راح يتعجّل هبوط السلالم الرخامية اللامعة ، ليعود إلى الشارع ، الذى افتقده فجأة ، كأنها لم تكن نصف ساعة .. وليلحق بقطار الثانية والربع .
فى البيت ، يصلى ركعتين ، مثلما طلب خاله .
لا يكاد يستوعب أن البناية ـ الشاهقة الملساء من الظاهر ، المكيّفة الملساء من الباطن ، التى تُدار كل حركة داخلها ببرنامج على الكمبيوتر ـ مجرد مستشفى ، لا يقيم بها إلا الموجوعون .. طائفة منهم على الأخص ..كان مضطراً إلى الإنكار ، لأن خبرته فى عالم المرض والمرضى ، اقتصرت على مستشفى حكومى من ثلاثة أدوار ، يشيخ وحيداً ، شاهداً على خمسة رؤساء للجمهورية ، وأربع خطط للترميم ، وسط مدينته الصغيرة البعيدة ، والتى يفكر الآن فى ألا يغترب عنها ثانيةً . رغم ذلك ، تفاخَر ، بينه وبين حاله ، بأن له خالاً ـ شقيق أمه من الوالدَيْن ، وليس ابن عمها أو ابن خالتها ـ يدخل الأماكن الغريبة كما يدخل بيته .*
أول اليوم ، هربت الدموع من عين أمه ، تخبره أن ابن خاله مريض ، وأن يتصل بخالته الصغرى ليأخذ عنوان المستشفى ، ويسافر . يسمع أن له ابن خال ، التحق منذ عامين أو ثلاثة بالكلّية الحربية ، لكنه لم يكن رآه . يعرف خاله بالطبع . قابله بضع مرات ، يذكرها جيدا ، مآتم وأفراح . كان يفرح بقدومه ، لأسباب لم يحسمها ، ويلازمه ـ بعينيه ـ من لحظة وصوله وحتى رحيله بعد انتهاء المناسبة . يذكر أيضا أنه كان يجىء ، كل مرة ، بسيارة حديثة مختلفة ، يغبطها الموجودون ، ويغتابونه كرجلٍ واصل ! .. ربما تعامَلَ معه أكثر من ذلك ، وقت الطفولة الباكرة ، التى تغيم فى ذاكرتها الحوادث .
*
بعد تردد ـ ربما ليتأكد من هوية الزائر ـ استقبله خاله باهتمام معقول ، رغم الشرود الذى يغشى ملامحه . فرصة ، تأخرت طويلاً ، ليتعرّف على قريبه النافر ، الذى لا يحب نزول الأرياف . لم يلاقِ بالحجرة الأنيقة إلا شاباً بالغ الوسامة ، فارعاً رغم نومته ، ثريّا قطعاً ، و يموت ! .. جهر الخال بلا مُقدّمات : سرطان الرئة . بدا كمَن كفر بالمواربة والتطمينات البليدة .
جلس صامتا ، مكتئباً ، يعدّ الدقائق لينصرف . أوصاه أن يصلّى ركعتين . قال : أنا عارف إنك طيّب . على الفور ، صمم بينه وبين ضميره ألا يتغاضى عن الركعتين . مع ذلك ـ بعد أن ودّعه ـ انشغل بفتيات التمريض : يتحركن بنشاط مفرط ومنظّم ، بين غرف المرضى وردهات المستشفى .. بأجساد رشيقة متطابقة الطول والوزن .. وابتسامات ثابتة تزيل الحواجز عن جمالهن المشاكس ، المنتقَى .. وزىّ موحّد يحبس صدوراً نافرة ومكنونة ، وأردافاً خفيفة نظيفة ـ اعتاد حين تثيره الأرداف أن يستحضر النظافة ـ ويعرّى سيقاناً حيّة ناعمة .. لهن نفس الشعر ، ذهبىّ مضىء ، ونفس التسريحة ، التى ترسمه منساباً فى طواعية ، وملموماً ـ عكس ذلك ـ خلف رؤوسهن فى ذيل حصان . تخيّلهن ، متراصّات فى صف واحد ، وجوههن إلى الحائط ـ مثل سبايا حربٍ بائدة ، أشعلها الهوس بالأنثى ـ وتحدّى أن يُخرج الزوج زوجته من بينهن ، إلا إذا استدارت .
حلّت به حسرة وخيمة ، مباغتة ، على حُبّ ضائع .
صدمته غرابة هواجسه ، خاصة وأنه لم يزل مكتئباً ، يتشوّف راية سوداء لموتٍ يحوّم ، فانطلق هارباً إلى الشارع ، معترفا أن مدينته الريفية الصغيرة أبقى ، قابضا على الوصيّة .
( 2 )
ابتعد عن المستشفى . لم يلتفت . سيسير ربع ساعة ، على الأقل ، حيث الميكروباص المتجه إلى محطة القطار . لم يكن بينه وبين خاله غير حُضن وقُبلتيْن حين يأتى ، ومثلها عند الرحيل ، وبينهما عينان تراقبان . لماذا إذن بدا مقتنعاً بطِيبته كما لو أنه يعيش معه ؟ .. توقف ، ليحكم على نفسه ـ هكذا ، فجأة ـ بصلاة الركعتين ، قبل ركوب الميكروباص . لا يصلّى ـ عادةً ـ إلا الجمعة . يعتنى بها : يستحمّ مبكرا ، يلبس جلباباً أبيض مكويّا ، يتعطر ، يسكن موضعه الواحد بالمسجد ، قبل الأذان بساعة ونصف ، يصلّى ما لايقل عن عشرة ركعات ، ثم يقرأ القرآن حتى يصعد الخطيب المنبر . لسنوات عديدة حافظ على طقوسه ـ والتى منها ترك الصلاة بقية الأسبوع ! ـ لذا تفاءل بقبول الركعتين . يعلم أن مسمّاها فى الفقه ( ركعتا قضاء الحاجة ) ، وأن لها دعاءً خاصا ، يقال فى السجود ، يحفظه منذ كان فى الثانوية العامة .
*
رأى فتى قادما يتلكأ . يرفع ، بمحاذاة كتفه ، شمّاعة ، عُلّقت بها بدلة سوداء ، مغلّفة بكيس كبير شفاف . سأله عن أقرب مسجد . ابتسم الفتى ، وقال إن الجامع قريب ومعروف ، فقط يدخل أول شارع على اليمين ، ويمشى مسافة قصيرة . تضاعف تفاؤله . راجع الكلمات التى سيقت على لسان الفتى ( قريب .. معروف .. أوّل ..اليمين .. قصيرة ) .. أضاف إليها الابتسامة التى لم تكن شرطاً للإجابة عن سؤاله . استنبط أن ظهور الفتى بهذه التفاصيل رسالة ، وأن العلاقة بين الركعتين ومآل ابن خاله مُقدّرة ، فهرول مستلهماً خط السير الجديد ، مؤمنا بأنه يصنع موعظة نادرة ، سيتحاكى بها الناس . الشارع المقصود ممتد وواسع . لم يهتم ، فالمسجد قريب . وزّع نظراته على الجانبين ، مستشعراً أن المسجد سيناديه . لم يتعجب من خواطره المباغتة الهادرة ، غير أنه تعب قليلا ، فاستدار : جاوز أكثر من نصف الشارع . مع اندهاشه لم يتزعزع إيمانه . سيسأل ، فالمسجد معروف . كان على مقربة من معرض سيارات ، يقف أمامه شاب حليق الرأس ، يدخن . خطا إليه وسأل . ابتسم ، وقال إن هذا الشارع ، تحديداً ، مشهور بعدم وجود أى مسجد به ، مع أنه أكبر شوارع المنطقة . حدّثه عن الفتى . أكّد الشاب أن هناك كثيرين مثل الفتى ـ يعرف بعضهم ـ لا يدخلون المسجد ، مرةً ، طوال حياتهم ـ اللهم إلا للصلاة عليهم ـ لكنهم إذا سُئلوا عن المساجد أفتوا ، وكأنهم يقيمون بها . نصحه أن يلزم هذا الشارع الضيق ـ أشار بسيجارته ناحية اليسار ـ وعند التقاطع الثانى سيعثر على المسجد . مضى مرتبكا . تشكّك بأنه تسرّع فى التأويل ـ بخصوص الفتى ـ و بأن الأمر أبسط وأكثر عادية مما تصوّر : أب مقبل على فقد ابنه الوحيد ، يطلب من كل زائر صلاة ركعتين من أجله ، أو ـ حتى ـ الدعاء دون ركوع . أحوال روتينية ، على الأرجح ، يباشرها الناس ، من مختلف الأديان ، حين تدهمهم نفس الظروف ، ولا ترقى لفخامة ومسئولية "الأمانة" ! .. عاهد نفسه ـ دون أخذٍ و ردّ ـ أن يواظب على الصلوات الخمس ، ابتداءً من اليوم ، بالإضافة إلى صلاة الجمعة . لم يستنتج علاقة مستساغة بين ما انتواه ، وما أوصى به خاله ، قبل الذى فضفض به الشاب ، بعد ما تكلّم به الفتى .. واجه الشارع الضيّق ، مُطوِّلاً باله ، معتبراً أنّ المساجد بمدينة كهذه أكثر من المصلّين ، وأنْ لم تزل فى القصة موعظة . الشارع أزهى حياة من الشارعَيْن الآخرين : شارع شعبىّ ،كأنما تشكّل غصباً فى الحىّ الراقى ، مزحوم بالناس والدكاكين . تأهّبَ لاستقبال المسجد .
*
على دكة خشبية ، أمام محل فرارجى ، يتربّع شيخ ذولحية وافرة ، على جبهته زبيبة صلاة مفلطحة ، يتلو فى المصحف مندمجاً . تقدّم ، منشرح الصدر ، وسأل . أكمل الشيخ الصفحة ثم رفع رأسه ، غير مرحِّب بالمقاطعة ، إذ نقل حملقةً حادّة ، من المصحف إليه ، وبالعكس ، مرّاتٍ ، ليلقّنه الذنب الذى ارتكبه للتوّ . قفل كتاب الله ، مستغفراً ، معلناً أنه لا يوجد على وجه الأرض أكثر من المساجد ، والدليل حديث الرسول ( جُعلت لى الأرض مسجداً وطهورا ) ، لكن هذا ـ مازال يعلن ـ ليس وقت صلاة ، وعليه فإن كان يريد المسجد لاستعمال دورة المياة ، ثم التسلل كالحرامية ، دون صلاة ـ كما يفعل معظم سكان الشارع ـ فإنه لن يشارك فى استغلال بيوت الله . أفصح ، متلعثماً ، أنه سيصلى صلاة الحاجة ، ليدعو لابن خاله المحتضر . ابتسم الشيخ ، و قال : ( تشابهت قلوبهم ) ، يتحول الجميع فجأة إلى فقهاء ، صلاة الحاجة ، صلاة الاستخارة ، صلاة التسابيح ، وصلوات أخرى لا يسمع بها غيرهم . عاد وفتح المصحف ، مُنهياً الكلام ، بعد أن قال كَمَنْ يرمى ـ مرغماً ـ جنيهاً لشحّاذٍ ملحاح : المسجد قدّامك .
*
تحيّر ، متولّياً عن الشيخ . لم يكن المسجد قدّامه .كان اليأس ، لكنه لم يطاوع . سعى يبحث فى الأبواب المردودة ، عن باب يصلح لمسجد ، أو حتى زاوية . ساقه السعى إلى الميدان الواسع ـ المدهوس بالناس ، الأصحاء ، المرضى ، والذين لا بدّ مات بعضهم شبابٌ بسرطان الرئة ، بعد أن صلّى لهم الكثيرون صلاة الحاجة ـ حيث الميكروباص الذاهب إلى محطة القطار ، فانسلّ بين المحتشدين ، يزاحم .
فى البيت ، يصلى ركعتين ، مثلما طلب خاله .
لا يكاد يستوعب أن البناية ـ الشاهقة الملساء من الظاهر ، المكيّفة الملساء من الباطن ، التى تُدار كل حركة داخلها ببرنامج على الكمبيوتر ـ مجرد مستشفى ، لا يقيم بها إلا الموجوعون .. طائفة منهم على الأخص ..كان مضطراً إلى الإنكار ، لأن خبرته فى عالم المرض والمرضى ، اقتصرت على مستشفى حكومى من ثلاثة أدوار ، يشيخ وحيداً ، شاهداً على خمسة رؤساء للجمهورية ، وأربع خطط للترميم ، وسط مدينته الصغيرة البعيدة ، والتى يفكر الآن فى ألا يغترب عنها ثانيةً . رغم ذلك ، تفاخَر ، بينه وبين حاله ، بأن له خالاً ـ شقيق أمه من الوالدَيْن ، وليس ابن عمها أو ابن خالتها ـ يدخل الأماكن الغريبة كما يدخل بيته .*
أول اليوم ، هربت الدموع من عين أمه ، تخبره أن ابن خاله مريض ، وأن يتصل بخالته الصغرى ليأخذ عنوان المستشفى ، ويسافر . يسمع أن له ابن خال ، التحق منذ عامين أو ثلاثة بالكلّية الحربية ، لكنه لم يكن رآه . يعرف خاله بالطبع . قابله بضع مرات ، يذكرها جيدا ، مآتم وأفراح . كان يفرح بقدومه ، لأسباب لم يحسمها ، ويلازمه ـ بعينيه ـ من لحظة وصوله وحتى رحيله بعد انتهاء المناسبة . يذكر أيضا أنه كان يجىء ، كل مرة ، بسيارة حديثة مختلفة ، يغبطها الموجودون ، ويغتابونه كرجلٍ واصل ! .. ربما تعامَلَ معه أكثر من ذلك ، وقت الطفولة الباكرة ، التى تغيم فى ذاكرتها الحوادث .
*
بعد تردد ـ ربما ليتأكد من هوية الزائر ـ استقبله خاله باهتمام معقول ، رغم الشرود الذى يغشى ملامحه . فرصة ، تأخرت طويلاً ، ليتعرّف على قريبه النافر ، الذى لا يحب نزول الأرياف . لم يلاقِ بالحجرة الأنيقة إلا شاباً بالغ الوسامة ، فارعاً رغم نومته ، ثريّا قطعاً ، و يموت ! .. جهر الخال بلا مُقدّمات : سرطان الرئة . بدا كمَن كفر بالمواربة والتطمينات البليدة .
جلس صامتا ، مكتئباً ، يعدّ الدقائق لينصرف . أوصاه أن يصلّى ركعتين . قال : أنا عارف إنك طيّب . على الفور ، صمم بينه وبين ضميره ألا يتغاضى عن الركعتين . مع ذلك ـ بعد أن ودّعه ـ انشغل بفتيات التمريض : يتحركن بنشاط مفرط ومنظّم ، بين غرف المرضى وردهات المستشفى .. بأجساد رشيقة متطابقة الطول والوزن .. وابتسامات ثابتة تزيل الحواجز عن جمالهن المشاكس ، المنتقَى .. وزىّ موحّد يحبس صدوراً نافرة ومكنونة ، وأردافاً خفيفة نظيفة ـ اعتاد حين تثيره الأرداف أن يستحضر النظافة ـ ويعرّى سيقاناً حيّة ناعمة .. لهن نفس الشعر ، ذهبىّ مضىء ، ونفس التسريحة ، التى ترسمه منساباً فى طواعية ، وملموماً ـ عكس ذلك ـ خلف رؤوسهن فى ذيل حصان . تخيّلهن ، متراصّات فى صف واحد ، وجوههن إلى الحائط ـ مثل سبايا حربٍ بائدة ، أشعلها الهوس بالأنثى ـ وتحدّى أن يُخرج الزوج زوجته من بينهن ، إلا إذا استدارت .
حلّت به حسرة وخيمة ، مباغتة ، على حُبّ ضائع .
صدمته غرابة هواجسه ، خاصة وأنه لم يزل مكتئباً ، يتشوّف راية سوداء لموتٍ يحوّم ، فانطلق هارباً إلى الشارع ، معترفا أن مدينته الريفية الصغيرة أبقى ، قابضا على الوصيّة .
( 2 )
ابتعد عن المستشفى . لم يلتفت . سيسير ربع ساعة ، على الأقل ، حيث الميكروباص المتجه إلى محطة القطار . لم يكن بينه وبين خاله غير حُضن وقُبلتيْن حين يأتى ، ومثلها عند الرحيل ، وبينهما عينان تراقبان . لماذا إذن بدا مقتنعاً بطِيبته كما لو أنه يعيش معه ؟ .. توقف ، ليحكم على نفسه ـ هكذا ، فجأة ـ بصلاة الركعتين ، قبل ركوب الميكروباص . لا يصلّى ـ عادةً ـ إلا الجمعة . يعتنى بها : يستحمّ مبكرا ، يلبس جلباباً أبيض مكويّا ، يتعطر ، يسكن موضعه الواحد بالمسجد ، قبل الأذان بساعة ونصف ، يصلّى ما لايقل عن عشرة ركعات ، ثم يقرأ القرآن حتى يصعد الخطيب المنبر . لسنوات عديدة حافظ على طقوسه ـ والتى منها ترك الصلاة بقية الأسبوع ! ـ لذا تفاءل بقبول الركعتين . يعلم أن مسمّاها فى الفقه ( ركعتا قضاء الحاجة ) ، وأن لها دعاءً خاصا ، يقال فى السجود ، يحفظه منذ كان فى الثانوية العامة .
*
رأى فتى قادما يتلكأ . يرفع ، بمحاذاة كتفه ، شمّاعة ، عُلّقت بها بدلة سوداء ، مغلّفة بكيس كبير شفاف . سأله عن أقرب مسجد . ابتسم الفتى ، وقال إن الجامع قريب ومعروف ، فقط يدخل أول شارع على اليمين ، ويمشى مسافة قصيرة . تضاعف تفاؤله . راجع الكلمات التى سيقت على لسان الفتى ( قريب .. معروف .. أوّل ..اليمين .. قصيرة ) .. أضاف إليها الابتسامة التى لم تكن شرطاً للإجابة عن سؤاله . استنبط أن ظهور الفتى بهذه التفاصيل رسالة ، وأن العلاقة بين الركعتين ومآل ابن خاله مُقدّرة ، فهرول مستلهماً خط السير الجديد ، مؤمنا بأنه يصنع موعظة نادرة ، سيتحاكى بها الناس . الشارع المقصود ممتد وواسع . لم يهتم ، فالمسجد قريب . وزّع نظراته على الجانبين ، مستشعراً أن المسجد سيناديه . لم يتعجب من خواطره المباغتة الهادرة ، غير أنه تعب قليلا ، فاستدار : جاوز أكثر من نصف الشارع . مع اندهاشه لم يتزعزع إيمانه . سيسأل ، فالمسجد معروف . كان على مقربة من معرض سيارات ، يقف أمامه شاب حليق الرأس ، يدخن . خطا إليه وسأل . ابتسم ، وقال إن هذا الشارع ، تحديداً ، مشهور بعدم وجود أى مسجد به ، مع أنه أكبر شوارع المنطقة . حدّثه عن الفتى . أكّد الشاب أن هناك كثيرين مثل الفتى ـ يعرف بعضهم ـ لا يدخلون المسجد ، مرةً ، طوال حياتهم ـ اللهم إلا للصلاة عليهم ـ لكنهم إذا سُئلوا عن المساجد أفتوا ، وكأنهم يقيمون بها . نصحه أن يلزم هذا الشارع الضيق ـ أشار بسيجارته ناحية اليسار ـ وعند التقاطع الثانى سيعثر على المسجد . مضى مرتبكا . تشكّك بأنه تسرّع فى التأويل ـ بخصوص الفتى ـ و بأن الأمر أبسط وأكثر عادية مما تصوّر : أب مقبل على فقد ابنه الوحيد ، يطلب من كل زائر صلاة ركعتين من أجله ، أو ـ حتى ـ الدعاء دون ركوع . أحوال روتينية ، على الأرجح ، يباشرها الناس ، من مختلف الأديان ، حين تدهمهم نفس الظروف ، ولا ترقى لفخامة ومسئولية "الأمانة" ! .. عاهد نفسه ـ دون أخذٍ و ردّ ـ أن يواظب على الصلوات الخمس ، ابتداءً من اليوم ، بالإضافة إلى صلاة الجمعة . لم يستنتج علاقة مستساغة بين ما انتواه ، وما أوصى به خاله ، قبل الذى فضفض به الشاب ، بعد ما تكلّم به الفتى .. واجه الشارع الضيّق ، مُطوِّلاً باله ، معتبراً أنّ المساجد بمدينة كهذه أكثر من المصلّين ، وأنْ لم تزل فى القصة موعظة . الشارع أزهى حياة من الشارعَيْن الآخرين : شارع شعبىّ ،كأنما تشكّل غصباً فى الحىّ الراقى ، مزحوم بالناس والدكاكين . تأهّبَ لاستقبال المسجد .
*
على دكة خشبية ، أمام محل فرارجى ، يتربّع شيخ ذولحية وافرة ، على جبهته زبيبة صلاة مفلطحة ، يتلو فى المصحف مندمجاً . تقدّم ، منشرح الصدر ، وسأل . أكمل الشيخ الصفحة ثم رفع رأسه ، غير مرحِّب بالمقاطعة ، إذ نقل حملقةً حادّة ، من المصحف إليه ، وبالعكس ، مرّاتٍ ، ليلقّنه الذنب الذى ارتكبه للتوّ . قفل كتاب الله ، مستغفراً ، معلناً أنه لا يوجد على وجه الأرض أكثر من المساجد ، والدليل حديث الرسول ( جُعلت لى الأرض مسجداً وطهورا ) ، لكن هذا ـ مازال يعلن ـ ليس وقت صلاة ، وعليه فإن كان يريد المسجد لاستعمال دورة المياة ، ثم التسلل كالحرامية ، دون صلاة ـ كما يفعل معظم سكان الشارع ـ فإنه لن يشارك فى استغلال بيوت الله . أفصح ، متلعثماً ، أنه سيصلى صلاة الحاجة ، ليدعو لابن خاله المحتضر . ابتسم الشيخ ، و قال : ( تشابهت قلوبهم ) ، يتحول الجميع فجأة إلى فقهاء ، صلاة الحاجة ، صلاة الاستخارة ، صلاة التسابيح ، وصلوات أخرى لا يسمع بها غيرهم . عاد وفتح المصحف ، مُنهياً الكلام ، بعد أن قال كَمَنْ يرمى ـ مرغماً ـ جنيهاً لشحّاذٍ ملحاح : المسجد قدّامك .
*
تحيّر ، متولّياً عن الشيخ . لم يكن المسجد قدّامه .كان اليأس ، لكنه لم يطاوع . سعى يبحث فى الأبواب المردودة ، عن باب يصلح لمسجد ، أو حتى زاوية . ساقه السعى إلى الميدان الواسع ـ المدهوس بالناس ، الأصحاء ، المرضى ، والذين لا بدّ مات بعضهم شبابٌ بسرطان الرئة ، بعد أن صلّى لهم الكثيرون صلاة الحاجة ـ حيث الميكروباص الذاهب إلى محطة القطار ، فانسلّ بين المحتشدين ، يزاحم .
* محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.