الصفحات

الشاعرة فدوى طوقان: بين حلاوة الشّعر و مرارة الإضطهاد

الشاعرة فدوى طوقان
نزار حسين راشد
التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو “زهرة الفل” التي ركض إليّ بها ذات يوم صبي صغير في (حارة العقبة) وأنا في طريقي إلى بيت خالتي”.
و”حلت اللعنة التي تضع النهاية لكل الأشياء الجميلة” بعد أن فطن شقيقها يوسف للأمر، “وأصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية، وهددني بالقتل إذا غادرت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام”.
هذا الاقتباس من كتاب”رحلة جبليّة،رحلة صعبة” للشاعرة فدوى طوقان الّذي روت فيه سيرتها الذاتية!

هذه الفقرة،رغم الحيادية الظاهرة،التي يصطنعها الراوي،ليُبلغ حكايته،هي في الحقيقة محمّلةٌ بالشّجن،وبشعور عميق بالغبن،والرّثاء،رثاء الوردة ،وردة الحُب البريء،التي قدّمها العاشق الصغير،ووردته التي حوكمت وأدينت واغتيلت،وقطع عنقها في المنبت، اقتُلعت من أصيصها،وديست بأقدام التقاليد الجائرة!
هكذا لخّصت فدوى مأساتها،لتعيد رسم الفاجعة في سياقٍ آخر على هذا النحو:“كثيرا ما سمعت أمي تذكر طرائف ونوادر عن طفولة إخوتي مما كان يثيرنا نحن الصغار فنضحك، وكنت أنتظر دائما أن تروي شيئا عن طفولتي، نادرة مثلا، أو حادثة طريفة طرافة الحوادث التي ترويها عنهم، ولكن دوري الذي كنت أنتظره لم يكن ليأتي قط.. فأبادرها بالسؤال بلهفة طفولية: احكي لنا يا أمي شيئا عني، ماذا كنت أفعل؟ ماذا كنت أقول؟ بالله احكي، ولكنها لم تكن لتبل غليلي، ولو بذكر طرفة تافهة، وأنكمش في داخلي، أحس بلاشيئيتي: إنني لا شيء، ليس لي مكان في ذاكرتها…”.
في ذلك السّياق التاريخي،كان المجتمع الفلسطيني مصنّفاً طبقيّاً،وفق تقسيمة جغرافيّة:الفلاحون والمدينيون او المُدُنيين”سكان المدن” ،والبدو،وفي مدينة نابلس بالذات،كانت صفة الفلاح معياراً ووصمة،وهذه الإدانة غير البريئة تتضمّن نبذاً اواستبعاداً من الحصول على حظٍ من التعليم والمنافسة على الوظيفة والإلتحاق بطبقة الموظفين،التي يحتكرها سّكّان المدن،وعائلة طوقان بالذات،كان أفرادها يحتلون أعلى درجات السّلم،في الكادر الوظيفي!
هذه المصادرة الغاشمة تكرّرت في حياتها مرّة اخرى،حين وقعت في حب كاتب مصري اسه أنور المعداوي،ومرّة اخرى رفض الأهل تزويجها بذريعة او خديعة الفجوة الطبقيّة!
هذا المنتج الإجتماعي الغاشم،لم يكن في الحقيقة،ينسحب على كافّة أطياف المجتمع الفلسطيني،في ذلك الزّمن، ويبدو أن الفلّاح المتّهم بالتخلّف،والموصوم بالدونيّة من قبل المُدُنيين، كان أكثر تسامحاً وانفتاحاً،من نظيره في المدن،ربّما لقرب البيئة الريفيّة من الفطرة،وربّما لتحررها من العقدة الطبقية التي يرسّخها مجتمع المدينة!ولا زالت حيّة في ذاكرتي حكاية فتاة قرويّة وقعت في الحب،وفي السياق الزمني ذاته،او رُبّما بفاصلٍ قصير،في مجتمع أوائل الستينات،حيث تقدّم لخطبتها رجل ميسور من القريّة،فجنّ جنون الفتى حبيبها،الّذي تبادلت معه رسائل الحب،وأقدم على عملّ متهوّر، فحمل الرسائل وذهب بها إلى الخاطب وأقرأه إياها،لينفّره ويثنيه عن خطبتها،فما كان من الرّجل،إلّا أن سخّف الأمر كلّه قائلاً،هذا لعب اولاد،كل فتاة صغيرة تمرّ بهذه المرحلة الصبيانية،فبهت العاشق،الّذي فاجأته الإجابة،وبدل أن ينكص منهزماً أخرج خصلة شعركستنائيّة،شهرها في وجه الرّجل،معلناً:وهذه خصلة من شعرها،إذا لم تكفيك الرّسائل،ليرُدّالخاطب:يا إبني هذه حماقات صغار!
لم تُسفك دماء،ولم تُفضّ الخطوبة،وتناقلت النّساء الحكاية،ولم يقل أحدٌ أنّ ذلك كان تلويثاً للشرف،وانتهت الحكاية على خير للجميع،باستثناء الفتى العاشق،الّذي يبدوأنّ فتاته،لم تشأ أن تغامر بانتظاره سنيناً،حتّى يتأهل ويصبح قادراً على الزواج!
لقد تركت التجربة أثرها العميق في شعرها،حتّى العنوان له إيحاؤه”أعطنا حُبّاً”،إنها تطلب ما افتقدته،أو ما سُلب منها،وتحاول استعادته شعراً، فتتأسّى قائلة:
انتهينا منه ، شيعناه ، لم نأسف عليه
وحمدنا ظلّه حين توارى
دون رجعة
لم نصعد زفرةً خلف خطاه
لم نرق بين يديه
دمعةً ، أو بعض دمعه
بعد أن جرّعنا من كأسه المرّ الحقود
بعد أن أوسعنا لؤماً وغدراً
وجحود
غاب عنّا وجهه الممقوت ، لا عاد لنا
كان شريراً ، أمات الشّعر فينا
والمنى..ز
كل ذلك وهي واقفةٌ امام “الباب المغلق” وهو عنوان ديوان آخر لها،إنّها البصمات التي لا تمّحي،بل تظلُّ مطبوعة على صفحة الرّوح:
مشيئة الملك
الفأس في الرأس بذا قضى الملك
فلا تجدّفوا
هو الذي قضى ولن يصيبكم
الاّ الذي قضاه
وكل شيء دبرته حكمة الملك
فلا تجدفوا
الخير منه وحده
والشر منه وحده
وهذه مشيئة الملك
فاستمسكوا بالصبر والايمان ــ
واحمدوا
فلا سواه ، لا سواه…..
ولكنّ هذا الفقدان،أشعل الجذوة في قلب الشاعرة،بدل أن يخمدها،فتعتّقت في دنان الحب ،لتسكب خمرهُ شعرا
لا أرقُّ ولا أجمل :
كلما نادتني
يا حبيبي كلما ناديتني
هاتفاً عبر المسافات : تعالي
عبقت في خاطري يا جنتي
جنّة ، و انهلّ ضوءٌ في خيالي
و بدا لي
عالم ريّان ، وردي الظلال
من شباب و فتون و غوى
أسكرت آفاقه خمر الهوى….
لقد رحلت فدوى بعد أن سجّلت حكايتها،وخطّتها بسطورٍ عميقة،حملتها ذاكرة الشّعر وأفسحت لها ركناً عزيزاً لا تطاله يد النسيان!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.