الصفحات

حارسُ المرمَي البدِيل ...** محمد أبوالدهب

انتفضتُ علي النقر المتهافت للمنبّه، مُجدِّدا رغبتي الشاطحة اللحوح في ألّا أُصلّي، منذ عرفت ليلاً بموت الكابتن حامد. أنا الذي صلّيتُ العشاء جماعةً بالمسجد، والشفع والوتر بالبيت آخِر الليل، قبيل ارتمائي علي السرير، طامعاً في نومةٍ فاصلة، وفي مصيرٍ غير المصير، مرعوباً -كالعادة- من الموت أثناء النوم.
نسيتُ الحلم -شأني والأحلام- غير أني لم أزل مصفوعاً بخاتمته التى تتكرر مع أحلام أخرى: كنت تائهاً، علي الأغلب، في تلالٍ من نار. أوقن، بلا دليل -إلا سَكْرة الحالم- أنها جهنم المتوعِّدة
الموعودة، التي سمعت عن سوادها الأعمى بعد آلاف الأعوام من الغلَيان، وقرأتُ في طِباع زبانيتها الذين لا يبصرون الدموع ولا يسمعون الأنَّات، وصدّقتُ بحرارتها التى تذيب جبال الصخر في غمضة عين، وتوقّفتُ بشأن ساكنيها الذين لا يطمحون إلا في موتٍ عاجل، وتخيّلتها مِراراً: قصورٌ من حريق، عالية بديعة من بعيد، سافلةٌ غضوبٌ من قريب، تطل علي بحرٍ يفور ماؤه المدخّن، كطبق حساء ضخم، أُعِدّ للجائعين من القتَلة والمرتشين والزناة وتاركي الصلاة. مُتّكىء أنا علي سريرٍ فسيح ملتهب، في شرفة قصرٍ لا يلجه غيري، أتأمل البحر المغلىّ بانبهارٍ وتفلسُف، مثلما أفعل كل عام في المَصيف!
انحصرتْ علاقتي بها -وقت الحلم الضائع- في التسليم بوجودها، ثم الهرولة إليها، وتمنّيها لكثيرين من حولي، والتشاؤم بسببها من فكرة وجودي -نفسي- لكني أبداً لا أتفحّم!
كتمتُ المنبّه بلطمةٍ أُتقنها، مرتاحاً أو مضطراً لترك الأمور تسيل كالماء، مختاراً ألا أصلّى الصبح. تراجعتُ لما تذكرت -كأنما نسيت!- أن الكابتن حامد مات، ولم يُدفنْ بعد.
*****
وقفتُ أمام مسجد (الشباب والرياضة) أنظر المشيِّعين خارجين من ساحته، يرقبون الأفق بإمعان كأنهم يتوقّعون نزول شىء من السماء. والنعش ينزلق، في خطّ مُنحنٍ، فوق الرؤوس. أفكر بأنهم سيجرِّبون دخول النار، وأن أكثرهم لن يخرج منها. استغفرتُ من توقيت شطح الهواجس. كنتُ خاشعا في الصفِّ، كأحسن ما يكون الخشوع، عند صلاة الظهر. حظِّي فى الصلوات التى يحوم حولها نعش. أعشق صلاة النعوش!.. في السجدة الأخيرة، لم أرَ بأساً -من جديد- في ترك الصلاة، وكنتُ مغتاظاً من نفسي لأن الناس تميل إلي الصلاة، وليس إلي تركها، حين يختطف الموت أحدهم، ومتوجّساً من أن أكون مرصوداً بلَعنة، وعازماً علي أن أفتِّش في كتب الفقه عن باب (مَنْ يقيمُ الصلاةَ وفى نيّته تركُها).. لهذا كله لم أتمكّن من الدعاء للكابتن حامد، بعد تكبيرة الجنازة الثالثة، مثلما أحب أن يُدعَي لي في نفس الموقف، كما قال الإمام ذو الشَّعر المفلفل المصبوغ، محفِّزاً، ومغترَّاً باللحظة.
*****
يقاتل الكابتن حامد منذ ثلاث سنوات ليصعد بفريق المدينة إلي الدوري الممتاز. بَرَد حماسه هذا العام، لما اشترتْ إحدي القنوات حقوق بث دوري القسم الثاني. كثيرون قالوا إنه لا يهتم إلا بالظهور في التليفزيون، لكنّ الفريق لم يزل في الصورة رغم هزيمته في المباراة قبل الأخيرة. الأمس كان يوماً حاسماً، وكنا بحاجة إلي الفوز -خارج ملعبنا- علي فريق ضعيف يصارع الهبوط، مقابل أن يُهزَم المنافسُ، أو يتعادل علي أسوأ احتمال.
قبل عشر سنوات كان حامد رأس الحربة الأوحد للنادي، يحرز معظم أهداف الفريق، ويخاصم مَن يتجرَّأ مِن زملائه فيهزُّ شباك الخصم، كان يعتبر ذلك طعناً له في الظهر، وكانوا يتسامحون معه تقديراً لمهارته وإخلاصه، خاصة وأن خصامه للمتجرِّيء لم يكن يتجاوز يوم المباراة. أما أنا فلم يخاصمني، وبقيتْ صُحبتنا رائقةً حتي يومه الأخير، ربما لأنني كنتُ أكبره بأربع سنوات، وربما لأنني كنت حارس المرمى الاحتياطىّ الذي لا يلمس الكرة إلا في التدريب!
عندما بلغ الثلاثين انتقل، فجأة، إلي نادي (المقاولون العرب) الشهير، تم ذلك بسرعة وبلا ضجيج بعد مباراة ودّية بيننا وبينهم. استمر معهم لعام كامل، لم يلعب إلا ثلاث مباريات كبديل، ولم يسجّل إلا هدفاً واحداً من ضربة جزاء، سمح له المدرّب بتسديدها لأن النتيجة كانت مضمونة، وظهر في التليفزيون خمس مرات خطفاً -إضافة إلي لقطة ضربة الجزاء- وهو يُجري تمارين الإحماء مع لاعبي دكة البدلاء. استغني عنه (المقاولون)، فجأةً أيضا، في نهاية الموسم بلا مقابل، ليعود إلينا نجماً ساطعا، معتزلاً الكرة، يخصُّني -أو هكذا تصوَّرتُ- في جلساتنا الأسبوعية بكافيه (الكلاسيكو) بالحديث عن سهراته السِّرِّية العجيبة مع اللاعبين الدّوليين والمحترفين الأفارقة والمدرّبين العاطلين، للحدِّ الذى أصابني بالرعب، وملأني يقيناً بأني لم أكن إلا متطفِّلاً مِسكيناً علي عالَمٍ ليس له.
تفرَّغ حامد -بعد عودته- للتدخُّل في كل كبيرة وصغيرة بفريق المدينة، خاصة في فترات تذبذب المستوي، إلي أن قرر مجلس الإدارة تعيينه مديراً فنيّاً للفريق، مات أمس بأزمةٍ قلبية بعد أن فاز الفريق الذي ينافسه مثلما فاز فريقه فضاع أمل الصعود، مُدلِّلاً بموته علي أنه كان جادَّاً، وعلي ظُلم مَنْ قالوا إنه لا يهتم إلا بالظهور في التليفزيون.
*****
برغم أن المقابر في وسط المدينة، وأنا وسط الناس، نتخلَّل صامتين حاراتها الترابيَّة الضيِّقة، المتشابكة كمتاهة، أحسستُني أجوس وحيداً في جزيرة جبليَّة حارَّة، معزولة عن العالم -كأنما عدتُ أحلم- لولا صورة كبيرة مرفوعة بين شابيْن يبكيان، يجري فيها حامد بفانلة (المقاولون العرب) الصفراء، المميَّزة بخطوطها الطوليَّة السوداء، منتشياً بتسجيل هدفه الوحيد. تسابق لاعبو فريق المدينة، المصدومون بالأمس من عدم صعودهم للدوري، علي رفْع جسد مدرِّبهم، نازلين به إلي لحْده، غير مُصدّقين هموده المباغت. ولما تمّ الدفن، راح الشيخ المعتنِي بشَعره يصف للكابتن طريقا مختصراً يعبر به، سريعاً، من القبر إلي الجنة. فكرتُ بأن حامد لم يكن يركعها، وأنه يخصُّه الآن حرفيَّاً: جاءك الموت يا تارك الصلاة.. وأنه كثيراً قال لي: "أحسن شىء فيك انك مواظب علي الصلاة" دون أن يقوم مرة ليصلّي معي، وأنه -يوماً وراء يوم- سيعتاد التقلُّب في حفرةٍ مشتعلة، ومصاحبة الثعبان الأقرع، قبل أن يُؤخَذ -صبيحة يوم القيامة، إن كان له صبيحة- للإقامة في شرفته البديعة بقصره المتفحِّم علي شاطىء النار، وأنّ ما سيحلُّ به لا بأس أن يحلَّ بي وبآلاف اللاعبين غيرنا.
محمد أبوالدهب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.