الصفحات

أبـي يـبـكـي ! ــ قصة قصيرة || عادل المعموري

عاد أبي من الحرب ذات ليلة باردة ، وهو يحمل حقيبته، دخل علينا ببدلته العسكرية ، ليس كما عهدته بقامته المديدة وابتسامته الواثقة المرتسمة دوما على شفتيه ، أتذكّر عندما كنت صغيراً في الإبتدائية، في إحدى المناسبات، أقبل علينا مسروراً أكثر من أي وقت مضى، يقف مفتخراً وهو يشير إلى الأوسمة التي تزيَّن صدره ورتبته العسكرية الذهبية وهي تتربع على كتفيه، يشير لوسام جميل بسبَّابته وهو يقول :
_هذا الوسام.. حصلتُ عليه في حرب تشرين، عندما أنقذنا دمشق من السقوط بيد إسرائيل.والأوسمة الأخرى في حروب أخرى خاضها جيشنا بكل ببسالة .

ظلََّ يعدد لي الحروب التي خاضها على كل الجبهات العربية والمحلية ،أمي كانت تبتسم بفخر وهي تخيَّط لي زر قميصي المدرسي ، لم يعد ذاك أبي الذي أعرفه، حزن قاتم يخيم على ملامحه ، ما أن دخل صالة الإستقبال ، رمى بجسده فوق الكرسي وترك حقيبته قرب قدمه ..أخرج سيجدارة ، أشعلها وسحبَ منها نفساً طويلاً ،ثم نظر حواليه وقال لي :
_هل مازلتَ مصرّاً على التقديم.. للكلَّية العسكرية ؟
لا أعرف بماذا أجيبه ،إلاَ أنني إالتزمتُ الصمت، ربما لم أفهم مغزى سؤاله ، إنه يحمل شيئاً ما في صدره يؤلمه، كان متعباً جدا ووجهه شاحب ، يدخَّن السيجارة بعمق وترتجف شواربه ، قال لي وهو ينفث دخان سيجارته عالياً :
_هل تظن يا ولدي.. أني فخور بتلك الرتبة العسكرية النياشين والأوسمة بعد اليوم ؟
_مابك يا أبي ..ممَّ تشكو .؟!
لم يجب ، نهضَ من مكانه واتجه إلى غرفته ، يجر قدميه بصعوبة، رمى حقيبته عند إطار باب غرفته وألقى نظرة على أمي الممددة فوق السرير، وجدها تئن بصمت كعادتها، نظر إليَّ طويلا ثم تمتم:
_كيف حال أمك ؟
.نهضت من جلستي واتجهت نحوه ، :
_مازالت كما هيَّ ..يقول الطبيب لا فائدة ترجى من شفائها ..كتب لي أدوية أخرى،اشتريتها البارحة من الصيدلية ..سألتني عنك ..كأنها تعرف مجيئك ..رغم غيبوبتها المستمرة ..
_موعد إجازتي لم يحن بعد.
قالها وشرع يفك إزرار قميصه الخاكي وينزع بنطلونه ، ارتدى بيجامته وحمل بدلته ،القى نظرة إلى اسفل فتح دولابه الخاص وأخرج النياشين والجوائز، وضعها في طيات بدلته ورمى بها عبر النافذة باتجاه الحديقة، لم أشأ أن أسأله ، رغم استغرابي ممّا فعله ..كان حزيناً ، والدموع تقف عند طرف أجفانه ، مكث طويلاً ينظر عبر النافذة المطلَّة على البيوت التي تبدو شاحبة في ظلمة الليل ، ثمَّ ترك النافذة واتجه إلى الصالة، رأيته .يجلس في مكانه المعتاد ويخرج سيجارة أخرى، وطفقَ يمتصها بشراهة فيما كانت عيناه تصطيغان بلون أحمر قان ، سألته مشفقاً:
_هل أعدُّ لك طعام العشاء ؟
التفت إليَّ وثمة بريق يومض في عينيه ..بريق غريب أقلقني وتمتم:
_لا ...لا اشتهي الطعام ..أريد أن أنام .
_نم في غرفتي يا أبي ..سأجهزها لك ؟
_لا سأ نام هنا ..اجلب لي بطانية فقط .
جلبتُ له بطانية سميكة ودثرته بها ،سمعته يقول :
_شكرا .
بعد أن غطَّى وجهه كمن لا يريد أن يرى أحداً، أطفأتُ الأنوار وجلست قريباً منه ، كانت ساعة الجدارتشير إلى الساعة الثانية عشر والنصف ليلاً ..لم يكن يعلم والدي ..أني فعلا قررتُ أن أقدَّم أوراقي إلى اللجنة الخاصة بقبول طلبة الكلية العسكرية ، أني أنتظرُ فقط مكالمة تلفونية ، لأقوم بالاجراءات الأخرى للقبول .سأترك أمي في عهدة أختي للعناية بها..أختي متزوجة تسكن قريباً من دارنا .. فقد اعتادت أن تمر علينا كل يوم لتطمئن علىها ، وتقوم بمزاولة التنظيف والطبخ ..أمّا لوازم السوق فقد كنت أنا من يقوم بها، يسوءني وضع والدي فهو يعاني من معضلة كبيرة أجهلها.
أجده يائساً بشكل لم أعهده من قبل ..أبي كان مرحاً مليئاً بالنشاط والحيوية رغم كبر سنه ، حتى مرض أمي لم يكن هو السبب الرئيس لتلك الأحزان التي قلبت كيانه رأساً على عقب، ،لا أعرف كيف أستنطقه كي أرتاح ،القلق أخذ مني مأخذاً .مكثت بقربه أكثر من نصف ساعة ، لم أقم من مكاني إلاّ بعد أن سمعته يشخر،عدتُ الى غرفتي وتمددت على سريري ، مضى وقت طويل لم أستطع فيها النوم ، سمعتُ بعد ذلك وقع خطوات تقترب من غرفتي ـدفع الباب ووقف ينظرإلي.
كنتُ قد اغمضتُ عيناي نصف اغماضة ، أغلق الباب وابتعدت خطواته ، خطوتُ وراءه حافياً على أطراف أصابعي ، رأيته يفتح الباب المطلُّ على الحديقة ، يقتربُ من كومة الملابس التي رماها من النافذة ، جلس على ركبتيه وبدأ يقلب طيَّات البدلة ويمسح بأصابعه فوق الرتبة العسكرية ، ويقلَّب في كومة الأوسمة والنياشين ، ثمَّ يخرج من جيبه قداحة ويدسَّها تحت البدلة ويشعلها ، توهجت النار وبدأ لهيبها يحرق القماش ، ظلَّ مقرفصاً وهو ينظر نحو النار وهي تلتهم أشياؤه الثمينة ..سمعته ينشج بمرارة ،
ثم قام واقفاً تلفَّّت يميناً وشمالاً ، وأخرج مسدساً من تكَّة بيجامته ، أخذ ينظر إليه ملياً
رفعه ووضع فوهته على صدغه الأيمن ، قفَّ شعر رأسي ، ألجمتني المفاجأة ، ارتعدت مفاصلي ، شعرتُ أن قدميّ لا تستطيعان أن تحملاني.
ركضتُ باتجاهه، قفزت نحوه بكل مابقي لديَّ من قوَّة ،ودفعتُ بذراعه بعيدا ،فانطلقت رصاصة مزَّقت صمت الليل ، بقيتُ متمسكاً بذراعه، أدفع بها بعيدا عن جسده وأنا أصرخ باكياً ،
أرخى ذراعه وتركني ألتقط منه المسدس ، جلس على ركبتيه وبكى ، لم أسمع أبي يبكي قبل اليوم ، سحبته من كتفه وعدتُ به إلى غرفتي ، خشية أن تنتبه إليه أمي ،أجلسته على طرف سريري وجلبت له قدح من الماء .
شرب منه قليلاً ومسح بكمه دموعه ..حرَّك لي أصبعيه السبَّابة والوسطى_ يريد سيجارة _سحبَ نفساً قويا ًوقال لي :
_انسَ ماحدث ..هل فهمت ؟
أشرتُ برأسي صاغراً ..قال لي وهو يجفف دموعه وأنفه:
_انتهت حياتي العسكرية منذ الليلة ...لم أعد ضابطاً ..أنا في غنى عن هذا المسلك ...يتهمونني بالخيانة ...هم الخونة ..هم من باعوا الوطن ...لقد تعبتُ ...آن لي أن أستريح ...فكرة الإنتحار..أدرك أنها فكرة غبية ولكني لن أكون محط سخرية وشماتة لأولئك الخونة ..ماحدث معي ربما لن يحدث معك مستقبلاً .
_لم أفهم يا أبي ؟!
_التحقْ بالكلية العسكرية ..وكن ضابطاً شهماً..وإن خذلتكََ الظروف ووقفَ الجميع ضدََّك.. لا تفعل بمثل مافعلتهُ أنا هذه الليلة ؟
_وماذا أفعل ؟!
_لا تجعل ولدَكَ ......يراكَ مهزوماً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.