لا أجد له اسما لائقا، لذا سأسميه مؤقتا ولع ... بل هوس القوالب. ذاك الهوس الذي يدفع الفتيات لأن يكنَّ نسخا "سيليكونية" مكرورة. لا أريد تحليل أسباب الظاهرة، ولا لعن العولمة، ما أريده هو أن أستدعي قامة الشاعر إبراهيم طوقان، فما قاله يمكنه أن يطبب بعض ما يحدث.
كتب طوقان قصيدة مطلعها "وغريرةٍ في المكتبة"، وهي من أجمل القصائد الغزلية برأيي. في تراثنا الشعري احتشاء من شعر الغزل، وشخصيا صرت نادرا ما استسيغ قصيدة غزلية،
لأن كثرتها أفقدتها قيمتها، فـ"زر غبا تزدد حبا" كما جاء في الحديث الشريف.
مهما أتى شعراء الغزل بصور جديدة ومبهرة، تظل البواعث ثابتة؛ التغني بجمال المتغزل بها، جمالها المثالي الذي يضاهي هذا ويناهز ذاك أو يفوقه. لهذا تأتي قصيدة طوقان لتخط خطا مختلفا، وتقدم فرصة للرجال والنساء على حد سواء كي يتعرفوا على أسلوب جديد للنظر إلى الجمال المستحق للإعجاب. في القصيدة يذهب الشاعر إلى مكتبة، فيفاجأ بفتاة جميلة تقرأ كتابا، فيُؤخذ قلبه بها، ويقول:
وَغَرِيـرَةٍ في المَكْتَبَــة *** بِجَمَالِـهَا مُتَنَقِّـبَةْ
أَبْصَرْتُهَا عِنْدَ الصَّبَـاحِ *** الغَضِّ تُشْبِـهُ كَوْكَبَهْ
جَلَسَتْ لِتَقْرَأَ أَوْ لِتَكْـ *** ـتُبَ مَا المُعَلِّـمُ رَتَّبَـهْ
فَدَنَوْتُ أَسْتَرِقُ الخُطَـى *** حَتَّى جَلَسْتُ بِمَقْرُبَةْ
وَحَبَسْـتُ حَتَّى لا أُرَى *** أَنْفَاسِـيَ المُتَلَهِّبَـةْ
حتى الآن لا جديد. شاعر مُترع بفيض من العاطفة لم يسمع كلام المتنبي "عرضًا نظرتُ وخلتُ أنيَ أسلمُ"، يلمح مليحة فلا يغض بصره، فيتعلّق القلب. لكن ثمة شيء مختلف هنا. فهي ليست فتاة جميلة وصغيرة تتثنى في الطريق أو السوق. تُيّم طوقان المسكين بمشهد غير مألوف لدى المتغزلين، مشهد وإن انطلق من جمال الشكل، لكنه حلق بعيدا عن صورة المرأة-الجسد، المرأة –الغواية، كان مفتونا بمشهد الفتاة التي تمسك كتابا، فقال:
يَا لَيْـتَ حَـظَّ كِتَابِـهَا *** لِضُلُوعِـيَ الْمُتَعَذِّبَـةْ
حَضَنَـتْهُ تَقْرأُ مَـا حَـوَى *** وَحَنَتْ عَلَيْهِ وَمَا انْتَبَـهْ
فَـإِذَا انْتَهَـى وَجْـهٌ ونَـا *** لَ ذَكَاؤُهَا مَا اسْتَوْعَبَـهْ
سَمَحَـتْ لأَنْمُـلِهَا الجَمِيـ *** ـلِ بِرِيقِهَا كَيْ تَقْلِبَـهْ
هل لاحظتم ما يقول في البيت الأخير؟ تبا! إنه يستعذب هذه التصرف الهمجي الذي تنهى الأمهات بناتهن عنه، وينهى المجتمع، وينهى "الأتيكيت"! كان تلعق طرف إصبعها وتقلّب الصفحات. لكن طوقان يستمر في استمرأ تلك الصفات الممجوجة عرفا في فتاته تلك. وها هو في الأبيات القادمة يهيم بسنها المكسورة!
وَرَأَيْـتُ في الفَـمِ بِدْعَـةً *** خَـلاّبَـةً مُسْتَعْذَبَـةْ
إحْـدَى الثَّـنَايَا النَّـيِّـرَا *** تِ بَدَتْ وَلَيْسَ لَهَا شَبَهْ
مَثْلُـومَـةً مِـنْ طَرْفِهَـا *** لا تَحْسَبَنْهَـا مَثْلَبَـةْ
هِيَ لَوْ عَلِمْـتَ مِـنَ الْـ *** مَحَاسِنِ عِنْدَ أَرْفَعِ مَرْتَبَةْ
هِيَ مَصْدَرُ السِّيْنَاتِ تُكْـ *** سِبُهَا صَدَىً مَا أَعْذَبَـهْ
إحدى الثنايا (وهي القواطع) في فم هذه الفتاة مكسورة الطرف، وهذا الكسر لا يؤثر على شكلها وحسب، بل يجعل نطقها للسين معلولا. وشاعرنا –ويا للعجب- يرى كل هذه أمورا مستحسنة، بل يرى أن الكسر في سنها هو أرفع مراتب الجمال! وهذا يعني أن الشاعر توّلع بها ليس لجمالها -وإن ظنّ ذلك بداية- بل لتلك الصورة غير النمطية لفتاة تجلس تقرأ في مكتبة.
ومثله ابن حزم الأندلسي يوم هام بجارية أندلسية شعرها أشقر، في مجتمع يرى أن سواد الشعر هو المعيار، وفي ظل إرث شعري يقدس الشعر الأليل، فقال:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها *** فقلت لهم هذا الذي زانها عندي
إنه جمال الاختلاف، وكم نعوز هذا النوع من الجمال. الجمال الذي لا يقدّره المجتمع، ولا القوالب المتوارثة المستبدة عن مفهوم الجمال، ولا يقدره الإعلام ولا ترساناته ومَحَادِله. نحن في عالم تحول فيه الجمال إلى ديكتاتور، يحكم كل شيء، ديكتاتور غير مستنير، بقوالبه التي يروم خنق الناس بها. الجمال ليس الكمال، كل جمال يحتاج إلى نقص كي يكون جمالا، وإلا انتقل إلى مرتبة أخرى لا يجوز أن تستخدم كلمة الجمال لوصفها.
بعد علمنا بكل كل هذه الصفات، هل كانت تلك الفتاة ذات السن المكسورة والتي تتصرف على سجيتها، هل كانت حقا جميلة؟ أم أن شاعرنا شُبِّه له؟ لَم نرها لنحكم، لكن لا يمكننا أن ننكر تلك الصورة غير المعتادة لفتاة تجلس لتقرأ أو تدرس هي ما جعلته يستحسن جمالها قل أو كثر، وهي ما جعلته يراها تشبه كوكب الصباح. ولو رآها في كامل زينتها في سياق آخر، لقال عنها مثلومة السن صبيانية التصرفات. قد لا يكون الشاعر واعيا بما حدث له، لكن المراقب الحذق يمكنه أن يستنتج. وهذه رسالة تقول أن جزءا كبيرا من إدراكنا لجمال الشكل مرتبط بأمور أخرى غير المقاييس الشكلية. حسن المعاملة مثلا نوع من أنواع الخداع البصري! والكلمة الطيبة تسبب قصر النظر، والمغايرة والمفارقة تجعل فتاة مشوهة النطق والأسنان واللباقة تخلب لب الشاعر المسكين!
أرى أنّه يجب أن تعلق نسخة من هذه القصيدة في جميع عيادات تقويم الأسنان وعيادات جراحات التجميل. وعلى الأطباء حفظ هذه القصيدة وتسميعها جزءًا من أدائهم لقَسَم الأطباء!
وعلى كل فتاة أن تعلق نسخة منها قرب مرآتها، حتى تعيد النظر في المال والوقت الذين تنفقهما في التدليس، وتفكر في شيء آخر تتوجه إليه. من أرادت أن تخلد شعرا، فعليها بالعلم، ومن أرادت أن تخلد باعتبارها وجها وجسدا فعيادات التجميل كثيرة، وليتشابه البقر!
حياة الياقوت
كتب طوقان قصيدة مطلعها "وغريرةٍ في المكتبة"، وهي من أجمل القصائد الغزلية برأيي. في تراثنا الشعري احتشاء من شعر الغزل، وشخصيا صرت نادرا ما استسيغ قصيدة غزلية،
لأن كثرتها أفقدتها قيمتها، فـ"زر غبا تزدد حبا" كما جاء في الحديث الشريف.
مهما أتى شعراء الغزل بصور جديدة ومبهرة، تظل البواعث ثابتة؛ التغني بجمال المتغزل بها، جمالها المثالي الذي يضاهي هذا ويناهز ذاك أو يفوقه. لهذا تأتي قصيدة طوقان لتخط خطا مختلفا، وتقدم فرصة للرجال والنساء على حد سواء كي يتعرفوا على أسلوب جديد للنظر إلى الجمال المستحق للإعجاب. في القصيدة يذهب الشاعر إلى مكتبة، فيفاجأ بفتاة جميلة تقرأ كتابا، فيُؤخذ قلبه بها، ويقول:
وَغَرِيـرَةٍ في المَكْتَبَــة *** بِجَمَالِـهَا مُتَنَقِّـبَةْ
أَبْصَرْتُهَا عِنْدَ الصَّبَـاحِ *** الغَضِّ تُشْبِـهُ كَوْكَبَهْ
جَلَسَتْ لِتَقْرَأَ أَوْ لِتَكْـ *** ـتُبَ مَا المُعَلِّـمُ رَتَّبَـهْ
فَدَنَوْتُ أَسْتَرِقُ الخُطَـى *** حَتَّى جَلَسْتُ بِمَقْرُبَةْ
وَحَبَسْـتُ حَتَّى لا أُرَى *** أَنْفَاسِـيَ المُتَلَهِّبَـةْ
حتى الآن لا جديد. شاعر مُترع بفيض من العاطفة لم يسمع كلام المتنبي "عرضًا نظرتُ وخلتُ أنيَ أسلمُ"، يلمح مليحة فلا يغض بصره، فيتعلّق القلب. لكن ثمة شيء مختلف هنا. فهي ليست فتاة جميلة وصغيرة تتثنى في الطريق أو السوق. تُيّم طوقان المسكين بمشهد غير مألوف لدى المتغزلين، مشهد وإن انطلق من جمال الشكل، لكنه حلق بعيدا عن صورة المرأة-الجسد، المرأة –الغواية، كان مفتونا بمشهد الفتاة التي تمسك كتابا، فقال:
يَا لَيْـتَ حَـظَّ كِتَابِـهَا *** لِضُلُوعِـيَ الْمُتَعَذِّبَـةْ
حَضَنَـتْهُ تَقْرأُ مَـا حَـوَى *** وَحَنَتْ عَلَيْهِ وَمَا انْتَبَـهْ
فَـإِذَا انْتَهَـى وَجْـهٌ ونَـا *** لَ ذَكَاؤُهَا مَا اسْتَوْعَبَـهْ
سَمَحَـتْ لأَنْمُـلِهَا الجَمِيـ *** ـلِ بِرِيقِهَا كَيْ تَقْلِبَـهْ
هل لاحظتم ما يقول في البيت الأخير؟ تبا! إنه يستعذب هذه التصرف الهمجي الذي تنهى الأمهات بناتهن عنه، وينهى المجتمع، وينهى "الأتيكيت"! كان تلعق طرف إصبعها وتقلّب الصفحات. لكن طوقان يستمر في استمرأ تلك الصفات الممجوجة عرفا في فتاته تلك. وها هو في الأبيات القادمة يهيم بسنها المكسورة!
وَرَأَيْـتُ في الفَـمِ بِدْعَـةً *** خَـلاّبَـةً مُسْتَعْذَبَـةْ
إحْـدَى الثَّـنَايَا النَّـيِّـرَا *** تِ بَدَتْ وَلَيْسَ لَهَا شَبَهْ
مَثْلُـومَـةً مِـنْ طَرْفِهَـا *** لا تَحْسَبَنْهَـا مَثْلَبَـةْ
هِيَ لَوْ عَلِمْـتَ مِـنَ الْـ *** مَحَاسِنِ عِنْدَ أَرْفَعِ مَرْتَبَةْ
هِيَ مَصْدَرُ السِّيْنَاتِ تُكْـ *** سِبُهَا صَدَىً مَا أَعْذَبَـهْ
إحدى الثنايا (وهي القواطع) في فم هذه الفتاة مكسورة الطرف، وهذا الكسر لا يؤثر على شكلها وحسب، بل يجعل نطقها للسين معلولا. وشاعرنا –ويا للعجب- يرى كل هذه أمورا مستحسنة، بل يرى أن الكسر في سنها هو أرفع مراتب الجمال! وهذا يعني أن الشاعر توّلع بها ليس لجمالها -وإن ظنّ ذلك بداية- بل لتلك الصورة غير النمطية لفتاة تجلس تقرأ في مكتبة.
ومثله ابن حزم الأندلسي يوم هام بجارية أندلسية شعرها أشقر، في مجتمع يرى أن سواد الشعر هو المعيار، وفي ظل إرث شعري يقدس الشعر الأليل، فقال:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها *** فقلت لهم هذا الذي زانها عندي
إنه جمال الاختلاف، وكم نعوز هذا النوع من الجمال. الجمال الذي لا يقدّره المجتمع، ولا القوالب المتوارثة المستبدة عن مفهوم الجمال، ولا يقدره الإعلام ولا ترساناته ومَحَادِله. نحن في عالم تحول فيه الجمال إلى ديكتاتور، يحكم كل شيء، ديكتاتور غير مستنير، بقوالبه التي يروم خنق الناس بها. الجمال ليس الكمال، كل جمال يحتاج إلى نقص كي يكون جمالا، وإلا انتقل إلى مرتبة أخرى لا يجوز أن تستخدم كلمة الجمال لوصفها.
بعد علمنا بكل كل هذه الصفات، هل كانت تلك الفتاة ذات السن المكسورة والتي تتصرف على سجيتها، هل كانت حقا جميلة؟ أم أن شاعرنا شُبِّه له؟ لَم نرها لنحكم، لكن لا يمكننا أن ننكر تلك الصورة غير المعتادة لفتاة تجلس لتقرأ أو تدرس هي ما جعلته يستحسن جمالها قل أو كثر، وهي ما جعلته يراها تشبه كوكب الصباح. ولو رآها في كامل زينتها في سياق آخر، لقال عنها مثلومة السن صبيانية التصرفات. قد لا يكون الشاعر واعيا بما حدث له، لكن المراقب الحذق يمكنه أن يستنتج. وهذه رسالة تقول أن جزءا كبيرا من إدراكنا لجمال الشكل مرتبط بأمور أخرى غير المقاييس الشكلية. حسن المعاملة مثلا نوع من أنواع الخداع البصري! والكلمة الطيبة تسبب قصر النظر، والمغايرة والمفارقة تجعل فتاة مشوهة النطق والأسنان واللباقة تخلب لب الشاعر المسكين!
أرى أنّه يجب أن تعلق نسخة من هذه القصيدة في جميع عيادات تقويم الأسنان وعيادات جراحات التجميل. وعلى الأطباء حفظ هذه القصيدة وتسميعها جزءًا من أدائهم لقَسَم الأطباء!
وعلى كل فتاة أن تعلق نسخة منها قرب مرآتها، حتى تعيد النظر في المال والوقت الذين تنفقهما في التدليس، وتفكر في شيء آخر تتوجه إليه. من أرادت أن تخلد شعرا، فعليها بالعلم، ومن أرادت أن تخلد باعتبارها وجها وجسدا فعيادات التجميل كثيرة، وليتشابه البقر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.