الصفحات

الزّيارة ... **محمد أبوالدهب

فى شتاء1992، وفى ليلة ممطرة، مقطوعة الكهرباء، حاصرتْ قوات الأمن بيتنا، ودخل ضباطٌ وجنود مسلّحون، ليأخذونى. لمحتُ، من ورائهم، أبى وأمى، حزينين، ربما لأن صغيرهما أُجبِر على ترك الدفء!
لبّيتُ، نشيطاً، مُخفياً فرحتى بالزيارة التى طال انتظارها. أظنّنى -على ما أذكر- كنت أريد لفْت انتباهِ فتاةٍ تكفيريّةٍ فى قريتى الصغيرة!
هناك، وضعوا غشاوةً على عينى، وأدخلونى للمحقّق. سألنى عن أخبار الجماعة، وعن الأدلّة الشرعيّة التى أستند عليها لتكفير المجتمع، وعن أسماء أبرز المجاهدين.


كنتُ مراوغاً واعداً: لم أنكر كل شىء، ولم أعترف بكل شىء.
أطلقونى فى اليوم التالى. واعتادوا زيارتى كلّ عامٍ مرّة.
*
فى صيف 2018، جاءتنى مكالمةٌ من رقمٍ خاص (فى السنوات السبع الأخيرة تلقّيتُ مكالمات من نفس اللارقم كل أربعة خمسة شهور، بديلاً عن الزيارات المنزليّة المُقتحِمة).. يأمرنى المتّصل، بعسكريّةٍ لاسلكيّة، بالذهاب لمقابلة (فلان بيه).. يحدّد موعداً لاينبغى التلكّؤ عنه، حتى لو كان (الآن).. طبعاً بعدما يتأكّد أنى (الشيخ فلان)!

هناك، ربطوا الشىء على عينى، وأدخلونى للمحقّق. سألنى عن الجماعة، وعن الأدلّة الشرعيّة، وعن أسماء المجاهدين. صمَتُّ طويلاً، مستجدياً ذاكرتى، متحسّراً على براعتى، التى كانت، فى المراوغة.

سبعة وعشرون عاماً ليست بالقليل. عركتُ فيها كل الطرق إلا طريق الجماعة ومجاهديها. لهذا كنت معذوراً فى فقدانى الروح المرحة للإنكار والإقرار، وفى شعورى المِهنىّ بالشفقة على المحقّق، وفى نسيان ملامح الفتاة!

المهمّ أنهم أطلقونى -كالمتّبع- فى اليوم التالى.

**محمد أبوالدهب
مصر
   

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.