نهض “محمد” صبيحة يوم جمعة على صوت والدته التي لطالما أحبّ سماعه إلا عندما توقظه وتحدث جَلَبَةً عالية كأنَّ زلزالًا يمكن أن يُحدث ويدمّر المكان. حالة من الكسل الشديد تسيطر على جسد “محمد” المنهك، لكن صوت والدته الأجش يُشعره بقشعريرة تسري في جسده المتثاقل لتجبره على النهوض من الفراش.
لا تتأخّر يمّا قالتها الأم العجوز “أم علي”، لأصغر أبنائها “محمد”، الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، والذي استجاب بعد عناء طويل لوالدته فنهض من فراشه. نظر
“محمد” إلى والدته فأدرك أنها ستقول موّال كل يوم:
والله ما أنا عارفه أنتم شباب أو ختايرة يمّا؟!!
حفظ “محمد” عن ظهر قلب ما كانت تردده والدته كل يوم، لكنه انتفض اليوم على غير عادته لكأنّ مناديًا يناديه: إلى “البروة”، إلى “يافا”، ليحضن تراب أرضك هناك، حيث صارت كل أغنيات الوطن نشيدًا للزاحفين، وصار “شُهَدَا فلسطين”، مثل زهر الحنّون، وبحر عكا.. فوَرد الدار هناك لا يزال ينتظر عودة الغُيّاب، كما الصبّار الذي يعاند في وجوده الاحتلال، وحنّون الوادي الذي لم ييأس وينتظر العائدين بلهفة المشتاق كما الحبيب ينتظر حبيبه.. فهل يا تُرى يستطيع “محمد” الوصول إلى هناك؟!.
..جهّزت “أم علي” كما تفعل كل صباح فطورًا حوى: اللبنة، والجبنة، والزعتر، والشاي بالمريمية التي يحبها “محمد” الذي دلف إلى الغرفة.. وما أن رأى والدته حتى بادرها بالقول مع ابتسامة خجولة:
– صباح الخير
– صباح النور
تمعّن “محمد” إلى وجه والدته، كأنّه يراها للمرة الأولى وقد حفرت السنون السبعون على الوجه الذي يحبّه وديانًا وسهولًا، فبدى عليه تعب السنين، وأوجاع تنتشر في الجسم، وانحناءة ظهر قصمته الغُربة، والعيش في مخيمٍ للاجئين، وقد ابيّض شعرها مثل شلّال دافق بالحياة، ووجه كالقمر لفتاة طلبت يدها خالتها “أم أحمد”، التي كانت تتنافس مع عمتها “حليمة” في العام 1948، أيّهما تستطيع الفوز بها لتزويجها لابنها.. لكن والدها أصرّ على تزويجها “أبو علي”، زوجها الحالي.. ورغم زواجها لم تترك “أم علي” العمل في قطاف الزيتون وغلال القمح والشعير والذرة والفاكهة، وحمل حجارة الخفّان على رأسها مع فتيات أخريات لمسافات طويلة تتشارك فيها صعوبة الحياة معهن. وبعضهن عندما كنّ يصلن إلى المفرق يذهب بعضهن باتجاه عكا والأخريات باتجاه حيفا، لكن الطريق بعد احتلال “البروة” التي تقع على تلّة صخرية وعلى طرف سهل تتدرّج في اتجاه سهل عكا أصبح طويلًا وشاقًا جدًا تمامًا مثل الحياة الصعبة التي عاشتها “أم علي” طوال سِنِي ما بعد النكبة.
كلّما كان يدلف “محمد” إلى الغرفة الصغيرة لمنزلهم من باب خشبيّ “مخلّع” يمتاز بألوانه المتقادمة بين الزيتي والبني، كان يلفته ترتيب والدته للفرشات والبطانيات بشكل هندسي جميل، والتي تضع عليها شرشفًا أبيض في وسطه وردة حمراء جميلة طرّزتها جارتها “أم إبراهيم”. وعلى الحائط المواجه للباب الخشبي تُعلِّق “أم علي” صورة ولدها الشهيد “علي” الذي قتله جندي إسرائيلي كان يتمركز فوق دبابته ويطلق الرصاص على شبان يحملون الحجارة. ولكن أكثر ما كان يحزن “محمد” مشاهدته لوالدته وهي تنظر إلى صورة شقيقه المُعلَّقة على حائط الغرفة، وهي لا تكاد تصدّق أن ابنها الذي كان يملأ عليها حياتها قد فقدته، وأنها لن تستطيع رؤيته ثانية في هذه الدنيا، أو أن تُمسك بيده، أو أن تمسّد شعره الأسود الأملس.. فهذه الأشياء أكثر قسوة وأشد ألمًا لا تفارقها وتجعل الدمعة مصاحبة لها، ويتشارك معها الحزن الذي أحنى ظهرها، وجعل عينيها تبيضّان على فراق ولدها..
أنست حرارة حزن الوالدة “محمد” البرد الذي سكن أنفاسه وأثقل على صدره، فاجتاحته رغبة عارمة لاحتضانها وتقبيلها. فمشى خطوات قليلة باتجاه والدته، فضمّها إلى صدره وهي مستسلمة، فأدرك أن شهيقها عبارة عن دموع تغلي حزنًا مع تقاطرها على صدره، وهي تقول بصوتٍ متهدّج:
لو يعود “علي” حيًا من جديد لقلت له كم أعاني على فراقه!!
مسح “محمد” بيده على رأس والدته ونظر إلى وجهها الشاحب فرأى فيه وجهه الذي ترصفه الأيام حزنًا وغضبًا ونارًا لا تنطفئ..
وبينما كان “محمد” يحاول التخفيف من آلام والدته وتهدئتها، وإذ تصدر بالقرب من المنزل أصوات عالية وجلبة قوية، تشابكت نظرات “محمد” مع والدته: ما الذي يحدث؟!
..لم يمهل القادمون “محمدا” وأمه المزيد من الوقت لكي يعرفا ما يحصل في الخارج، فقد كُسر الباب الخارجي واقتحم غرباء المكان كأنهم يخوضون معركة مع عدو لا يدركون أنه موجود قبل وجودهم. انتفضت “أم علي” التي كانت قبل قليل، ضعيفة مستسلمة بين يدي ولدها، فتقدّمت خطوتين محاوِلَة إخفاء ولدها عن جنود العدو. وقفت تنافح عن ولدها وتقرع جرس النهار ليوم سيخرج منه هؤلاء الغرباء الذين اقتلعوا ولدها من بين يديها، لكنهم لم يستطيعوا اقتلاع الأمل.. خارت قواها بعدما نافحت عن ولدها لكنها كانت مدركة أن الجنود الذين يضربون ولدها وهم يجُرّونه ستتكسّر أمواجهم وهي تناطح صخر شعب لا يلين.
..وبعد أن غيّب الجنود فلذة كبدها عن عينيها، صدمها مشهد رؤية القفص الذي كان معلقًا على الحائط منذ سنوات، وفيه عصفور ذو ريش جميل يزقزق كل صباح فَرحًا، ينام الآن عند طرف قفصٍ لم يعبأ الجنود له فداسته أقدامهم!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إهداء إلى أبطال مسيرات العودة في فلسطين
لا تتأخّر يمّا قالتها الأم العجوز “أم علي”، لأصغر أبنائها “محمد”، الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، والذي استجاب بعد عناء طويل لوالدته فنهض من فراشه. نظر
“محمد” إلى والدته فأدرك أنها ستقول موّال كل يوم:
والله ما أنا عارفه أنتم شباب أو ختايرة يمّا؟!!
حفظ “محمد” عن ظهر قلب ما كانت تردده والدته كل يوم، لكنه انتفض اليوم على غير عادته لكأنّ مناديًا يناديه: إلى “البروة”، إلى “يافا”، ليحضن تراب أرضك هناك، حيث صارت كل أغنيات الوطن نشيدًا للزاحفين، وصار “شُهَدَا فلسطين”، مثل زهر الحنّون، وبحر عكا.. فوَرد الدار هناك لا يزال ينتظر عودة الغُيّاب، كما الصبّار الذي يعاند في وجوده الاحتلال، وحنّون الوادي الذي لم ييأس وينتظر العائدين بلهفة المشتاق كما الحبيب ينتظر حبيبه.. فهل يا تُرى يستطيع “محمد” الوصول إلى هناك؟!.
..جهّزت “أم علي” كما تفعل كل صباح فطورًا حوى: اللبنة، والجبنة، والزعتر، والشاي بالمريمية التي يحبها “محمد” الذي دلف إلى الغرفة.. وما أن رأى والدته حتى بادرها بالقول مع ابتسامة خجولة:
– صباح الخير
– صباح النور
تمعّن “محمد” إلى وجه والدته، كأنّه يراها للمرة الأولى وقد حفرت السنون السبعون على الوجه الذي يحبّه وديانًا وسهولًا، فبدى عليه تعب السنين، وأوجاع تنتشر في الجسم، وانحناءة ظهر قصمته الغُربة، والعيش في مخيمٍ للاجئين، وقد ابيّض شعرها مثل شلّال دافق بالحياة، ووجه كالقمر لفتاة طلبت يدها خالتها “أم أحمد”، التي كانت تتنافس مع عمتها “حليمة” في العام 1948، أيّهما تستطيع الفوز بها لتزويجها لابنها.. لكن والدها أصرّ على تزويجها “أبو علي”، زوجها الحالي.. ورغم زواجها لم تترك “أم علي” العمل في قطاف الزيتون وغلال القمح والشعير والذرة والفاكهة، وحمل حجارة الخفّان على رأسها مع فتيات أخريات لمسافات طويلة تتشارك فيها صعوبة الحياة معهن. وبعضهن عندما كنّ يصلن إلى المفرق يذهب بعضهن باتجاه عكا والأخريات باتجاه حيفا، لكن الطريق بعد احتلال “البروة” التي تقع على تلّة صخرية وعلى طرف سهل تتدرّج في اتجاه سهل عكا أصبح طويلًا وشاقًا جدًا تمامًا مثل الحياة الصعبة التي عاشتها “أم علي” طوال سِنِي ما بعد النكبة.
كلّما كان يدلف “محمد” إلى الغرفة الصغيرة لمنزلهم من باب خشبيّ “مخلّع” يمتاز بألوانه المتقادمة بين الزيتي والبني، كان يلفته ترتيب والدته للفرشات والبطانيات بشكل هندسي جميل، والتي تضع عليها شرشفًا أبيض في وسطه وردة حمراء جميلة طرّزتها جارتها “أم إبراهيم”. وعلى الحائط المواجه للباب الخشبي تُعلِّق “أم علي” صورة ولدها الشهيد “علي” الذي قتله جندي إسرائيلي كان يتمركز فوق دبابته ويطلق الرصاص على شبان يحملون الحجارة. ولكن أكثر ما كان يحزن “محمد” مشاهدته لوالدته وهي تنظر إلى صورة شقيقه المُعلَّقة على حائط الغرفة، وهي لا تكاد تصدّق أن ابنها الذي كان يملأ عليها حياتها قد فقدته، وأنها لن تستطيع رؤيته ثانية في هذه الدنيا، أو أن تُمسك بيده، أو أن تمسّد شعره الأسود الأملس.. فهذه الأشياء أكثر قسوة وأشد ألمًا لا تفارقها وتجعل الدمعة مصاحبة لها، ويتشارك معها الحزن الذي أحنى ظهرها، وجعل عينيها تبيضّان على فراق ولدها..
أنست حرارة حزن الوالدة “محمد” البرد الذي سكن أنفاسه وأثقل على صدره، فاجتاحته رغبة عارمة لاحتضانها وتقبيلها. فمشى خطوات قليلة باتجاه والدته، فضمّها إلى صدره وهي مستسلمة، فأدرك أن شهيقها عبارة عن دموع تغلي حزنًا مع تقاطرها على صدره، وهي تقول بصوتٍ متهدّج:
لو يعود “علي” حيًا من جديد لقلت له كم أعاني على فراقه!!
مسح “محمد” بيده على رأس والدته ونظر إلى وجهها الشاحب فرأى فيه وجهه الذي ترصفه الأيام حزنًا وغضبًا ونارًا لا تنطفئ..
وبينما كان “محمد” يحاول التخفيف من آلام والدته وتهدئتها، وإذ تصدر بالقرب من المنزل أصوات عالية وجلبة قوية، تشابكت نظرات “محمد” مع والدته: ما الذي يحدث؟!
..لم يمهل القادمون “محمدا” وأمه المزيد من الوقت لكي يعرفا ما يحصل في الخارج، فقد كُسر الباب الخارجي واقتحم غرباء المكان كأنهم يخوضون معركة مع عدو لا يدركون أنه موجود قبل وجودهم. انتفضت “أم علي” التي كانت قبل قليل، ضعيفة مستسلمة بين يدي ولدها، فتقدّمت خطوتين محاوِلَة إخفاء ولدها عن جنود العدو. وقفت تنافح عن ولدها وتقرع جرس النهار ليوم سيخرج منه هؤلاء الغرباء الذين اقتلعوا ولدها من بين يديها، لكنهم لم يستطيعوا اقتلاع الأمل.. خارت قواها بعدما نافحت عن ولدها لكنها كانت مدركة أن الجنود الذين يضربون ولدها وهم يجُرّونه ستتكسّر أمواجهم وهي تناطح صخر شعب لا يلين.
..وبعد أن غيّب الجنود فلذة كبدها عن عينيها، صدمها مشهد رؤية القفص الذي كان معلقًا على الحائط منذ سنوات، وفيه عصفور ذو ريش جميل يزقزق كل صباح فَرحًا، ينام الآن عند طرف قفصٍ لم يعبأ الجنود له فداسته أقدامهم!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إهداء إلى أبطال مسيرات العودة في فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.