الصفحات

موت الوهم ــ قصة قصيرة ..**فوز حمزة الكلابي

كانت هذهِ زيارتي الثالثة والأخيرة للطبيب النفسي, المرة الأولى حدثتْ بالصدفة عندما كنتُ ذاهبة لمقابلة صديقتي الممرضة التي تعمل في الطابق الثاني, ترددتُ قليلاً قبل أن أدخلَ عليه , لكنهُ شجعني وجعلني أشعُرُ ببعضِ الطمأنينة حين أومأ إليّ برأسهِ وبدونَ أن يطلبَ مني قمّتُ باغلاقِ البابَ ورائي, سّحبَ كرسيّاً أبيضاً كان قريباً منهُ ودعاني للجلوسِ عليهِ, لا أنكرُ أنني شعرتُ بالقلق وفكرتُ في الهرب إلا إن شيئاً لا أعرف ما هو منعني من تنفيذِ ما فكرتُ بهِ, ربما هو الخجل الذي يمنعني دائماً من تحقيق ما أريده, فاصبحُ وليمة للندم, عيناه الصامتتان ويداه المرتجفتان هما أكثر شيء أثارا أنتباهي وجعلاني لا أجرأ على الكلام , ظلَ يوزعُ نظراتهُ بيني وبين الباب حتى ظننتُ أن أحداً
سيدخلُ علينا, مالَ بجسّدهِ نحوي هامساً, أذهبي وتأكدي أن لا أحداً يتجسسُ علينا, وحين أكدتُ له ذلك, أخرجَ مسرعاً من جيبهِ علبة دواء بيضاء وناولني إياها وقال لي بنبرة محذرة وبصوتٍ منخفض , إياكِ أنْ تتناولي من اقراص الدواء التي في هذهِ العلبة , ثم أضاف وكأنه يحدثُ نفسه, أنها سم بطىء, أردتُ أن أخبرهُ أنني تناولتُ عشرُ علب منه إلا أني تراجعتُ عن قراري حين قال لي, في الزيارة الثانية سأخبركِ سّراً أخر وأشارَ إليّ بالأنصراف بعد أن طلبَ مني معاودة زيارتهِ بعد ثلاثة أيام .
ما أن مرَ اليوم الأول عليّ حتى أصبحتُ فريسةً دسمةً للخوف, فقدتُ شهيتي للأكل, دقاتُ قلبي السريعة جعلتْ العرق يتصبب مني بغزارة حتى تيبستْ شفاهي, حاولتْ الهرب من هذه الحالة بالنوم إلا أن حبلاً طويلاً تتدلى منهُ علبٌ دواء بيضاء رأيتها في منامي, جعلني أنسى فكرة النوم تماماً .
طرأتْ لي فكرة أن أذهب إليهِ في اليوم الثاني, لم أعدْ أطيق الأنتظار, لكنني أعترف بأني امرأة جبانة, مترددة, الخوف هو مَنْ يقودُ خطواتي , فأصلُ دائماً متأخرة أو أتعثر في الطريق فلا أصل أبداً .
في اليوم الثالث, حين رأني , وجد صعوبة في تذكري فأنكرَ كل شيء وطلب مني مغادرة الغرفة, شعورٌ باليأس والأحباط سيطرا علي وحزن كبير شلَّ حركتي, ماذا أفعل الآن ؟ لا أدري كيف خطرتْ على بالي علبة الدواء, ونجحتْ الفكرة, فما أن رأها حتى أنتفضَ من مكانهِ فزعاً ليقتربَ مني ويقول بطريقةٍ هستيرية مسرحية وهو يضعُ فمهُ في أذني , إياكِ والعودة إلى هنا, فالموت يختبأ في الزوايا وخلف الجدران وتحت الأسرة وفي علب الدواء البيضاء, لا تغرّكِ أبتساماتهم, فخلفها تقبع قلوب لا تعرفُ الرحمة, وبعد أن عادَ إلى مكانهِ واستقرَ فيه, قال بلهجةٍ آمره نهى بها الزيارة , عودي غداً لأخبركِ بالسّر الأخير .
مرتْ ساعة قبل أن أنتبه إلى أنني الوحيدة في صالة الإنتظار, دوارُ أصابَ رأسي أفقدني تركيزي وتوازني, أسمعُ أصواتاً لا أرى أجساداً لها, ضحكاتٌ هستيرية تسخرُ مني لا أعرف مصدرها, أشباحٌ بألوان كثيرة تتقافزُ أمامي, توقفَ الزمن من حولي وبدأتْ عقاربهُ تبثُ السم قطرة قطرة في دمي حتى شَحُبَ لوني وذبلتْ أجفاني, تناولتُ حبة دواء مهدىء من العلبة البيضاء قبل أن أتوجه إلى بيتي منتظرتاً الغد أو بالأحرى السر .
في الليلة التي مرتْ, عرفتُ معنى أن تنسلخَ الروح عن الجسد, كيف هو الإختباء في سرداب مظلم للهروب من الموت, معنى أنْ تعتقلكُ الهواجس, أن تحتضرَ بعيونٍ مفتوحة, ترقبُ الحياة وهي تمر أمامكَ ، كيف هو السير في متاهة بلا مخرج ولا من ضوءْ ينيرُ لكَ الدرب, استيقظتُ فوجدت مخاوفي تنتظرني, لا أدري متى أخبرتُ سائق سيارة الأجرة عن الطريقَ إلى المستشفى التي يرقد فيها الطبيب النفسي الذي كان يعالجني من مرض الوهم, لقد كان يسميه مرض الوهم الغريب, ناولته النقود وانتظرتُ حتى غاب عن ناظري لأتاكد من أنه لن يلحقَ بيّ , دخلتُ البناية مسرعة, كل شيء كان صامتاً, الممرات والأبواب , لا صوت سوى صدى ضربات قلبي تردده الجدران, دخلتُ الغرفة التي يرقد فيها طبيبي النفسي السابق, لكني لم أجدهُ بل وجدتُ بدلاً منه الممرضة التي أخبرتني أن مريض الوهم الغريب الذي كان هنا قد مات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.