أشعلَ لي سيجارة، وقال إن الحياة مُملّة. ارتشفتُ من الكوب المنسيّ بيدي، وحدفتُ قطعة خِيار في فمي.
كانت سيجارته مكتومة.
إلتفتَ إلي مدخل المحل، ورفع كأسه، وغمز لعجوزٍ يكافح ليدفع الباب الزجاجيّ. أوحتْ نظرتُه بأنه يقاتل من أجل أن يَظهر سعيدا، وقال إن الموت أسهل. لم أقتنع بمقولته الأخيرة، فاستغثتُ بالساقي -كم أحب اسم الفاعل هذا، مع أنه صار مهجوراً!- ليأتي بزجاجةٍ أخري.
كانت هند قد دعكتْ دماغها بكفّيها، وقالت -للمرة السابعة منذ تعارفنا فجر أول أمس- إن الشخص
الذي يعيش معها يُدخلها النار، كل يوم!.. تضامنتُ معها للمرة السابعة بدوري.. وقدّرتُ لها، سِرّاً، بلاغتها في عرْض قضيتها.. تحمّستُ، هذه المرّة، فأعلنتُ أني لا أمانع في قتْله!
شكرتْنى هند، وأفصحتْ عن تفكيرها العميق في الانتحار.
ولأنّ كل من تكلموا معي عن الانتحار لم ينتحروا -رغم تحفّزي غير المفهوم لأن يفعلها أحدهم- ضحكتُ في وجهها، ورفعتُ يدي بمحاذاة كتفي كأنّي أعترف بذنب، أو أقول: (قديمة!). ورأيتُ أن هيئتها صارت مثيرة، تستحق الصبر عليها، بعد أن نكشتْ شعرها!
لما أغاثني الساقي بالزجاجة الرابعة، فكرتُ بأن مهنة سقاية الآخرين إنسانيةٌ جداً، ولها مستقبل!.. وشربتُ من الزجاجة دون وسيط من كوب، فتجرّعتُ يقيناً بأن الشُّرب سبب كافٍ ليحُول بين الإنسان والانتحار. وقرّرتُ أن أشتري زجاجة صغيرة لهند، مع أنها ستفضّل الموت علي مجرد تذوقها. علي الأقل هذا ما ستقوله. وستظلّ تراقبني باستغرابٍ بريء، وأنا أشرب علي مهَل، دون أن تغيّر ابتسامتها، ولا اعتماد خدّها علي كفّها المدخول فى الجوانتي المُلحق بنقابها، والذي خلعتْه بعد وصولي، ووضعتْه بحرصٍ علي منضدةٍ مُثلثة الشكل إلي جوارها. ولا أستبعد -عندما يصير نصف الزجاجة في جوفي- أن أشكّ في وجودها، مثلما شككتُ في وجود غيرها، وأقرّر أنّ ما أخوضه الآن من وحي صورةٍ فوتوغرافية أبيض وأسود، التُقطتْ قبل مولدي بكثير، وجاءتْني بخطأ عارض من الأخطاء الهائلة التي تهيم ليل نهار في فضاء العالم.
سألتُ الرجلَ الذي انشغلَ بمراجعة ذكرياته مع العجوز إن كان رغب في الانتحار من قبل. أهمل هو العجوز سريعاً، كما لو أن سؤالي أعجبه، أو انتظره طويلاً، وأكّد -قال: خُذْها منّي- أن مَن ينتحر لا يستأذن. حكي عن صديقٍ من أيام الصبا، ترك الدراسة من ثانية دبلوم، وهرب من الجيش في أول يومٍ بمركز تدريب المدفعية، وجلس في البيت عاطلاً، يصدّر لأمّه آثار مشاغباته التي لا تنقطع كل ليلة علي المقهي.
دسّ الرجل ملعقة محمّلة بقطعة جبن بيضاء مغموسة بالزيت بين شفتيه. قال وهو يوزّع الطعام في أركان فمه الذى بدا لي بلا أسنان: (في يوم، ذهبتُ إليه، وقفتُ أمام البيت أنادي، سمعتُ زعيقه مع أمه، شتمتْه ودعتْ عليه بأن يبيت الليلة في قبره، وأقسمتْ أنها ستبلغ عنه الشرطة العسكرية حتي تستريح من قرفه، وأظنُّ أنه لكَمها في وجهها أو أزاحها بقوةٍ من طريقه فوقعتْ علي ظهرها، لأنها صرختْ صرخةً واحدة مفاجئة، ثم خرج بسحنةٍ مُخيفة، اختصّني بنظرةٍ لم أفهم مغزاها طيلة السنين، أي والله كما أقول لك (عشان الحِلْفان، ساعات وأنا مبسوط ألاقيني فهمت كل حاجة).. المهم: وقف ثانياً إحدي ساقيْه ووضع يديه في وسطه، وأنفاسه متسارعة، شُفتُه –لحظتها- مثل لاعب كرة يستعد لتنفيذ ضربة حرة مباشرة من علي حدود منطقة الجزاء. قبل أن أنطق بكلمةٍ تناسب الموقف، قفز بلا ذرّة تردّد أمام سيارة نقل عليها زكائب تبن -كان بيته علي الطريق - وسمعت دماغه تفرقع تحت عجلات السيارة كقنبلة).
لما قال (كقنبلة) عرضتُ أنا ظاهر كفّي أمام وجهي، وقفلتُ عيني، مُظهراً له التأثر الشديد، وقلت: (كفاية) . أما عن بواطني فلم أتعاطف مع قصته، واعتبرتُ أن ما حكاه عاديّ جدا، وأن الدنيا فيها كل شيء، وربما يستحق صديقه ذلك المصير، ولم أستنكر تلفيق التفاصيل مثلما تقتضي شروط الشُّرب في جماعة!
راح يضحك حتي أن عينيه سالتا دمعاً، وجسده الهزيل ارتعش كله من رأسه إلي ركبتيْه كأنما مسّته الهلاوس، وحتي أن المشروب انسكب علي بنطلونه. عندما هدأ قال بجدّية: قلبك ضعيف.
وقفتُ، متثاقلاً، في مواجهته، فصمّم أن أسجّل رقم هاتفه، لأنه ارتاح لي، وسيكون في خدمتي دائما.
عدتُ إلي شقتي، مبسوطاً من الشُّرب، عارفاً أن الساقي ورجاله معصومون من الانتحار، ومحاولاً تذكُّر شيء قالتْه هند عن ضعف قلبي، في لقائنا الأول. تذكّرتُ ، فقط ، أني ضحكتُ مُكرَهاً، وقلت إنها لابد قضتْ عاما أو اثنين في كلّية الطبّ قبل أن تتخرج في كلية التربية النوعيّة. بحثتُ عنها وسط عشرات الرابضين والرابضات. كانت متربّعةً علي المقعد الفوتيه الكبير، وبكامل حجابها، والحجرة شحيحة الإضاءة علي غير المعتاد. يبدو أنها خرجتْ، للتوّ، من النار. ويبدو أنها لم تنتحر.
قالت: (كنت مزوّغ فين؟) وضحكتْ.
قالت: (لو سبقت ربع ساعة كنت أكلت بيتزا معايا) وضحكتْ.
قالت: (فيلم نيكولاس كييج الجديد تحفة) وضحكتْ.
جرّبتُ أن أبدأ معها من جديد، وأفترض أنها لم تقل شيئا ولم تضحك، فأستجمعُ خلاصة تجربتي!، وأتكلم بحكمة ورزانة كي تزداد إعجاباً بشخصيّتي: (الإنتحار شعورٌ نبيل تجاه العالم).
لم أجرؤ. حَسِبتُ، فقط، أنها كانت ستفرح بالزجاجة في هذه الظروف.
اتصلتُ بالرجل. قال إنه ليس خبيراً بهذه الأمور، لكنه اقترح -في حدود علمه- أن أفصل الكاميرا.
*محمد أبوالدهب
كانت سيجارته مكتومة.
إلتفتَ إلي مدخل المحل، ورفع كأسه، وغمز لعجوزٍ يكافح ليدفع الباب الزجاجيّ. أوحتْ نظرتُه بأنه يقاتل من أجل أن يَظهر سعيدا، وقال إن الموت أسهل. لم أقتنع بمقولته الأخيرة، فاستغثتُ بالساقي -كم أحب اسم الفاعل هذا، مع أنه صار مهجوراً!- ليأتي بزجاجةٍ أخري.
كانت هند قد دعكتْ دماغها بكفّيها، وقالت -للمرة السابعة منذ تعارفنا فجر أول أمس- إن الشخص
الذي يعيش معها يُدخلها النار، كل يوم!.. تضامنتُ معها للمرة السابعة بدوري.. وقدّرتُ لها، سِرّاً، بلاغتها في عرْض قضيتها.. تحمّستُ، هذه المرّة، فأعلنتُ أني لا أمانع في قتْله!
شكرتْنى هند، وأفصحتْ عن تفكيرها العميق في الانتحار.
ولأنّ كل من تكلموا معي عن الانتحار لم ينتحروا -رغم تحفّزي غير المفهوم لأن يفعلها أحدهم- ضحكتُ في وجهها، ورفعتُ يدي بمحاذاة كتفي كأنّي أعترف بذنب، أو أقول: (قديمة!). ورأيتُ أن هيئتها صارت مثيرة، تستحق الصبر عليها، بعد أن نكشتْ شعرها!
لما أغاثني الساقي بالزجاجة الرابعة، فكرتُ بأن مهنة سقاية الآخرين إنسانيةٌ جداً، ولها مستقبل!.. وشربتُ من الزجاجة دون وسيط من كوب، فتجرّعتُ يقيناً بأن الشُّرب سبب كافٍ ليحُول بين الإنسان والانتحار. وقرّرتُ أن أشتري زجاجة صغيرة لهند، مع أنها ستفضّل الموت علي مجرد تذوقها. علي الأقل هذا ما ستقوله. وستظلّ تراقبني باستغرابٍ بريء، وأنا أشرب علي مهَل، دون أن تغيّر ابتسامتها، ولا اعتماد خدّها علي كفّها المدخول فى الجوانتي المُلحق بنقابها، والذي خلعتْه بعد وصولي، ووضعتْه بحرصٍ علي منضدةٍ مُثلثة الشكل إلي جوارها. ولا أستبعد -عندما يصير نصف الزجاجة في جوفي- أن أشكّ في وجودها، مثلما شككتُ في وجود غيرها، وأقرّر أنّ ما أخوضه الآن من وحي صورةٍ فوتوغرافية أبيض وأسود، التُقطتْ قبل مولدي بكثير، وجاءتْني بخطأ عارض من الأخطاء الهائلة التي تهيم ليل نهار في فضاء العالم.
سألتُ الرجلَ الذي انشغلَ بمراجعة ذكرياته مع العجوز إن كان رغب في الانتحار من قبل. أهمل هو العجوز سريعاً، كما لو أن سؤالي أعجبه، أو انتظره طويلاً، وأكّد -قال: خُذْها منّي- أن مَن ينتحر لا يستأذن. حكي عن صديقٍ من أيام الصبا، ترك الدراسة من ثانية دبلوم، وهرب من الجيش في أول يومٍ بمركز تدريب المدفعية، وجلس في البيت عاطلاً، يصدّر لأمّه آثار مشاغباته التي لا تنقطع كل ليلة علي المقهي.
دسّ الرجل ملعقة محمّلة بقطعة جبن بيضاء مغموسة بالزيت بين شفتيه. قال وهو يوزّع الطعام في أركان فمه الذى بدا لي بلا أسنان: (في يوم، ذهبتُ إليه، وقفتُ أمام البيت أنادي، سمعتُ زعيقه مع أمه، شتمتْه ودعتْ عليه بأن يبيت الليلة في قبره، وأقسمتْ أنها ستبلغ عنه الشرطة العسكرية حتي تستريح من قرفه، وأظنُّ أنه لكَمها في وجهها أو أزاحها بقوةٍ من طريقه فوقعتْ علي ظهرها، لأنها صرختْ صرخةً واحدة مفاجئة، ثم خرج بسحنةٍ مُخيفة، اختصّني بنظرةٍ لم أفهم مغزاها طيلة السنين، أي والله كما أقول لك (عشان الحِلْفان، ساعات وأنا مبسوط ألاقيني فهمت كل حاجة).. المهم: وقف ثانياً إحدي ساقيْه ووضع يديه في وسطه، وأنفاسه متسارعة، شُفتُه –لحظتها- مثل لاعب كرة يستعد لتنفيذ ضربة حرة مباشرة من علي حدود منطقة الجزاء. قبل أن أنطق بكلمةٍ تناسب الموقف، قفز بلا ذرّة تردّد أمام سيارة نقل عليها زكائب تبن -كان بيته علي الطريق - وسمعت دماغه تفرقع تحت عجلات السيارة كقنبلة).
لما قال (كقنبلة) عرضتُ أنا ظاهر كفّي أمام وجهي، وقفلتُ عيني، مُظهراً له التأثر الشديد، وقلت: (كفاية) . أما عن بواطني فلم أتعاطف مع قصته، واعتبرتُ أن ما حكاه عاديّ جدا، وأن الدنيا فيها كل شيء، وربما يستحق صديقه ذلك المصير، ولم أستنكر تلفيق التفاصيل مثلما تقتضي شروط الشُّرب في جماعة!
راح يضحك حتي أن عينيه سالتا دمعاً، وجسده الهزيل ارتعش كله من رأسه إلي ركبتيْه كأنما مسّته الهلاوس، وحتي أن المشروب انسكب علي بنطلونه. عندما هدأ قال بجدّية: قلبك ضعيف.
وقفتُ، متثاقلاً، في مواجهته، فصمّم أن أسجّل رقم هاتفه، لأنه ارتاح لي، وسيكون في خدمتي دائما.
عدتُ إلي شقتي، مبسوطاً من الشُّرب، عارفاً أن الساقي ورجاله معصومون من الانتحار، ومحاولاً تذكُّر شيء قالتْه هند عن ضعف قلبي، في لقائنا الأول. تذكّرتُ ، فقط ، أني ضحكتُ مُكرَهاً، وقلت إنها لابد قضتْ عاما أو اثنين في كلّية الطبّ قبل أن تتخرج في كلية التربية النوعيّة. بحثتُ عنها وسط عشرات الرابضين والرابضات. كانت متربّعةً علي المقعد الفوتيه الكبير، وبكامل حجابها، والحجرة شحيحة الإضاءة علي غير المعتاد. يبدو أنها خرجتْ، للتوّ، من النار. ويبدو أنها لم تنتحر.
قالت: (كنت مزوّغ فين؟) وضحكتْ.
قالت: (لو سبقت ربع ساعة كنت أكلت بيتزا معايا) وضحكتْ.
قالت: (فيلم نيكولاس كييج الجديد تحفة) وضحكتْ.
جرّبتُ أن أبدأ معها من جديد، وأفترض أنها لم تقل شيئا ولم تضحك، فأستجمعُ خلاصة تجربتي!، وأتكلم بحكمة ورزانة كي تزداد إعجاباً بشخصيّتي: (الإنتحار شعورٌ نبيل تجاه العالم).
لم أجرؤ. حَسِبتُ، فقط، أنها كانت ستفرح بالزجاجة في هذه الظروف.
اتصلتُ بالرجل. قال إنه ليس خبيراً بهذه الأمور، لكنه اقترح -في حدود علمه- أن أفصل الكاميرا.
*محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.