الصفحات

جــواد غلوم و إنــــاقةُ القصيـــــــــد 1 ـ 2 ـ 3 || هاتف بشبوش

1
أراني مغتبطًا وجذلاً وأنا أقرأ لشاعرٍ أمضى شوطا كبيرا في لغةِ البوح وآلام السّياسة والحياة التي تضيقُ وتثقُل بنا في معظم الأحيان حتّى نشعر أنّ أجسادنا لا تستطيع حمل ثيابنا .
شاعرٌ يكمن وراء الجمالات والخصوصيات التي تُجبرنا على أنْ نلتفتَ ونقرأ جواد غلوم الكامن وراء فطحلته.
هذا الجواد لم يجزع من يساريته رغم كلّ ما أصاب الشيوعيّة من انكساراتٍ في عالمٍ باتَ خطراً للغاية من جرّاء استفراد الإمبريالية العالمية .
شاعر ازداد ألقًا بعد تخطّي الخامسة والستين وازداد حزنًا بعد مصابه الأخير في موت الحبيبة والزّوجة رفيقة الحبّ الطّويل التي أعطته مصل الاستمرار في النّضال والإصرار والتّحدّي ثمّ ودّعته و إلى الأبد باكيا متوجّعا على إثرها ذارفا الدّمع فوق قبرها عند صحراء النّجف حيث رقدتْ هناك كما سنبيّن لاحقا.

في عام 1949 هبّ النّسيم النجفي ليبشر ذوي الشّأن بقدوم بشارة ذكوريّة التي أطلقتْ بُكاءها الأوّل قبل أنْ تُسمّى جواد غلوم ،نشأ هناك بكلّ شقائهِ وأفراحه ثمّ استقرّ في بغداد الكاظمية حتّى حصل على البكالوريوس في الآداب قسم اللّغة العربيّة ثمّ عرفناه مُدرّسا في السبعينيات، صحفياً وناشرا في طريق الشّعب والفكر الجديد والتآخي، ثمّ هاجر إلى ليبيا نتيجة التعسف الصدامي وعاد إلى العراق بعد سقوط الصنم .
صدرت له ثلاث مجموعات شعريّة: حبال لأرجوحة متعبة ثمّ حكاية الميمك الحزين و حبّ امتناع لامتناع ثمّ كتاب (مذكّرات مثقف عراقي أوان الحصار).
الشّاعر جواد محبٌّ وفيّ للمرأة على الدّوام ولذلك حينما نقرأ له نتعرّف على كلّ المشوّقات التي تدخلنا في العوالم غير المألوفة،عالم اللّمسات النّاعمة التي تُؤطّر أعناق النّساء وعيونهنّ الصّادحات بالإثارة والحبّ والحنان معا ، وكلّ ما يتعلّق مع فنّ التّجميل الذي بإمكانه أن يُغيّر من شكل المرء سواء إن كان رجلا أم امرأة ، ولذلك راح يتصوّر في مخيّلته الواسعة من أنّ المرأة هي القصيدة أو القصيدة هي المرأة فراح يضيف إليهما كلّ ما يراه مُثيرا في صالونات التّجميل ليس للمظهر الكاذب الذي يخفي وراءه عكس ما نراه بل مثلما نزيّن طفلاً لغرض التّباهي بالاهتمام الحقيقيّ من قبلنا اتّجاه الطّفولة . أو مثلما جوني ديب الممثّل الوسيم الذي عمل في أحد أفلامه ( يد أدوارد المقصية Edward Scissorhands 1990) مشذبا لشعور النّساء وخصوصا العجائز فيجعلها تبدو وكأنّها تخطّت عامل الزّمن عكسيّا وسرقت من سنين العمر فرجعت نظِرة جذّابة تليقُ بغرامٍ جديد. لنقرأ الشّاعر في نصّه البديع (في صالون تجميل القصيدة ) :

صديقي الشّاعر الذي أحبّ
أراك تلفّعتَ بإزارك الأبيض
كمّمتَ فمَك وشحذتَ مشرط قلمك
أصقلتَ مراياك بوَرَقِ القلب
نشرتَ الإضاءة في صالة ذكرياتك
ها أنت تجهز لتزفّ قصيدتك إلينا
تُلبسها وشاحها الليلكيّ الغارق بالعطر
وتصفّف شَعرها الناعم الأملس
معذرةً وأنا القارئ المشوّق لطلّتها
أتوسّل إليك وأنا تلميذك المطيع
لا تلقم القصيدة كلماتٍ مترهّلة
لئلاّ تصاب بالتخمة

جمالية عنوان النصّ جاذبة للنّاقد والقارئ على حدّ سواء الموسوميّة الجميلة كانت المدخل والباب إلى الجنّة التّالية إذا كانت الباب هكذا في مستوى إبهارها، حتما ستكون الدّواخل في غاية الرّوعة. المدخل له من الأهميّة للنّواظر المارقة مثلما لطلّة النّساء في وجوههنّ ، صبوحات أم مسائيات أم حالكات مكفهرات. الباب كان من الأساسيات لدى أحد الفلاسفة اليونانيين وهو الشّهير ( أفلاطون ) كان يضع في مدخل الجامعة لوحة تقول ( لا تقترب يا مَن ليس لك علماً في الرياضيات ).
أنثوية النصّ التي تتلاءم والبوح المتتالي الذي رأيناه في أجواء القصيدة بأكملها بحيث أدخلها جواد في صالون التّجميل ومن تدخل لا يمكنها أن تخرج كما كانت بل تظهر في شكلها الآخر التي أراد لها الشّاعر جواد أن تكون.
في بداية القصيدة نجد هناك مخاطبة رائعة للصّديق الأحبّ على قلب الشّاعر ، فلكلّ امرئ صديقٌ يذكره للتّأريخ، الشّاعر خلدون جاويد صديقا وفياً حينما كتب نصّا عزائياً يواسي به جواد غلوم بعنوان (مواساة الشاعر جواد غلوم ) الشّاعر عبد الفتاح المطلبي وصف صديقا له بالغادر في نصّه ( ظننتك لي أخاً) وهناك صديق سارق وصفه الشّاعر يحيى السماوي وهناك من يقول (ينبغي مدّ أيدينا للصّديق دون طيّ الأصابع ...ديوجين).
الصّداقة لا تُبنى على رؤية الأشخاص أنفسهم بانتظام و حسب بل إنّها الالتزام والوعود والثقة المتبادلة مع شخص قادر على أن يفرح بسعادة الآخر، وهناك من يقول من أنّ الصّداقة هي الشّكل الأخلاقي من الآيروتيك، كثيرة هي الأمثلة عن الصّديق بكلّ تجلياته.
يستمرّ الشّاعر في وصف القصيدة التي لابدّ لها أن تخرج من صالون البوح كما العرائس وأن تتزيّن بالأنامل الخبيرة في فنّ تجميل القصيدة أو تجميل النّساء لأنّ الأنامل هي الأساس في صبّ البوح من الدّماغ (من أطراف أصابعي ينساب نهر) وهي الأساس في وضع اللّمسات الخفيفة في وجوه وأجساد النّساء. وهنا الشّاعر يريد أن تحتوي القصيدة الحقيقيّة كلّ المعاني التي يتوجّب أن تكون في الشّاعر الحقيقيّ الذي يئنّ مع النّاس ويفرح معها لأنّها هي الهويّة الرئيسيّة التي من خلالها التعرّف على الشّاعر و رسالته . قد تكون القصيدة متخمة بالخزعبلات أو الكلام الفارغ الذي يشي عن عدم القدرة في بثّ روحٍ جميلةٍ في جسد القصيدة الرّشيق بحيث تتلاءم و روح العصر السّريع . لنقرأ ماذا يقول جواد أدناه بهذا الخصوص من نفس النصّ:

ليكن جسد القصيدة رشيقا
أهيفَ القامة ، خاليا من النّحول
مشذّباً من البدانة
خذْ من دهان الكلمات أكثرَه ليونةً ونضارة
ضع زِنّاراً من حروفٍ مزركشةٍ على خِصرها
اقصصْ من شَعرها الهائج ما كثّ وتجعّـدَ
أنثرْهُ أمام مرآةٍ كوافير متقنة النّصاعة

هنا أرى جواد قد وصف الجمالات التي زيّنها فأعطتنا العلاقة التبادليّة بين اللّوحة والشّاعر بين دافنشي و الموناليزا ، بين إيغون شيلي وكلّ أعماله العارية، بين جواد سليم ونصب الحريّة، بين جواد غلوم وصالون القصيد لأنّه الشّاعر و الرّجل الذي يحترم المرأة وهذا النّوع من الرّجال غالبا ما تراه هماما مقداما لأنّ المرأة في حياته هي المحرضة على التّفاني بشتّى أنواعه ... ولذلك نرى جواد كان متماهيا للغاية من خلال هوية أشعاره وبوحه الجليّ دون أيّ مواربة أو تورية تحجبه عنّا أو تجعله غامضا بعيدا عن فهمنا الحقيقي:

إيّاك أن تفرط في زرق إبرِ " البوتوكس"
لئلاّ تَـثقل شفتاها، وتتعثّر في النطق
خوفي أن تنتـفخَ طلعتها وتـلثـغ
فتكون مثار استهزاء القارئ
أزلْ ما علق من دمامل الكلمات الناشزة
استأصلْ بقايا الثالول بحِبْرٍ حارق
لترشق امام من يهواها
ويشتهي الانصات لنغماتِ حروفها
يتطلّعُ لرشاقتها كعاشقٍ في أوّلِ لقائهِ بأنثاه
يراها مثل منحوتةٍ جميلة تأسرُ ناظريه
تتمشّى في أوصالهِ مثل نشوةٍ
لا تدري أين تحطّ
تتلاعبُ غنَجا وقفزا في خيال جامح
وتستقرّ اخيرا في ارجوحةٍ عائمة بين القلب والعين

يقول أوسكار وايلد من أنّ الحياة لها روائعها مثل الشّعر والنّحت والرّسم. و لذلك أراد جواد من خلال إدخال القصيدة صالون التّجميل كي يغرز فيها الحياة ومن ثمّ يستمتع بمظاهرها الخلابة والمبهرة و روائعها التي تتجسّد بمعانيها الإنسانية.
جواد ألبسَ القصيدة ( المرأة ) فستان العرس وأصرّ على تجميلها في الصّالون الذي هو بمثابة التّنقيح للقصيدة قبل اعتمادها بشكلها النّهائي لكنّه يخاف على القصيدة من داء القلاب مثلما يخاف على شفتي المرأة من جرعة زائدة للبوتوكس ،حقّا يجب أن تكون القصيدة هكذا لأنّها مؤنثة وصدق من أطلق عليها بالقصيدة ( أنثى) لا تعبيرا ذكوريّا و إلاّ كنّا أصبنا بالدّوار من شكلها المُتخم ذي الكرش ،هنا دعوة من الشّاعر من أنّنا نقرأ بعض قصائد اليوم التي تسدّ النّفس فنراها بدون أيّ شكل أو معنى نستطيع من خلاله أن نقرأ ما يفيدنا كي نُغيّر من هذا العالم المتردّي.
مستوى جودة بعض القصائد يثير القيء على شاكلة ( وقفت على البابِ راكضةً / تبكي ضاحكة بعينيها المغلقتين والمفتوحتين من الضياء ) .. لا أعرف كيف واقفة وراكضة وكيف تبكي و تضحك لكنّ الشّاعر الواهن سيقول لك من أنّها معنى مجازي ورمزي مكثّف لكنّني أقول إنّما هذا يدلّ على ضعف القوّة الشعريّة والبصيرة والخيال والبوح في آنٍ واحد.
نحن في عالم محطّم وقبيح يتوجّب علينا تلميعه حتّى القصيدة التي نتفوّه بها يجب علينا ترميمها كي نستطيع أن نقف بها أثناء تقديمنا لها في المهرجانات فيجب أن تكون بمستوى المرأة ( القصيدة ) الخارجة من صالون جواد غلوم كي تستقرّ في القلب والعين ومصدر السّمع وفي قضيّة الوطن الأساسيّة التي لا يمكن أن تغيب عن شمس أيّ شاعر وطنيّ و حقيقي على شاكلة جواد غلوم الذي أنهى ردحا كبيرا من حياته في حبّ الوطن واليسار ، فلنقرأ ماذا قال بخصوص ذلك في نصّه (قبلاتٌ بشفاهٍ ريّا لوطنٍ بلا وجه) :

الجـــــزء الثانـــــــي

مالك تمشي وئيدا مثل سلحفاة هرمة ؟؟
حرائقك خلّفت رمادا وافراً
تضبّعتَ حتى خنقتَ أجمل بطاريقَك
لاتخنقْ رقابَنا الحانية عليك
أتوسّل اليك ، لم يبقَ الاّ الزغب ليّنة العريكة
لم يلد الاّ الخديج المثلوم العمر
حتّام لا ترفقُ بأنجالِـك وأحفادك
يا ذا الوطن المتبختر بالكآبة
المحمّل بالزوائد الدوديّة
سحقتَ بنيكَ نحن العالقون بأبوّتك
يا من تمشي عَرَجا
وتركْتني عاريا الاّ من الحبّ المخبول فيَّ


هناك من يفكر أن يكون ضبعا أو سمكة قرش تأكل ولاتؤكل في زمنٍ يكون النكوص فيه قد أخذ منحىً مؤلماً ، بحيث أنّ الأمهات لم تنجب غير السحالي واليقطينات والسلاحف وكل ما هو مشوه على غرار( إيتي) ذلك المخلوق الفضائي المرعب في شكله والطيب في روحه وأخلاقه الذي شاهدناه في عالم السينما والخيال العلمي .
حينما نقرأ للشاعر جواد نجد أنّ كلاً من الحلم والطوباوية من الممكن أنْ يكونا واقعا حقيقيا ، ومن السهل في كثيرمن الأحوال أن يطغي جانب الخير على جانب الشر في السريرة الإنسانية على الرغم من انها على مر العصور خلقت لنا الكثير من مصاصي الدماء على غرار فرانكشتاين ودراكولا وصدام وداعش وغيرهم من الرموز الشريرة التي جسدها الفن السابع أيام المخرج العالمي الشهير هتشكوك وأفلام الممثل البارع كلاوس كنيسكي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم .
كل هذه التداعيات بين الوطن والحب والبوح الذي يخرج على شاكلة الشحن والتفريغ تبعا لما تمتليء به قريحة الشاعر المهمومة ، خلقت لنا جواد غلوم شاعرا محبا للثورة والثوار كما في النص الآتي ( سيكارُ هافانا بفم البهلوان) :

رغبتُ ، في لحظة زهوٍ وخيلاء
أن اشفط شهيقاً من سيجار" كوهيبا " النفيس (*)
وان أغادرُ مرارة المكدودين في" طريق التبغ " (*)
أشْتمُ "ارسكين كالدويل " وزبانيته المسحوقين
أعيش في أحراش" بوليفيا "
أبحر في الكاريبي
لكني ضحكت على نفسي
واستعدْتُ توازني
يوم رأيت الديكتاتور الأهوج
ينفخ أوداجه على شاشة التلفاز
ويتشبه بتيجان العظماء أسياده
يومها اختنقتُ بالقهقهات
بكل ما أُوتيَ فمي من قوة
صرختُ بوجههِ:
ما أنت سوى لوثةٍ
طفحتْ يوما ما مع زبَد البحر
نشرتْ زفْرتَها في شميمٍ بلادي الطاهرة
أيّها الذيلُ المسموم
أسيادُك قطعوا إبرتك اللاسعة
لن تكونَ " تشي " الوسيم المبهج
مادامتْ رعيتُك تعلكُ التراب
تمضغُ الحصى
لأنك رعديدٌ تخافُ عواءَ الذئاب

نص ساخرُّ جميل ليس في شكل القصيد وبنائه فقط وإنما في التنوع الذي نقرؤه من حيث اللمسات الثورية التي تبدو واضحة من السرد الذي يعلن الشاعر فيه هويته وبدون تردد من أنه ذلك الأممي الذي يسير على حب الناس والوطن وحلمه الأبدي في بناء مجتمع حر وسعيد . أضف الى ذلك خبرة الشاعر في تحديد مايريد قوله يأيجاز عند إيصال المعلومة الى القارئ بسلاسة بارعة بحيث تشد القارئ في الإستمرار في قراءة النص حتى السطر الأخير . نص فيه من التشعبات الكثيرة التي جعلته عبارة عن سلسلة لايمكن فصل إحدى حلقاتها عن الأخرى . أنه النص الجيفاري ، انه السيكار الكوبي الذي يخص فمَ الثائر مالئ الدنيا وشاغلها ( أرنستو تشي جيفارا) الثائر الذي أضحى فارس أحلام الثوريين ، هناك فارس أحلام الفتيات وهناك من يحلم بإمرأة أبدية تقف على التل وتؤشر له أنْ تعال ، لكن هنا و في هذا النص الجميل يقف جيفارا شامخا حياً من جديد كفارس أحلام ، يعطينا دفق الحياة . يعلمنا كيف نشهق و نرسم صورة أمام السرمدية ونحن بهذا السيكار . حلمُّ مميز للغاية ، أنه خارج أسوار المألوف ، أنه الحلم الذي يصولُ بنا كي ندخل حلبة الشهادة في سبيل الوطن والأوطان .
يبوح الشاعر جواد بعظمة الثائر جيفارا تلك التي خلّفها وراءه ، حتى في سيكاره ، وكأنّ الدخان النافث منها يتكلّم حول ما يكده الفقراء في حدائق أمريكا القذرة وهنا ينقلنا الشاعر للإستفادة والتعريج على الروائي الأمريكي الشهير (أرسكال كوريل) وروايته ( طريق التبغ) و الحديث عن الفلاحين الفقراء وسرقة أتعابهم هناك . ثم الإطلاع على نوع التبغ الأجود في كوبا ( كوهيبا) ، ذلك النوع الذي تصنعه العذراوات اللاتي بقي البطل كاسترو حتى مماته يدافع عن شرفهن من الغول الأمريكي الذي يريد أنْ يتغلغل في السوق الكوبي بحجة الإستثمار ، لكن كاسترو وقف صارخا وأمام حشر من النساء الكوبيات والمزارعات وقال لهن ( أنّ أمريكا تريد مني أن أجعل الأمريكي يأتي هنا ويستأنس بكنّ ويلهو مقابل حفنة من الدولارات ، فهل انتنّ صاغرات لهكذا دعوات ) جميع العذراوات صرخن بالضد من أمريكا ، ونحن معك ياكسترو، يا ابانا الصامد . ثم يكرر كاسترو للعذراوات ( يقولون لي أنني كاتم على أنفاسكنّ ، من تريد ومن يريد الخروج من كوبا فليخرج ، وبالفعل خرج بعض الكوبيين ولكنّ قساوة أمريكا أرجعتهم الى وطن كاسترو بعد سنين من الغربة والمحنة القاسية) .
الشاعر الثوري جواد غلوم ينغرز فيه إحساس المرارة والطريق الشائك الذي يسترجع مهازل الطغاة وأحلامهم المريضة كما صدام الجرذ الذي أراد أن يقلّد الثائر بسيكاره الكوبي ، فأين الثرى من الثريا ، وقد أثبتت الأيام أنّ الجرذ مات ذليلا في جحر الجرذان وتحت بسطال العسكر الأمريكي . بينما سيكار الممثل الشهير كلنت ايستوود كانت حلما لنا أن نقلدها بأفواههنا ، تلك السيكار التي اشتهر بها بعد فيلمه الممتع ( الطيب والخبيث والشرير )وكيف كان يديرها في فمه من الفك الآيسر الى الأيمن وبالعكس وبالسرعة التي تثير في الطرف المقابل شيئا من الإستنكار لما تحمله هذه الحركة من استهزاء بحق المبارِز الآخر . فبقيت هذه السيكارة وصورتها بفم كلنت إيستوود حتى اليوم في أذهاننا وناظرينا وفي الجرائد والمجلات والإعلانات والتلفاز كفاصل للإستراحة ، لكنّ المشهد التمثيلي هذا سينتهي بقادم الأيام والأزمان ، ولم يبقَ غير السيكار الجيفاري عبر العصور حقيقيا مترعاً بالواقع لابالخيال والتمثيل .

ولاتأنسُ التّوسّدَ على الأحراش
لاتحسنُ ارتداءَ بزَّةِ الثائرين
مهما ترعْتَ من حثالة هافانا
وشممْت خمرَها الممزوج بالسيجار
هكذا أنت تريد أيها البهلوان
تنكّرت بِطلّةِ الرفاقِ المؤجّجين
بالآمال العريضة
ثابتي الخطى
المُتطلِّعين للعدل
لكنك لاترضى سوى أن تصنعَ العذراواتُ
سيجارَك من أناملهن الرقيقة
ويبرمْنهُ في أفخاذهنّ حتى تنتشي
وتهدأ سريرتك جذلا

أعلاه ثيمة فيها من المديح بحق الثائر البوليفي وماكان يفعله هناك من تدخين للسيكار بين الأشجار البوليفية والجبال ومن هناك يبعث برسائله الى الأدباء والفنانين وعلى رأسهم برتراند راسل والمغني الشيوعي الشهيد جون لينون لتحشيدهم للوقوف بجانب قضيته العادلة. تلك القضية التي مثلت ْبفيلم درامي عام 1908 وبجزأين من تمثيل الرائع شبيه جيفارا (بنسيو ديل تورو ) .
في هذا الفلم سمعنا أجمل الأغاني بحق الثورة والثوار ومنها بصوت المغنية الفرنسية الشهيرة ناتالي كاردون . الأحراش هنا اشارة الى النضال الثوري الذي قضاه جيفارا في بوليفيا وغاباتها التي كانت بمثابة دروع ضد الرصاص تحمي جيفاراورفاقه وبالفعل ظل يقارع الطغاة والأمبريالية حتى رسم طريق دربه الأبدي المعروف اليوم لدى العالم أجمع .
ثم ينهي الشاعر جواد نصه في قول الممتعات حول وطنه :


وأنت ترى مدينتك تتضوّرُ جوعا
لكنها تغني :
" دگ راسك بگاع الحبسْ---- لاتنحني تحبّ الچفّ
أيـــام المـزَبّـــن گِضــن---- دگـضنْ يأيـام الـلفّ
والدنيه غرشَةْ وصم تتنْ ---- وتدور بينه وتلْتف " (*)

شذرة فيها من الأصالة الرائعة والعادات العراقية الإجتماعية المتأصلة حيث يتكئ الشاعر جواد غلوم على ماهو أكثر ضيما وقهرا ومرارة في الحلم العراقي فيذكرنا برائعة مظفر النواب عندما كان سجينا فيكتب الأبيات العامية أعلاه عن الفاقة والعوز والشريحة الإجتماعية التي كانت تدخن اردأ انواع السكائر( المزبن، اللف) ثم التتن( التبغ) والناركيلة والأجواء العراقية في ممارسة تلك الطقوس الدخانية أنذاك .

3
كل هذا التماهي من قبل الشاعر جواد مع الدعوة الى صنع الجمال والقضية الإنسانية لجيفارا في محاربة الطغيان الاّ أنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الحزن الذي يعتصر في فؤاده على غياب زوجه ، ذلك الحب الأبدي الذي عاصره حتى إختفى جسديا تاركا إياه الى أعاصير الدمع و ألم النشوغ والروح الدائرة في فضاء وفناءات بيته وزواياه وكراسيه وملاءاته ومراياه ، كل هذه شكلت أرقاً في رأس الشاعر فراح ينشد من شدة جزعه نصاً انبثق وهو في مزارها الأربعيني وقبله كتب نصا أيضا في مماتها ، وهذه عادة متبعة وتقليد سائد في زيارة الموتى وغالبا ما تكون مخصصة للبكاء والحديث مع الذي أضحى ساكناً تحت التراب بعد إن كان سراجا يرفلُ بالنعم .
أرى جواد ينفرد في علاقته مع المرأة لما ما مر به من تراجيديا ، ففي الغالب الموت يسرق الرجل قبل زوجته نظرا لمتوسط عمر المرأة اذا ما قورن مع الرجل . ولكن مع جواد فهو الذي هال التراب على زوجه و ودعها وهنا تكمن الخصوصية . حب جواد للمرأة يتجلى بكونها القصيدة الأزلية فنراه يخلّد زوجه فيدخلها ضمن السياق الرثائي الحزين عن دفن الزوجة وفراقها . لنرى جواد غلوم وما الذي أصاب منه وجعا في قريحته (زيارة لها في الليلةِ الأربعين):

مذ زرتُها في رمسِها
كفِّي دنتْ من ورْدِها المرميّ أعلى القبرِ
ظلّ العطرُ معطاءً يزاحمُ ثرثراتِ الأمسِ
خوفَ الموت ؛ وهي تحكي قصةً مبتورةً من شهرزادْ
وتقول لي عند المزاحْ
هلا خطوتَ إليَّ
تعالَ ؛ يرهقني البعاد
ماذا أصابك يا جواد ؟

(القلب الانساني لا يستطيع احتواء إلا كمية محددة من اليأس ، فعندما تكون الإسفنجة مشبعة يمكن ان يمر البحر عليها دون ان تدخل دمعة أخرى..... فيكتور هيجو ) ......
أرى جواد هنا وهو في أشد حزنه عاشقا حقيقيا رغم الشيب العالق في السنين والرأس على حد سواء ، حزينا راثيا على من أنهت أشواطا كثيرة من حياتها معه في العسر واليسر . أراه كما العاشق فارتر في رائعة غوتا ( آلام فارتر) حين يقف على قبر حبيبته و يهيل التراب عليها ويبكي بحرقة لعدم تصديقه بسرعة زوال حبيبته من الوجود وبلا عودة .
الخوف من الموت هذه المفردة التي لابد أن يمر عليها أي شاعر لكونها المشترك الوحيد لكل من يدب على الأرض من ملوكها وعبيدها وحيواناتها بأجناسها الشتى . الموت أقوى كلمة في الوجود لأنها تعني ما تقول وكأنّ لها فم يصرخ دائما ورائنا أن تعالوا أو أنا من يلحق بكم شئتم أم أبيتم . سنرى الموت في الحوار الدائر بين جواد وزوجه عند شاهدة قبرها :

انا في انتظارك ان تزور ملامحي
انت المُلِمُّ بخافقي
أنت الشغاف يلفّ أوردة الفؤاد
خوفي بانك قد علقْتَ بغادةٍ
أسميتها كذبا سعاد

الموت ينادي على جواد على هيئة زيارة عرضت عليه من زوجه المتوفاة وكأنها حالة يأس من الشاعر ومن الحياة التي لا تستحق أن نستمر بها بعد موت رفيقة الدرب الطويل ، ومهما يكن من أمر فهو الموت المنادي خلفنا أن تعالوا برضانا أم رغما عنا . وعند هذا الخوف من العدمية الصارخة بجواد نراه يذهب بإنزياحية جميلة للغاية وكأنها التشبث بالحياة ، كأنها صرخة الخلود المسروقة من يدي كلكامش ، فيبدأ جواد وكأنه يسمع صوتها المعاتب والعذول وهي تشكو من سعادته نتيجة معاشرته لإحداهن التي أسماها سعاد . تضاد إنزياحي جميل عصرَ قلب الشاعر المحزون فأعطاه كل هذه الإرهاصات الناجمة عن فقد الحبيبة التي لا يمكن أن تصلح له بعدها أيٍ من النساء بديلةٍ عنها أو هو الآخر لا يصلح لذي خلةٍ بعدها ، بل ستكون الكذبة التي اسمها سعاد .
هو الخبل إذن في الحب الذي يصبح مرضا مزمنا لا يمكن الشفاء منه مع صعوبة أن يتقبل المرء فكرة غياب حبيبته الفجائي الى رواق العدمية دون أن تكون هناك فرصة أخرى للقياها.
ثم تستمر الأوبرا الحزينة أو السيمفونية التي تحكي وجعا قاهرا فنقرأ :

يا فارع الطول المحلّى بالنجاد
يا حبّ أيامي اذا شحّ الوداد
يا وقع أغنيةٍ تجيء بمسمعي " فات المعاد "
اللحن سدّد طلقةً لفراقِـنا
بعثَ الدخان مع الرماد
حتى بقينا في البعاد

يقول( فيكتور هيجو) من أنّ الحب هو تحية الملائكة للكواكب ، فهل هذه الثيمة عبارة عن غزل من الزوجة التي تعيش في العالم السفلي فجاءت كي تلقي تحية ملائكة الموت الى حبيبها جواد ، لكن ما من مناجاة غير فوات الأوان والصدى الميت واللحن الجنائزي الذي هو الطلقة الأخيرة التي تصيبنا حتما وما من حذر .
يستمر جواد في الرثاء فيبوح :

ماذا جنينا يا جواد ؟
حرَثاً وبذْراً ثمّ ريَّاً
دون ان نجني الحصاد
ربما جواد هنا يتذكر آخر مجرفة من التراب تهال عليها كي تتوارى في التراب والى الابد فاضطر أن ينحني حزنا وألما عليها .
ماذا يجني المرء من كل هذه الحياة التي تذهب به نحو العدم ، لاشيء غير عالم ينتصر فيه النكد والباطل على السعادة و الحق في أغلب ألأوقات وكأن المرء يولد في أروقة الموت . مهما زرعنا من الحصانة ضد الموت ولو سقينا عطش الموت أنهراً وبذرنا الأرض نثارا عظيما فأننا ذاهبون نحوه بطريقة لا يعرفها ذوي العلم ولا الجهلة ولا المنجمون غير مفاهيمٍ لا يدركها حتى العقل . فلماذا لم تكن الحياة وفية فتبقينا على الحب الأبدي كما الآخرة التي تصورها الأديان . فهل الحياة فعلا كما يوصفها جبران خليل جبران (الحياة إمرأة فاسقة ولكنها جميلة ومن يرى فسقها يكره جمالها) فلماذا كان جبران غاضبا على الحياة ، هل لأنها بدون مواثيق ولا أعراف ولا تقليد يتوجب تقديسه . هذه هي الحياة إذن بنظر جبران خليل فهي الموت بوجههِ الآخر ..........لنقرأ الإعتراف الإفتراضي الأخير وما تقوله شهرزاد بحق شهريارها الوفي المخلص :

أبداً عرفتك لا تعادي أو تحابي أو تميل
يوما ينقِّيك البياضْ
وتارةً تلجُ السواد
فلْتعترفْ
هي موبقات العهر شدّتني اليك
وكذا نقاء الطهر أومأ لي عليك
يا مَن حببتكَ أنت وقّافاً على أرض الحياد
وتارةً زاغٍ بعينك نحو مرمطة النساء
متأرجحاً بين الوفاء وبين غدْرِ الاشتهاء
مرة أخرى يقف جواد على القبر ويبدأ المحاورة مع الفقيدة الراقدة تحت طيات التراب ولكن هذه المرة جواد يسجل إعتزازه بنفسه الطاهرة النقية بلسان حال زوجه، ولم لا فهو المناضل اليساري الذي كان مضربا للأمثال في الستينيات والسبعينيات والى اليوم من ناحية الوفاء والحب والإصرار. بيدَ انّ البيتين الأخيرين كان فيهما الشاعر جواد في غاية الصراحة لأنهما شكلا الحقيقة التي نعيشها بكوننا بشر نزيغ أو نخطأ (وتارةً زاغٍ بعينك نحو مرمطة النساء/ متأرجحاً بين الوفاء وبين غدْرِ الاشتهاء) .
ويبقى الشاعر جواد من القلة اليساريين الذين بقوا على العهد حزانى من السياسةِ والحب وشقاء الحياة على طريقة محمود درويش حين يقول ( لم يعد في قلبي مكانا لرصاصة جديدة ) فلقد اكتفى جواد من الألم ولم يبق في العمرِ شيئاً يستحق غير الشِعر والأدب فهما الحصانة و الإكسير والأنتي بايوتيك .



هــاتف بشبوش/عراق/دنمارك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.