حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي
لجنة الذرائعية للنشر
دراسة ذرائعية باستراتيجية الاستقطاع تقدمها الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي للقصص القصيرة في المجموعة الفصصية ( إنوما إليش)
للكاتبة المصرية د.منة الله سامي
أولًا- المقدمة:
يعرّف لابيير الأسطورة على الوجه الآتي:[ الأسطورة عبارة عن شائعة أصبحت جزءًا من تراث الشعب الشفهي]
وبناء على هذا التعريف هناك آلاف الأساطير التي حكمت كلَّ الشعوب والحضارات عبر التاريخ, وإن كان لنا أن نعددها لاستهلكنا الوقت والورق والمداد, ويمكننا أن نكتفي بما أوردته كاتبتنا في مجموعتها الموسومة
ب ( إنوما إليش) حيث تناولت الأسطورة البابلية ( السومرية والآشورية) والكنعانية ( العربية ) ضمن عوالمها ( الوطن العربي).
تسمح لي استراتيجية الاستقطاع في النظرية الذرائعية أن أتخطّى التعريف بالكاتبة وبأعمالها الأدبية بالنظر للوقت المحدود لتقديم المداخلة, كما أن السيرة موجودة بالكتاب الذي نناقش فيه.
ثانيًا-البؤرة الثابتة :
عرضٌ لما آل إليه حالُ الوطن في ظلّ الربيع العربي الذي انقلب خريفًا وشتاء طويلًا, تساقطَ فيه الموتُ على البشر والحجر فقتل من قتل, وشرّد من شرّد, ووشم الروح بوشم الفقد والخواء والخوف والولَه.
ثالثًا- الاحتمالات المتحركة أو المؤجلة:
قصص قصيرة تربط فيها الكاتبة بين العوالم المختلفة على مرّ الزمان, لتقول لنا أن الحياة صورة حيّة من التاريخ, ومن ليس له تاريخ ليس له ديمومة, و في عصرنا هذا لم يبق حدثٌ لم يحدث, إلا القيامة, ولم يبقَ قول لم يُقال, ونحن ما زلنا نبحث عن تاريخنا المفقود وحضارتنا التي طمرتها الحروب في نص( تدمر), مازلنا نتمنّى أن تكون لنا ذاكرة السمكة, نتفاءل مثلها بسعادة مؤقتة في خضم الأمواج العاتية التي تمخر عبابَ الوطن المُصادَر الذي غرق أطفالُه وشيوخه, إمّا بالدم أو بمياه الغربة.
وفراق الوطن لا بدّ أن يعقبه( وَلَه) وتشرّد, السفر بعيدًا عن الوطن توازيه الكاتبة بقرين ( الهاتف والسهاد) من منظور براغماتي, أكدّت أعمدتها الرمزية بالكلام عن توالي المحطات, الحياة فيها عربة منها النازل ومنها الصاعد ولا أحد يهتم بأحد.
بعد السفر يأتي ولَه والتالي ( خواء), وهذا تسلسل منطقي إيحائيٌّ إنجازيٌّ يربط بخيط من حرير بين التشرّد والوطن, فالبعد عنه ولَه يعقبه خواء بين قبضتي الغربة والشقاء. لم يخلُ النص من الشكوى ( جففهما الاشتياق), والرمز( تبحث عن لسانها ) كناية عن الصمت المطبق, والحنين ( تتحرّق شوقًا ) وتضرّع ( تعرج في دروب السموات ).
( جان بجان ) عرض للإعاقة الفكرية والثقافية والعقائدية التي مازالت تعشعش في مجتمعاتنا التي هي بحق العقل والعلم ما زالت أميّة, تتمسّك بالخرافة وتنصاع لشياطين الإنس والجن, كما تنصاع لقشور الغرب الذي يفرض عليها (موضة) الجمال المستنسخ, أو حتى مصادرة العقول وبيعها كأعضاء نبيلة كما في نص (الجائزة).
ونعرض بالتفصيل لهذه المعاني المؤجلة في الأبواب والمداخل التالية:
1– المدخل البصري:
سأعرض بالنقد للقسم الأول من الكتاب, وهو القسم الذي حوى العمل الأدبي, عنوَنته الكاتبة ب (عوالم) اسم مفرد نكرى معناه الخلق كلّه, وهي مجموعة قصص قصيرة مكثّفة نعدّدها :(الضفة الأخرى, تدمر, وطن, ولَه, خواء, جان بجان, الجائزة), نصوص راعت فيها الكاتبة الشكل البصري للقصة القصيرة, ترتيب العنوان والسطور والجمل والفقرات, واستخدمت أدوات التنقيط, النقطة والفارزة وعلامات التعجب والاستفهام, والهوامش استخدام نموذجي.
وهي قصص وجدانية فيها حنين وتأسي على الوطن والتاريخ, بمسحة رمزية تدخلُها بالتكثيف تحت نظرية الفن للمجتمع.
البناء الفني:
• العنوان :
(إنوما إليش ) قصة الخلق البابلية أو قصيدة الخلق البابلية, من أشهر أساطير الخلق البابلية, أول من فكّ رموز هذه القصيدة ( جورج سميث), سبقتها القصة السومرية عام 3000 ق. م , ثم تبعتها نصوص بابلية حوالي 1500 ق.م, ثم آخر نص وهو الملحمة البابلية أنوما إليش في القرن السابع قبل الميلاد, وفي كل النسخ يلعب مردوخ الدور الرئيسي. الملحمة تذكّر الناس بسيادة النظام على الفوضى, ومن هنا جاء اختيار الكاتبة لهذا العنوان كدلالة إيحائية, لتكون أول العتبات عمود رمزي إيحائي, وليكون القرين الوضع الحالي المنهار لحاضرات التاريخ: بابل, تدمر, حلب, قلعة الحصن, قلعة تلعفر, قلعة بشطابيا, مكتبة الموصل, مملكة ماري, آشور ... وغيرها ممن أهدتهم الكاتبة كتابها هذا.
• الحبكة العامة للنصوص والزمكانية:
إن الحبكة العامة في معظم القصص تدور حول المرأة كمعادل موضوعي لمجتمع يعاني ويلات الحرب وتبعاتها على كل الأصعدة, النفسية والمعنوية والمادية والثقافية.
إن الزمكانية في القص القصير, فهو أشبه بلقطة فوتوغرافية, تعبّر عن زمان ومكان متوافقين, إلّا أنها في نفس اللحظة قد تمثّل تجربة زمانية كاملة, ولعلنا نميز في هذه الصورة بلدان الوطن العربي المنكوبة بويلات الحروب, بالشوارع الملغومة بالسيارات المفخخة, بتاريخ مدوّن أسفل الصورة هو وقتنا الحاضر.
في قصة ولَه تقول الكاتبة :
عين على الطريق المنشطر إلى نصفين منذ حطّمته سيارة مفخخة قبل أيام ...
أنسى الزمان ومحطة الوصول, لم يعد هناك غيري في المكان, المقاعد خاوية.
• الصراع الدرامي أوالحبكة : خارطة الأخبار والأحداث, وقد سيّرتها الكاتبة بعربة على طريق مستقيم معبّد, باتجاه واحد صاعد إلى القمة ( العقدة ) لنفاجأ بعدها بانعطاف مفاجئ, تسقط بعدها العربة نزولًا سريعًا إلى النهاية الصادمة! استشهد بقصة (الضفة الأخرى), لنلاحظ توالي الأفعال الإخبارية :
تملأ رئتيها بجزيئات الأكسجين..
ينتعش صدرها بنسمات ..
تجدّ الخطى ..
تتسابق قدماها..
تقفز قفزًا للقاء حبيبها الغائب ..
تتقدّم بخطوات ..
تحتضن رمال الشاطئ ..
فجأة تتوقّف ساقاها عن العدو ..
تداعب عيناها الأفق..
تمتد أناملها إلى أزرار قميصها..
تلقي تنورتها على الرمال...
تتقدّم تلامس أصابع قدميها المياه الباردة ..
تتجمّع في عينيها الدموع..
تستدير في عنف لتولّي ظهرها زرقة البحر ..
تعدو ..
تنشب أصابع قدميها في الرمال...
لتصل إلى طفلة تشيد قصورًا من وهم .
مقاربة رائعة بين رمال النضج والفقد و رمال الطفولة و الحلم!
• العقدة: نقطة التقاء جميع خيوط الحبكة, وعندها ينقلب مسير الأحداث رأسًا على عقب, وقد برعت الكاتبة في عقد هذه الخيوط, وثني أطرافها بعد العقدة بالاتجاه معاكس لتبقي نهاياتها حرة, في قصة ( جانٌّ بجانٍّ) نرى الكاتبة تصف بدقة حال امرأة يائسة استوطن عقلها الجهل, تظن أنها ملبوسة بجان, تحاول إخراجه والخلاص منه, بطقوس معروفة في أوساط الجهل والخرافة, وعند شيوخ السحر والشعوذة, دوران سريع على دقات الدفوف الصاخبة, هز الرأس وتلويح الشعر, وشق الثوب و تلامس جسدي ليس عفويًا أبدًا مع أجساد ذكورية, وديك يُّذبح, تسيل دماؤه فوق جلبابها وينثره شعرها على عينيها وسط الطلاسم, نصل العقدة التي عقدتها الكاتبة بإحكام: خيط الروح, خيط المحيط الخارجي, خيط الحواس, خيط الجوارح, تعقدها الكاتبة كلها بعقدة سقوطها صريعة بعيدًا عن الحل( الخلاص) : تشمئز بقايا الروح الساكنة داخلها, تدفعها النسوة لتكمل تطوافها الدائري, ينثر شعرها الدماء الطازجة على عينيها, تسيل الخطوط الحمراء على صدرها فتلتهب حواسها طالبةً الخلاص الذي يتباعد عنها, بينما تسقط صريعة على الأرض.
• الانفراج والنهاية: النقطة التي ينتهي فيها الحل, ولا يقع خلفها أي حدث آخر, وهي التي تحدّد معنى الحدث وتكشف عن دوافعه وحوافزه, لحظة التنوير النهائي للنص, أبقى على المثال السابق (جان بجان) لنجد أن عبارة (يتصارع على جسدها هياكل من عالم آخر, فتقبع روحها في استسلام وخوف ) هي فعلًا نهاية نموذجية, ما هكذا يُقاوم الجان! من يفعل مثل ذلك يعشْ أسير الخوف والخضوع.
2– المدخل اللساني:
ندرس فيه البناء الجمالي :
• الأسلوب :
الزينة التي تجمّل البناء الهيكلي أو الفني للنص, والذي يحوي العمق الأدبي بانزياحيه الخيالي والرمزي, والذي إن غاب يفقد النص خاصته الأدبية, ليبقى سردًا إخباريًا لا يعجز عنه حتى الطفل بعمر 3 سنوات...
اعتمدت الكاتبة الأسلوب الرمزي في بعض النصوص كما في (الجائزة, ولَه, خواء)
والسهل الممتنع في ( جان بجان)
والعميق ( تدمر, الوطن)
• السرد:
الطريقة اللغوية التي يخبر فيها النص ابتداء من السارد والنص المسرود ثم المتلقي المسرود له, والسرد يبتلع كل العناصر المكونة للبناء الجمالي, كل القصص مسرودة على لسان الراوي العليم.
• الحوار:
بشكل عام قليل جدًا, وإن وجد في بعض النصوص فغالبًا هو منولوج داخلي بألفاظ ملائمة وموافقة للشخصية, اعتمد التركيز والسرعة في التعبير والإيجاز.في نص ولَه نلمحه منولوج: "أتوحّد معه وأرى نموذج العشق في أيامه الأولى, أنسى الزمان ومحطة الوصول, لم يعد هناك غيري في المكان, ولا يزال السائق العاشق يلهب قلب حبيبته بكلماته, بينما يلفّ العربة صمت ثقيل ."
• الشخصيات:
بالقص القصير, الموضوع هو الكاشف عن الشخصية لا العكس, لهذا تشيع فيه ظاهرة ( البطل – الضمير ) وهي في هذه المجموعة واضحة جدًا. البطل هو المتسيّد والمتفرّد في النص, وإن وجدت شخصيات أخرى فهي من أجل دفع الأحداث باتجاه إبراز شخصية البطل.
• الوصف والصور
البلاغة وعلم البيان: والخيال وعلم البيان وعلم البديع, لا نراها في القص المكثف, بل أن جمال القص المكثف مقنّن بالعبارات الرمزية لأنه بصري, وهذا ما يسمى بالاقتصاد أو الإيجاز السردي, وهو أيضًا نوع من البلاغة,وهو عكس الإطناب الذي يعتمد على العبارات الزائدة لتأدية المعنى .
يستخدم الكاتب الأفعال بكثرة , ويقلل من الأوصاف التي تتخذ صفة الاقتضاب والاختزال والتكثيف, فخير الكلام ما قل ودل, و مع ذلك نجدالكاتبة حريصة جدّا على توشية نصوصها بالصور البيانية مشتخدمة التشابيه والاستعارات والكنايات.
من نص خواء اخترت الصور التالية:
_ تمرّ الشهور كدهر أبدي . تشبيه
- تحاول أن تحلّ وثاق شفتيها المطبقتين اللتين جففهما الاشتياق. كناية
- تبحث عن لسانها الساقط في جوفها, لا تجده! كناية
من نص (تدمر) أنتقي أيضًا بعض الصور:
- تغرق سنون العمر بين أمواجه. تشبيه بليغ
- الصخور مدبّبة الجوانب تسبح تحتي كشبح مخيف. تشبيه
- يفترش النورس رأسي, استعارة
- أقبض على قرص الشمس السابح في ظلمات اليم . استعارة
من نص وطن أعجبتني هذه الصور:
- ترنو إلى شمس تسكب أشعتها احمرارًا وهي تذبح في الأفق في بلاد بعيدة استعارة
- تتعلّق عينا الطفل بالأشعة الساقطة على الرمال الباردة. كناية
- سقطت من خلايا مخها الصغير هذه اللقطات المتتابعة لذلك الطفل الغريق. كناية
رابعًا- المداخل النظرية والعلمية :
1- المدخل الاستنباطي:
الحكم والمواعظ التي كانت مخبوءة في بعض النصوص, لم تصرّح بها الكاتبة بشكل ظاهرة, ولكنها ساقتها من خلال نهايات القصص, منها ما وجدته في نص( جان بجان) الذي ملخصه( العلم هوما نحارب به الخوف), ونص( الجائزة) والعبرة( كوني أنتِ في كل المراحل حتى لا تغادرك روحك, لا تنصاعي لموضة الاستنساخ).
2- المدخل السلوكي
3- المدخل العقلاني
أتجاوز هذين المدخلين الآخرين اعتمادًا على استراتيجية الاسترجاع.
خامسًا- الخاتمة :
أتمنى أن أكون قد قدّمت ما يشبه القراءة النقدية لهذا المؤلّف, مع تحياتي للمنصة الكريمة والكاتبة و الحضور.
#دعبيرخالديحيي
لجنة الذرائعية للنشر
دراسة ذرائعية باستراتيجية الاستقطاع تقدمها الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي للقصص القصيرة في المجموعة الفصصية ( إنوما إليش)
للكاتبة المصرية د.منة الله سامي
أولًا- المقدمة:
يعرّف لابيير الأسطورة على الوجه الآتي:[ الأسطورة عبارة عن شائعة أصبحت جزءًا من تراث الشعب الشفهي]
وبناء على هذا التعريف هناك آلاف الأساطير التي حكمت كلَّ الشعوب والحضارات عبر التاريخ, وإن كان لنا أن نعددها لاستهلكنا الوقت والورق والمداد, ويمكننا أن نكتفي بما أوردته كاتبتنا في مجموعتها الموسومة
ب ( إنوما إليش) حيث تناولت الأسطورة البابلية ( السومرية والآشورية) والكنعانية ( العربية ) ضمن عوالمها ( الوطن العربي).
تسمح لي استراتيجية الاستقطاع في النظرية الذرائعية أن أتخطّى التعريف بالكاتبة وبأعمالها الأدبية بالنظر للوقت المحدود لتقديم المداخلة, كما أن السيرة موجودة بالكتاب الذي نناقش فيه.
ثانيًا-البؤرة الثابتة :
عرضٌ لما آل إليه حالُ الوطن في ظلّ الربيع العربي الذي انقلب خريفًا وشتاء طويلًا, تساقطَ فيه الموتُ على البشر والحجر فقتل من قتل, وشرّد من شرّد, ووشم الروح بوشم الفقد والخواء والخوف والولَه.
ثالثًا- الاحتمالات المتحركة أو المؤجلة:
قصص قصيرة تربط فيها الكاتبة بين العوالم المختلفة على مرّ الزمان, لتقول لنا أن الحياة صورة حيّة من التاريخ, ومن ليس له تاريخ ليس له ديمومة, و في عصرنا هذا لم يبق حدثٌ لم يحدث, إلا القيامة, ولم يبقَ قول لم يُقال, ونحن ما زلنا نبحث عن تاريخنا المفقود وحضارتنا التي طمرتها الحروب في نص( تدمر), مازلنا نتمنّى أن تكون لنا ذاكرة السمكة, نتفاءل مثلها بسعادة مؤقتة في خضم الأمواج العاتية التي تمخر عبابَ الوطن المُصادَر الذي غرق أطفالُه وشيوخه, إمّا بالدم أو بمياه الغربة.
وفراق الوطن لا بدّ أن يعقبه( وَلَه) وتشرّد, السفر بعيدًا عن الوطن توازيه الكاتبة بقرين ( الهاتف والسهاد) من منظور براغماتي, أكدّت أعمدتها الرمزية بالكلام عن توالي المحطات, الحياة فيها عربة منها النازل ومنها الصاعد ولا أحد يهتم بأحد.
بعد السفر يأتي ولَه والتالي ( خواء), وهذا تسلسل منطقي إيحائيٌّ إنجازيٌّ يربط بخيط من حرير بين التشرّد والوطن, فالبعد عنه ولَه يعقبه خواء بين قبضتي الغربة والشقاء. لم يخلُ النص من الشكوى ( جففهما الاشتياق), والرمز( تبحث عن لسانها ) كناية عن الصمت المطبق, والحنين ( تتحرّق شوقًا ) وتضرّع ( تعرج في دروب السموات ).
( جان بجان ) عرض للإعاقة الفكرية والثقافية والعقائدية التي مازالت تعشعش في مجتمعاتنا التي هي بحق العقل والعلم ما زالت أميّة, تتمسّك بالخرافة وتنصاع لشياطين الإنس والجن, كما تنصاع لقشور الغرب الذي يفرض عليها (موضة) الجمال المستنسخ, أو حتى مصادرة العقول وبيعها كأعضاء نبيلة كما في نص (الجائزة).
ونعرض بالتفصيل لهذه المعاني المؤجلة في الأبواب والمداخل التالية:
1– المدخل البصري:
سأعرض بالنقد للقسم الأول من الكتاب, وهو القسم الذي حوى العمل الأدبي, عنوَنته الكاتبة ب (عوالم) اسم مفرد نكرى معناه الخلق كلّه, وهي مجموعة قصص قصيرة مكثّفة نعدّدها :(الضفة الأخرى, تدمر, وطن, ولَه, خواء, جان بجان, الجائزة), نصوص راعت فيها الكاتبة الشكل البصري للقصة القصيرة, ترتيب العنوان والسطور والجمل والفقرات, واستخدمت أدوات التنقيط, النقطة والفارزة وعلامات التعجب والاستفهام, والهوامش استخدام نموذجي.
وهي قصص وجدانية فيها حنين وتأسي على الوطن والتاريخ, بمسحة رمزية تدخلُها بالتكثيف تحت نظرية الفن للمجتمع.
البناء الفني:
• العنوان :
(إنوما إليش ) قصة الخلق البابلية أو قصيدة الخلق البابلية, من أشهر أساطير الخلق البابلية, أول من فكّ رموز هذه القصيدة ( جورج سميث), سبقتها القصة السومرية عام 3000 ق. م , ثم تبعتها نصوص بابلية حوالي 1500 ق.م, ثم آخر نص وهو الملحمة البابلية أنوما إليش في القرن السابع قبل الميلاد, وفي كل النسخ يلعب مردوخ الدور الرئيسي. الملحمة تذكّر الناس بسيادة النظام على الفوضى, ومن هنا جاء اختيار الكاتبة لهذا العنوان كدلالة إيحائية, لتكون أول العتبات عمود رمزي إيحائي, وليكون القرين الوضع الحالي المنهار لحاضرات التاريخ: بابل, تدمر, حلب, قلعة الحصن, قلعة تلعفر, قلعة بشطابيا, مكتبة الموصل, مملكة ماري, آشور ... وغيرها ممن أهدتهم الكاتبة كتابها هذا.
• الحبكة العامة للنصوص والزمكانية:
إن الحبكة العامة في معظم القصص تدور حول المرأة كمعادل موضوعي لمجتمع يعاني ويلات الحرب وتبعاتها على كل الأصعدة, النفسية والمعنوية والمادية والثقافية.
إن الزمكانية في القص القصير, فهو أشبه بلقطة فوتوغرافية, تعبّر عن زمان ومكان متوافقين, إلّا أنها في نفس اللحظة قد تمثّل تجربة زمانية كاملة, ولعلنا نميز في هذه الصورة بلدان الوطن العربي المنكوبة بويلات الحروب, بالشوارع الملغومة بالسيارات المفخخة, بتاريخ مدوّن أسفل الصورة هو وقتنا الحاضر.
في قصة ولَه تقول الكاتبة :
عين على الطريق المنشطر إلى نصفين منذ حطّمته سيارة مفخخة قبل أيام ...
أنسى الزمان ومحطة الوصول, لم يعد هناك غيري في المكان, المقاعد خاوية.
• الصراع الدرامي أوالحبكة : خارطة الأخبار والأحداث, وقد سيّرتها الكاتبة بعربة على طريق مستقيم معبّد, باتجاه واحد صاعد إلى القمة ( العقدة ) لنفاجأ بعدها بانعطاف مفاجئ, تسقط بعدها العربة نزولًا سريعًا إلى النهاية الصادمة! استشهد بقصة (الضفة الأخرى), لنلاحظ توالي الأفعال الإخبارية :
تملأ رئتيها بجزيئات الأكسجين..
ينتعش صدرها بنسمات ..
تجدّ الخطى ..
تتسابق قدماها..
تقفز قفزًا للقاء حبيبها الغائب ..
تتقدّم بخطوات ..
تحتضن رمال الشاطئ ..
فجأة تتوقّف ساقاها عن العدو ..
تداعب عيناها الأفق..
تمتد أناملها إلى أزرار قميصها..
تلقي تنورتها على الرمال...
تتقدّم تلامس أصابع قدميها المياه الباردة ..
تتجمّع في عينيها الدموع..
تستدير في عنف لتولّي ظهرها زرقة البحر ..
تعدو ..
تنشب أصابع قدميها في الرمال...
لتصل إلى طفلة تشيد قصورًا من وهم .
مقاربة رائعة بين رمال النضج والفقد و رمال الطفولة و الحلم!
• العقدة: نقطة التقاء جميع خيوط الحبكة, وعندها ينقلب مسير الأحداث رأسًا على عقب, وقد برعت الكاتبة في عقد هذه الخيوط, وثني أطرافها بعد العقدة بالاتجاه معاكس لتبقي نهاياتها حرة, في قصة ( جانٌّ بجانٍّ) نرى الكاتبة تصف بدقة حال امرأة يائسة استوطن عقلها الجهل, تظن أنها ملبوسة بجان, تحاول إخراجه والخلاص منه, بطقوس معروفة في أوساط الجهل والخرافة, وعند شيوخ السحر والشعوذة, دوران سريع على دقات الدفوف الصاخبة, هز الرأس وتلويح الشعر, وشق الثوب و تلامس جسدي ليس عفويًا أبدًا مع أجساد ذكورية, وديك يُّذبح, تسيل دماؤه فوق جلبابها وينثره شعرها على عينيها وسط الطلاسم, نصل العقدة التي عقدتها الكاتبة بإحكام: خيط الروح, خيط المحيط الخارجي, خيط الحواس, خيط الجوارح, تعقدها الكاتبة كلها بعقدة سقوطها صريعة بعيدًا عن الحل( الخلاص) : تشمئز بقايا الروح الساكنة داخلها, تدفعها النسوة لتكمل تطوافها الدائري, ينثر شعرها الدماء الطازجة على عينيها, تسيل الخطوط الحمراء على صدرها فتلتهب حواسها طالبةً الخلاص الذي يتباعد عنها, بينما تسقط صريعة على الأرض.
• الانفراج والنهاية: النقطة التي ينتهي فيها الحل, ولا يقع خلفها أي حدث آخر, وهي التي تحدّد معنى الحدث وتكشف عن دوافعه وحوافزه, لحظة التنوير النهائي للنص, أبقى على المثال السابق (جان بجان) لنجد أن عبارة (يتصارع على جسدها هياكل من عالم آخر, فتقبع روحها في استسلام وخوف ) هي فعلًا نهاية نموذجية, ما هكذا يُقاوم الجان! من يفعل مثل ذلك يعشْ أسير الخوف والخضوع.
2– المدخل اللساني:
ندرس فيه البناء الجمالي :
• الأسلوب :
الزينة التي تجمّل البناء الهيكلي أو الفني للنص, والذي يحوي العمق الأدبي بانزياحيه الخيالي والرمزي, والذي إن غاب يفقد النص خاصته الأدبية, ليبقى سردًا إخباريًا لا يعجز عنه حتى الطفل بعمر 3 سنوات...
اعتمدت الكاتبة الأسلوب الرمزي في بعض النصوص كما في (الجائزة, ولَه, خواء)
والسهل الممتنع في ( جان بجان)
والعميق ( تدمر, الوطن)
• السرد:
الطريقة اللغوية التي يخبر فيها النص ابتداء من السارد والنص المسرود ثم المتلقي المسرود له, والسرد يبتلع كل العناصر المكونة للبناء الجمالي, كل القصص مسرودة على لسان الراوي العليم.
• الحوار:
بشكل عام قليل جدًا, وإن وجد في بعض النصوص فغالبًا هو منولوج داخلي بألفاظ ملائمة وموافقة للشخصية, اعتمد التركيز والسرعة في التعبير والإيجاز.في نص ولَه نلمحه منولوج: "أتوحّد معه وأرى نموذج العشق في أيامه الأولى, أنسى الزمان ومحطة الوصول, لم يعد هناك غيري في المكان, ولا يزال السائق العاشق يلهب قلب حبيبته بكلماته, بينما يلفّ العربة صمت ثقيل ."
• الشخصيات:
بالقص القصير, الموضوع هو الكاشف عن الشخصية لا العكس, لهذا تشيع فيه ظاهرة ( البطل – الضمير ) وهي في هذه المجموعة واضحة جدًا. البطل هو المتسيّد والمتفرّد في النص, وإن وجدت شخصيات أخرى فهي من أجل دفع الأحداث باتجاه إبراز شخصية البطل.
• الوصف والصور
البلاغة وعلم البيان: والخيال وعلم البيان وعلم البديع, لا نراها في القص المكثف, بل أن جمال القص المكثف مقنّن بالعبارات الرمزية لأنه بصري, وهذا ما يسمى بالاقتصاد أو الإيجاز السردي, وهو أيضًا نوع من البلاغة,وهو عكس الإطناب الذي يعتمد على العبارات الزائدة لتأدية المعنى .
يستخدم الكاتب الأفعال بكثرة , ويقلل من الأوصاف التي تتخذ صفة الاقتضاب والاختزال والتكثيف, فخير الكلام ما قل ودل, و مع ذلك نجدالكاتبة حريصة جدّا على توشية نصوصها بالصور البيانية مشتخدمة التشابيه والاستعارات والكنايات.
من نص خواء اخترت الصور التالية:
_ تمرّ الشهور كدهر أبدي . تشبيه
- تحاول أن تحلّ وثاق شفتيها المطبقتين اللتين جففهما الاشتياق. كناية
- تبحث عن لسانها الساقط في جوفها, لا تجده! كناية
من نص (تدمر) أنتقي أيضًا بعض الصور:
- تغرق سنون العمر بين أمواجه. تشبيه بليغ
- الصخور مدبّبة الجوانب تسبح تحتي كشبح مخيف. تشبيه
- يفترش النورس رأسي, استعارة
- أقبض على قرص الشمس السابح في ظلمات اليم . استعارة
من نص وطن أعجبتني هذه الصور:
- ترنو إلى شمس تسكب أشعتها احمرارًا وهي تذبح في الأفق في بلاد بعيدة استعارة
- تتعلّق عينا الطفل بالأشعة الساقطة على الرمال الباردة. كناية
- سقطت من خلايا مخها الصغير هذه اللقطات المتتابعة لذلك الطفل الغريق. كناية
رابعًا- المداخل النظرية والعلمية :
1- المدخل الاستنباطي:
الحكم والمواعظ التي كانت مخبوءة في بعض النصوص, لم تصرّح بها الكاتبة بشكل ظاهرة, ولكنها ساقتها من خلال نهايات القصص, منها ما وجدته في نص( جان بجان) الذي ملخصه( العلم هوما نحارب به الخوف), ونص( الجائزة) والعبرة( كوني أنتِ في كل المراحل حتى لا تغادرك روحك, لا تنصاعي لموضة الاستنساخ).
2- المدخل السلوكي
3- المدخل العقلاني
أتجاوز هذين المدخلين الآخرين اعتمادًا على استراتيجية الاسترجاع.
خامسًا- الخاتمة :
أتمنى أن أكون قد قدّمت ما يشبه القراءة النقدية لهذا المؤلّف, مع تحياتي للمنصة الكريمة والكاتبة و الحضور.
#دعبيرخالديحيي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.