحت لي القصيدة... والنص... والرواية والمقالة.
*س يعتقد الشاعر اللبناني مكرم غصوب" بأن "كل جنون يقين"، ما مدى إخلاصك لهذه الفكرة؟
ج بالمعنى المجرَّد: هو حقيقة ثابتة. إنما بالمعنى الشعري- حيث الرمزية والتورية فالمسألة نسبية. على كلِّ حال: عالم الجنون وديع وبريء... أحبُّ هذا العالم.
*س "الحب في ذمّتي، رصاصة طائشة لم تزل تبحث عني"، ما ملامح هذا البحث؟
ج بمعناه البعيد والعميق- واليقيني: لم أجدِ الحبَّ بهذه الأبعاد بعد. وأعتقد جازمَا أنه لا يخضع لخطةٍ أو مشروع نعدّه سلفًا. الحبُّ بعرفِ الرصاصةِ الطائشة هو الصدفة التي تضعني في مسارها. الرصاصة تصيبُ بمقتلٍ من تصيب لأن القاتل والضحيّة يلتقيا... ذلك هو الحب الذي لا شفاء منه.
*س "جمرتي لم تشتعل كي تترمّد"، أحكي لأوراق الشجر، أين ضياؤها يستقر، حتى بالابتسامة تتفرّد؟
ج سؤال ما بعد التجمُّر مخيفٌ. جمالها الألق الدائم- كألقِ الأغصان على أمّهم الشجرة؟ يقلقني ترمُّد الغصن. لأن الحطّاب سوف يبحث عن غصنٍ آخر وعن شجرةٍ أخرى. نعم، هو تفرّد الأم التي تحترق بابتسامة مرَّة. كم من أمٍّ في عالمنا تحرق نفسها أمام أبناء وبناتٍ لا يقرؤون معنى ابتسامتها المرّة؟
*س "نبحث عن حراس لا يجزون أعناق الزيتون"، كيف نستطعم هذه الإرادة؟
ج لقد أتخمنا خذلانًا يا صديقتي. كلُّ حكّامنا ونظامنا السياسي والاجتماعي يأخذوننا مكرٍ واستبداد إلى مرجلِ الخذلانِ لكي نسحق ونموتُ طوعًا أو ظلما. نحن شجر الزيتون، ونظامُنا كله الحطاب. ولا زال البحث عن "حراسٍ لا يجزّون أعناق الزيتون" مستمرًا. نريدُ التنوّر والنظام العادل- الذي يحترم الإنسان.
*س "أنحت على خدود الفجر أظافري"، كيف يناظرك هذا الفجر؟
ج أقول للصباح الآتي: إرادتي لن تخونك. وها أظافري على خدود الفجرِ، تقشّر العتمة كرمى لشمسك الآتية. وأقول للفجر: أنت الباب إلى النهار، فامنح أظافري وسامَ الفتح.
*س "خائف عليك يا وطني"، لماذا يحتضنك هذا النبض؟
ج الوطن الذي تعمّدت خارطتُه بدماء المقاومين والشهداء واقع تحت قبضة السماسرة واللصوص والفاسدين. وطن يُعطى هذا الكمُّ من المجد- مقاومة المحتل الصهيوني، ثم يستسلم لهذه الزمرة الفاجرة: يستحق خوفنا عليه، والنزول إلى الشارع لمواجهة خاطفيه.
*س عندما يختنق جناح الطير، على عتبة الوكر الجريح، كيف تواسيه روح اللبناني "محمد علي سرور"؟
ج بالثورة وجهوزية الإرادة، بالأمل والثقة بالمدى، ولو على قدمٍ واحدة سوف نمضي... لي صديق فقد إحدى ساقيه وهو فتي جراء شظية قذيفةٍ صهيونية غادرة... لكن صديقي أكمل مشروع المقاومة... واستمرَّ واقفًا.
*س هل نفهم من قناعتك هذه ألفتك لمعتقد الأديبة الأمريكية "هيلن كيلر" بأن "الإيجابية لا تعني عدم الحزن، و لكن تعني فن التعامل مع الحزن"؟
ج مسيرتنا أحيانا تشبه مريض الربو، فحيث لا مجال للشفاء، نتعلم فنَّ التعايش معه. الايجابية في مكان آخر تعني تجاوز التكيّف إلى الابتكار، أي فنِّ التحصن- الالتفاف، حتى مع الحزن الكائن اللصيق ليومياتنا... وعالمنا الواسع والضيق في آن. المسألة لا تعني مذهبا ما، بقدر ما هي واقع متكرر وثقيل الحضور على مشاعر أهله- نحن.
*س متى يقول الإنسان "محمد علي سرور" أحمل طريقي، فتتنفسني الخطوات مهرولة إلى هناك؟
ج أقولها دائما، حيث أبتكرتُ موطني: المنفى، منذ صغري وإلى الآن، وبناء عليه شعور الغربةِ سكنني، فلا غرابة في أن لا أشكو ولا أتذمَّر من واقع يشبهني. ألمُّ أثاثَ رحيلي كلَّ يومٍ، وأمضي إلى منفى آخر.
*س تمهّلي، أيتها الصرخة، فالصدى غياب، كيف تتأبّطك هذه الرؤية؟
ج هو صوت الغائب يسمعُه غائب آخر... وما دمت المنفيّ، أراني كيانا من صدى، وآخر يهاتفني بصداه... من منفى آخر، لذلك أقول: فلتأتِ الصرخة، لأنها محض صدىً في خاطري.
*س تقطفني أوصافي العائدة من بين أنفاسك، أيها اللامعلوم، ما علاقتك بهذه التنهيدة؟
ج تلك لغة الغرباء، ما أكثرهم وما أوسع متاهتهم، ليتها تقترب من تنهيدتي، لأراني أقربُ إليَّ، ليتها تقتحمني، لأعرفني من خلالِ آخر يتعقَّبٌ غربتي.
*س نسيني التمني في جيبه، و في يدي ابتسامته تبحث عني، كيف أنت مع هذا النشيد؟
ج تلك حالة القلق التي نحيا، ذلك هو التمادي بين الأمل والخسران. كلُّ أمانينا ملتبسة لأنها تفتقد لأرضيَّة الواقع الذي عليه واجب حملها وفتح منافذ ضوءٍ لانبثاقها وصيرورتها.
*س كيف لك أن تحفر الفراغ، لتزرع وردتك، و تشفى من النزف؟
ج أعتقد بأن سورَ يوميّاتي ورصيفها هو القلق، وهنا أيضًا من حقي أن أقلقَ على وردتي، لأنها هشّة... وبنو قومي لا يرون الوردة جميلة في حوضها، بل يقطفونها، ثأرًا من جمالها، أو رغبة في رميها فوق قبرٍ، لكنها وردتي التي زرعتها لأحدِّث نفسي وأحدِّثها عن الأمل الذي أراه عطرًا وألونًا... رغم الخطر المحدق بها، أحدّثها وأساهر الندى الذي يعشق خدَّها.
*س لماذا يتكبّر الأمل على الغروب، أو ليست الشمس موعودة بشروق جديد؟
ج للأملِ أيضًا قوانينُه يا صديقتي، هو يعلمُ أن الشمسَ عائدة، وأن عيناهُ سوف تتكحَّلان بنورِ صباحها، لكنَّ ذلك الشفق المعلّق في الأفق، رغم روعتِه، يذكَره بالظلم والاستبداد... بالذين وراء القضبانِ لا تراهم شمسٌ، ولا تتحرَّشُ بحناجرهم نسمة عاشقة. لا يتكبَّرُ الأمل، لكنّهُ كتومٌ... غالبًا.
*س أريد الخروج من جسد أفناني، إلى جميل الأناشيد تغنيني، إلى متى؟
ج حتى لو كانت الغاية الأناشيد.. لتغنِّ، ولتبتعد في الغناء، يا للعودِ ما أشهاه- ما أشجاه، حتى عندما يموتُ الغصن، يعدُنا بنغمٍ ملائكي. قال النغمُ: لا تحزن على غصنٍ لغتهُ موسيقى... لا تترمَّد.
*س اقتلعني من بين شظايا الرماد، نغم، استطعمت معه الرحيل، فإلى أين؟
ج هو الأمل، المهم أنه اقتلعها، والباقي لا يهم... حيث الأمل يعرف سبيله. لا يتوه النغم، بل يستقرُّ في الحواسِّ العاشقة.
*س رميت بوشاحك، أيها الأمل، ليقطف لحلمي عهدا، كيف تترجلك شهقة الحلم؟
ج افتحْ يا العَهدُ شرفتَك، افتح الدفَّتين معًا... ثمَّة أمنية على بابِ الحلمِ، بوشاحٍ حاكتهُ الذكرى، ذات شهقةٍ وفيَّة.
شكرا لك الشاعر محمد علي سرور على رقي تواصلك و إلى لقاء آخر إن شاء الله
أتمناكم بخير... وبالتوفيق دائما
*آمنة وناس
تونس
على ضفاف قلمه يكتبنا السفر، عبر ركائب تقرؤنا بابتسام، المعنى من صمته يعتبر، و الورق بحبره في سلام. الحرف مع دواخله في وصال، فالقصيدة من نبعه تحكي الحلم، تسأل فينا عن عنوان السكينة و الترحال، عبر مسيرة بين الفرح و الألم. يستفهم عن دهشة الواقع، بين أحضان الفصول، عن إرادة نجمها ساطع، عن الرفض و القبول. يبحث عن أرض لا يستنشقها صقيع الحروب، لا تضربها حوافر الدمار، اعتقادا منه بأن الحياة دروب، و بأنها عزيزة هذه الديار. يقول يا وطني لك شهقة الأنفاس، فدمعي بين أحضانك شفاء، لجرحك النابض في الإحساس، لوجعك النازف شقاء، هو الشاعر اللبناني "محمد علي سرور".
*مرحبا بك سيدي
غمرتني بمقدّمة عالية، حدَّدتْ لي معالم طريقي قبل أن نبدأ. فألف شكر لكِ وتحية.
*س عندما تتسلل القصيدة من على صهوة الدهشة دواخل الشاعر "محمد علي سرور" ، كيف يشهق لها إحساسه؟
ج القصيدة، ذلك الكائن المتكبّر، المتحكّمُ بلا حدود... بالرؤى، المنسوج من صدوعِ الوهلةِ والكشف الماكر... تخيفني، توقعني في دوَّامة القلق، دون أن أبدي تمنُّعا في مجاراتها... كأنني هنا أسيرَ مزاجها الذي لا فكاك من ركوبِ صهوتهِ. تأتي القصيدة دون أن تعلمني بقدومها... كأنها أميرة الكشف والسؤال عن أحوال الرعية.
*س عندما يغفو حرفك بين كفي هذه القصيدة، كيف يرتاح على هدهدتها؟
ج للأسف، لا يغادرُني الخوف، ولا يهدأ القلق بي، إذ خلال الكتابة وبعد اعتقادي بإنجاز النص الشعري أقع في متاهةِ الأسئلةِ حول أهميةِ ما كتبت وجودته... لماذا توقعنا القصيدة التي نخالُ أنها اكتملت بمزيد من التعبِ ولتشوُّش الباحث عن ألأبعد؟ هنا كلمة سرِّ القلق.
*س تقول الشاعرة اللبنانية "سامية زين" "أترك للحرف الحرية في احتضان نبضي فيبدع في ترجمته على الورق"، إلى كم من سفر تأخذك هذه القناعة؟
ج أحترم قول الشاعرة سامية زين، وأراني أوضح قصدها، كوني أقتنع بكوني الناقل... أي صلة الوصل بين الحبر والحرف... كأن لي دور المنقّح والمزيّن لشيء ما في النص، لكن المسألة الأبعد التي علينا الاعتراف بها هي: ذكاء النص، الذي أعتبره أذكى من الكاتب والشاعر الذي خطّه بالسهر والسفر وفتح الدروب بين شعاب الهواجس والأسئلة. هنا نصبح بنائين لحديقةٍ كلُّ حاجاتها حاضرة، ولا يبقى علينا إلا واجب التنسيق وهندسة الفوضى الرائعة في عكاظ الكلمات والرموز والصور. أعتبر النص ملاذي، كونه يشبهني، يشبه هذياني الساقط كرذاذِ الندى الصباحي... الشفيف والقريب من رقة الزجاج ونقائه.
*س عندما يكتظّ حرف الشاعر "محمد علي سرور" "بالأنا"، أين يأخذ "النحن"؟
ج يعتبر "بودلير" بأن "الأنا" كريهة، وحين تضع ثقلها في النص نكون أمام إشكالية الثقة بجودة النص واكتبه معا. ال "نحن" هي الكلمة الأكمل التي تنمُّ عن تواضع وثقةٍ وبالتالي عن كون النص ليس ملكًا حصريًا لكاتبه- بالمعنى الأدبي والرسالي للكلمة. هنا يصبح القارئ شريكا أو نزيل أحدِ أفكار النص، بمعنى القارئ من الداخل والناقد السوي الذي يقرأ بالبعد الذي يعنيه كواحد من جماعة...
*س إلى كم من إحساس يثق حرفك في ال"هو" ليعبر خلجاته و يبلغ حد البسمة؟
ج الهمُّ الإنساني واحد في كل مستوياته واختلاف مقاصده وتنوّعها. كم من قضيَّةٍ لا نعرف أهلها ونقاسمها الإحساس والتضامن والانفعال الشعوري البعيد والعميق، كذلك هو الحب، حالة إنسانية. حين أراقب نضجي الإنساني ومدى حياديتي تجاه من تتعلق بحياتهم ومصائرهم العدالة الإنسانية وقوانينها أشعر بسلامة كياني... بنأيه عن عاهات التحيّز والاستلاب والالتحاق بركب الجهل والظلامية. أحب نصّي معافى من آفةِ التمييز والعنصرية- بمعناها الفكري والثقافي. ال "هو" في مكان ما هو: أنا وهو الآخر.
*س في منتصف الصمت، استنشقتك، حرف بوسامة الخريف، إلى كم من مسافة يعبرك هذا المعتقد؟
ج الخريف هو الفصل الجميل، الذي يُعرّي الطبيعة تمهيدا لاغتسالها وبدء دورةِ حياة جديدةِ في مسيرتها. هنا الاستنشاقُ يكون تمهيديًا، مؤسِّسًا لحياة طازجة- نلمُّ بواكير نواتها أملًا واستضاءة ومواعيد مع التمنيات، نسكَر على رائحة الشتوةِ الأولى وتنهيدةِ الأرض التي ناوشها صقيع المطر اللذيذ. يعبُرني هذا المعتقد إلى حيث التجدّد وحيث لكل قصيدةٍ دورة حياتها كما الطبيعة.
*س تقدمت بي الحياة حتى نضج الرحيق، سألت العشب الأسود هل بلغت طور المشيب، برأيك هل بلغ طور المشيب؟
ج هو المعنى المجازي لمسألةٍ أخرى وهي "النضج". حيث القصيدة تستدعي الرعونة، بعض الشقاوة والجنون. تستدعي تجاوز الممنوع ومخر عباب الأسئلةِ المحرّمة والمواقف الواضحة والعالية. أخاف هنا أن أصاب بالنضج والوقوع فيما يسمّى الحكمة. تلك الكلمة لا أحبّذها، حيث مهمّتهم ترويض العقول والإرادات: أقصد في الشعر والأدب.
*س "للجنون أبجدية بيضاء...بيضاء"، أي عنوان توشوشه لنا هذه الأبجدية؟
ج كسرُ الحاجز، إتباع مذهب اللامألوف... تجاوز النمط.. الجنون أبيض لأنه يخرج على القوالب المتوارثة والجاهزة حد حجز العقل وقمع الإرادة. أسأل نفسي: لماذا نحن أمة متخلفة؟ لماذا كلَّ أشكال القمع... حتى أننا نمارسه على أنفسنا. لماذا علينا التزام القوانين والقواعد بحذافيرها، ولا نبني على الشاعريّة؟ على الأدب العالي؟ على الغرابة والدهشةِ، بالمعنى الإبداعي للكلمة؟ لقد مارست الجنون... وسوف أمارسه حيث سنحت لي القصيدة... والنص... والرواية والمقالة.
*س يعتقد الشاعر اللبناني مكرم غصوب" بأن "كل جنون يقين"، ما مدى إخلاصك لهذه الفكرة؟
ج بالمعنى المجرَّد: هو حقيقة ثابتة. إنما بالمعنى الشعري- حيث الرمزية والتورية فالمسألة نسبية. على كلِّ حال: عالم الجنون وديع وبريء... أحبُّ هذا العالم.
*س "الحب في ذمّتي، رصاصة طائشة لم تزل تبحث عني"، ما ملامح هذا البحث؟
ج بمعناه البعيد والعميق- واليقيني: لم أجدِ الحبَّ بهذه الأبعاد بعد. وأعتقد جازمَا أنه لا يخضع لخطةٍ أو مشروع نعدّه سلفًا. الحبُّ بعرفِ الرصاصةِ الطائشة هو الصدفة التي تضعني في مسارها. الرصاصة تصيبُ بمقتلٍ من تصيب لأن القاتل والضحيّة يلتقيا... ذلك هو الحب الذي لا شفاء منه.
*س "جمرتي لم تشتعل كي تترمّد"، أحكي لأوراق الشجر، أين ضياؤها يستقر، حتى بالابتسامة تتفرّد؟
ج سؤال ما بعد التجمُّر مخيفٌ. جمالها الألق الدائم- كألقِ الأغصان على أمّهم الشجرة؟ يقلقني ترمُّد الغصن. لأن الحطّاب سوف يبحث عن غصنٍ آخر وعن شجرةٍ أخرى. نعم، هو تفرّد الأم التي تحترق بابتسامة مرَّة. كم من أمٍّ في عالمنا تحرق نفسها أمام أبناء وبناتٍ لا يقرؤون معنى ابتسامتها المرّة؟
*س "نبحث عن حراس لا يجزون أعناق الزيتون"، كيف نستطعم هذه الإرادة؟
ج لقد أتخمنا خذلانًا يا صديقتي. كلُّ حكّامنا ونظامنا السياسي والاجتماعي يأخذوننا مكرٍ واستبداد إلى مرجلِ الخذلانِ لكي نسحق ونموتُ طوعًا أو ظلما. نحن شجر الزيتون، ونظامُنا كله الحطاب. ولا زال البحث عن "حراسٍ لا يجزّون أعناق الزيتون" مستمرًا. نريدُ التنوّر والنظام العادل- الذي يحترم الإنسان.
*س "أنحت على خدود الفجر أظافري"، كيف يناظرك هذا الفجر؟
ج أقول للصباح الآتي: إرادتي لن تخونك. وها أظافري على خدود الفجرِ، تقشّر العتمة كرمى لشمسك الآتية. وأقول للفجر: أنت الباب إلى النهار، فامنح أظافري وسامَ الفتح.
*س "خائف عليك يا وطني"، لماذا يحتضنك هذا النبض؟
ج الوطن الذي تعمّدت خارطتُه بدماء المقاومين والشهداء واقع تحت قبضة السماسرة واللصوص والفاسدين. وطن يُعطى هذا الكمُّ من المجد- مقاومة المحتل الصهيوني، ثم يستسلم لهذه الزمرة الفاجرة: يستحق خوفنا عليه، والنزول إلى الشارع لمواجهة خاطفيه.
*س عندما يختنق جناح الطير، على عتبة الوكر الجريح، كيف تواسيه روح اللبناني "محمد علي سرور"؟
ج بالثورة وجهوزية الإرادة، بالأمل والثقة بالمدى، ولو على قدمٍ واحدة سوف نمضي... لي صديق فقد إحدى ساقيه وهو فتي جراء شظية قذيفةٍ صهيونية غادرة... لكن صديقي أكمل مشروع المقاومة... واستمرَّ واقفًا.
*س هل نفهم من قناعتك هذه ألفتك لمعتقد الأديبة الأمريكية "هيلن كيلر" بأن "الإيجابية لا تعني عدم الحزن، و لكن تعني فن التعامل مع الحزن"؟
ج مسيرتنا أحيانا تشبه مريض الربو، فحيث لا مجال للشفاء، نتعلم فنَّ التعايش معه. الايجابية في مكان آخر تعني تجاوز التكيّف إلى الابتكار، أي فنِّ التحصن- الالتفاف، حتى مع الحزن الكائن اللصيق ليومياتنا... وعالمنا الواسع والضيق في آن. المسألة لا تعني مذهبا ما، بقدر ما هي واقع متكرر وثقيل الحضور على مشاعر أهله- نحن.
*س متى يقول الإنسان "محمد علي سرور" أحمل طريقي، فتتنفسني الخطوات مهرولة إلى هناك؟
ج أقولها دائما، حيث أبتكرتُ موطني: المنفى، منذ صغري وإلى الآن، وبناء عليه شعور الغربةِ سكنني، فلا غرابة في أن لا أشكو ولا أتذمَّر من واقع يشبهني. ألمُّ أثاثَ رحيلي كلَّ يومٍ، وأمضي إلى منفى آخر.
*س تمهّلي، أيتها الصرخة، فالصدى غياب، كيف تتأبّطك هذه الرؤية؟
ج هو صوت الغائب يسمعُه غائب آخر... وما دمت المنفيّ، أراني كيانا من صدى، وآخر يهاتفني بصداه... من منفى آخر، لذلك أقول: فلتأتِ الصرخة، لأنها محض صدىً في خاطري.
*س تقطفني أوصافي العائدة من بين أنفاسك، أيها اللامعلوم، ما علاقتك بهذه التنهيدة؟
ج تلك لغة الغرباء، ما أكثرهم وما أوسع متاهتهم، ليتها تقترب من تنهيدتي، لأراني أقربُ إليَّ، ليتها تقتحمني، لأعرفني من خلالِ آخر يتعقَّبٌ غربتي.
*س نسيني التمني في جيبه، و في يدي ابتسامته تبحث عني، كيف أنت مع هذا النشيد؟
ج تلك حالة القلق التي نحيا، ذلك هو التمادي بين الأمل والخسران. كلُّ أمانينا ملتبسة لأنها تفتقد لأرضيَّة الواقع الذي عليه واجب حملها وفتح منافذ ضوءٍ لانبثاقها وصيرورتها.
*س كيف لك أن تحفر الفراغ، لتزرع وردتك، و تشفى من النزف؟
ج أعتقد بأن سورَ يوميّاتي ورصيفها هو القلق، وهنا أيضًا من حقي أن أقلقَ على وردتي، لأنها هشّة... وبنو قومي لا يرون الوردة جميلة في حوضها، بل يقطفونها، ثأرًا من جمالها، أو رغبة في رميها فوق قبرٍ، لكنها وردتي التي زرعتها لأحدِّث نفسي وأحدِّثها عن الأمل الذي أراه عطرًا وألونًا... رغم الخطر المحدق بها، أحدّثها وأساهر الندى الذي يعشق خدَّها.
*س لماذا يتكبّر الأمل على الغروب، أو ليست الشمس موعودة بشروق جديد؟
ج للأملِ أيضًا قوانينُه يا صديقتي، هو يعلمُ أن الشمسَ عائدة، وأن عيناهُ سوف تتكحَّلان بنورِ صباحها، لكنَّ ذلك الشفق المعلّق في الأفق، رغم روعتِه، يذكَره بالظلم والاستبداد... بالذين وراء القضبانِ لا تراهم شمسٌ، ولا تتحرَّشُ بحناجرهم نسمة عاشقة. لا يتكبَّرُ الأمل، لكنّهُ كتومٌ... غالبًا.
*س أريد الخروج من جسد أفناني، إلى جميل الأناشيد تغنيني، إلى متى؟
ج حتى لو كانت الغاية الأناشيد.. لتغنِّ، ولتبتعد في الغناء، يا للعودِ ما أشهاه- ما أشجاه، حتى عندما يموتُ الغصن، يعدُنا بنغمٍ ملائكي. قال النغمُ: لا تحزن على غصنٍ لغتهُ موسيقى... لا تترمَّد.
*س اقتلعني من بين شظايا الرماد، نغم، استطعمت معه الرحيل، فإلى أين؟
ج هو الأمل، المهم أنه اقتلعها، والباقي لا يهم... حيث الأمل يعرف سبيله. لا يتوه النغم، بل يستقرُّ في الحواسِّ العاشقة.
*س رميت بوشاحك، أيها الأمل، ليقطف لحلمي عهدا، كيف تترجلك شهقة الحلم؟
ج افتحْ يا العَهدُ شرفتَك، افتح الدفَّتين معًا... ثمَّة أمنية على بابِ الحلمِ، بوشاحٍ حاكتهُ الذكرى، ذات شهقةٍ وفيَّة.
شكرا لك الشاعر محمد علي سرور على رقي تواصلك و إلى لقاء آخر إن شاء الله
أتمناكم بخير... وبالتوفيق دائما
*آمنة وناس
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.