ألسنا بخير؟
أَلستَ بخيرٍ صديقي؟
ألسنا جميعاً بخير؟
فمازالَ كوكبُنا القُزَحيُّ يَجولُ كَعادته الأزليَّة في مَلَكوت الخيالِ
ويَمضي بنا في رحاب العجائب دونَ كَلَلْ
وما زالتِ الشَّمسُ تُزهرُ كلَّ صباحٍ
مُلبيَّةً رَغَبات الصّغار وصَبْوَ الطّيور ونَزْوَ الفَراش
وترحلُ حين ترشُّ حكاياتُ جَدّاتنا في جفون الطفولة ألوانَها
وتُنمنمُ فوقَ وسائدهم أغنيات النُّعاس
وتذبلُ كلَّ مساءٍ ودونَ ملَلْ.
ومازالت الأنجُمُ الرّافلاتُ كأُسطورةٍ في ضباب الخُرافة
ترسو على شاطئ السُّهد أُنساً
وتأسو الذينَ نَفَتْهُمْ سآماتُهُمْ في زحام الشُّجونْ.
ومازالَ ليلُ العُذوبة يوقظُ في العاشقينَ لُغات تواصُلهمْ
وفُنونَ تَاَلُّقهمْ وطُقوسَ تَفَرُّدهمْ بالبراعة
كي يُفعموا وقتَهُمْ بسُلاف ابتكاراتهمْ ورَذاذ الذُّهولْ.
وجَمرُ التَشرّد مازالَ يُشعلُ في الشُّعَراء دَفينَ احتشاداتهمْ
كي يَصوغوا جُنونَ اعترافاتهمْ في نشيد الرَّحيلْ.
ومازالَ فَيْضُ الرَّغائب يَنسجُ للحالمينَ بما قد يجيءُ، وقد لا يجيءُ،
فضاءاتهمْ في مرايا المنامْ.
وكلُّ الفُصول تُجَدّدُ دوماً مواعيدَها
وتَمُنُّ علينا احتفالاتُها كي تُذَكّرَنا كلَّ عامْ
بأنَّ قوانينَ هذي الطبيعة راسخَةٌ لا تَزوغُ
وأنْ لا مَخافةَ منْ أنْ يَحُلَّ اضطرابٌ بها قد يُخلُّ بسرّ تَناغُمها
وثَبات حَصافتها المطلقةْ.
أَلَسْنا جميعاً بخيرٍ إذاً يا صديقي؟
فبالرّغم ممّا نَنُوءُ به منْ هواجسَ سوداءَ مُلْغَزَةٍ تستَبدُّ بنا فَجأَةً
ووَساوسَ مُحرجةٍ تَستفزُّ نوازعَنا في مَهَبّ الظُّنونْ
وبالرَّغم من بوصلاتٍ تُحايدُ سَمْتَ اشتهاءاتنا
وتُخاتلُنا في متاهاتنا المغلَقَهْ
وتُومي إلى حيثُ لا نبتغي أنْ نكونْ
فثَمَّةَ رَجْوٌ، خلافاً لما يَدَّعي الأشقياءُ -كأمثالنا المولَعينَ بفكّ رموزِ الرؤى المقلِقةْ
يُهَيّئُ للمُتعَبينَ وَثيرَ الأرائك كي يستريحوا أخيراً
وهَدْهَدَةً من هديل الهوى كي يناموا عميقاً.. عميقاً
ويَنسَوا خسائرَهُمْ في احتلاك السّنينْ.
وثَمَّةَ أُفْقٌ، وطبقاً لما يوقنُ (الحُكَماءُ)،
يُوَطّدُ للخائفينَ ملاذاً حصيناً
يُحرّرُهمْ من مخاوفهمْ، ويُباركُ فيهمْ طُمأنينةً لا تَروغُ
وثَمَّةَ ضوءٌ يُمَهّدُ للهائمينَ دُروبَ الخلاص
ليُنقذَهُمْ من إسار مآزقهمْ واختلاط الشُّكوك بجَدوى اليقينْ.
فلا خَوفَ من أيّ خوفٍ، فنحنُ بخيرٍ
ووَحْيُ البَداهَة يَقضي بألاّ نخافْ
وممَّ نخافُ؟ أليسَتْ أزقَّةُ هذي الحياة سَتوصلُنا ذاتَ يومٍ
إلى مُستَقَرٍّ لَنا آمنٍ في ختام المطافْ؟
لماذا إذاً لا نكونُ بخيرٍ وكُلُّ الأُمور تسيرُ بلا عَوَجٍ و(تَمامَ التَّمامْ)؟!!
(2)
ألَستُ بخيرٍ صديقي؟
وكلُّ شؤوني أليستْ تسيرُ إلى ما يُرادُ لها أنْ تسيرْ؟
وإنْ كانَ في الصَّدر شَكٌّ بأنَّ الطريقَ
إلى ما أُريدُ الوصولَ إليه يَسيرْ.
ألَستُ بخيرٍ؟
فمازالَ قلبيَ يَخفقُ، لَوْ باضطرابٍ نَزقْ
ويَشرَعُ في الرَّقص مُنتشياً كَسُنونُوَّةٍ أفلَتَتْ
من كَمين الصَّقيع وسَطْوِ الكآبة
إنْ زَقزَقَتْ ضحكةٌ في بَراح الطُّفولَة ذاتَ أمانْ.
ومازالَ يَجمَحُ مثلَ حصانٍ نَفورٍ يُجَنُّ
ويَصهلُ تَوقاً إلى صَولَةٍ يستردُّ بها روحَهُ الجبليَّةَ
بالرَّغم منْ عثَرات انكسارٍ تُباغتُهُ كلَّ حينْ
وبالرَّغم منْ خَلَلٍ في لُهاث الدّماء
وخَلخَلَةٍ في التّوازُن تَفجَؤُهُ في مضائق هذا النّهارْ.
ومازالَ يُطلقُ، كالعادة، القهقهاتِ الطَّويلةَ منْ عُمق أعماقه
لتَرُجَّ دُخانَ اللّفائف في جَنَبات المكانْ
وتنبُشُ في سَهَرات الرَّزانَة رُكنَ الصَّخَبْ
إذا ما رَوى أحَدٌ منْ رفاق كُهولَته نُكتَةً بذكاءٍ ولَمْزٍ خَبيثَيْن
بالرَّغم منْ تَوأمَيْه اللَّدودَيْن: حزنه والتَّعَبْ.
أَلَستُ بخيرٍ صديقي؟
فمازلتُ أقوى على خَلْس شيءٍ منَ النَّوم
في غَفلَةٍ منْ جُموح الصُّداع
وأقوى على حُلُمٍ مُزمنٍ مُؤْتَلقْ
وفي كلّ صبحٍ أُفاجئُ نفسيَ بالإندهاش
لأنّيْ استطعتُ الإفاقةَ ثانيةً
بعدَ ليلة وَجْسٍ ثقيل وهَذْيٍ طويلٍ.
وأقوى على بعض صبرٍ، لَوْ لوقتٍ،
وَوَقتيَ يَصدأُ في هُوَّة الإنتظارْ.
وأقوى على الإعتراف بأَنّيْ ألوذُ ببَعض البكاء
إذا ما خَلَوْتُ بيأْسيَ في لَحَظات الحصارْ.
ألَستُ بخيرٍ صديقي؟
فقلبيَ هذا العَجوزُ الشَّغوفُ الشَّرودُ القَلقْ
وبالرَّغم منْ عَبَثيَّة أيامه
لا يَزالُ يُقَدّسُ سرباً منَ الأُغنيات النَّبيلةِ
تلكَ التي يَحتسيها مُعَتَّقَةً كنبيذ القصائد في حانة الرُّوح
ويُدمنُ نُبْلَ الجَمال الأنيق يُرَنّمُ في كلّ لونٍ شَفيفْ
ويعشقُ -مُحتَفلاً بصُداح الشَّذى-
مَيَسانَ الأُنوثَة في كلّ خَطوٍ رهيفْ
ويَنسى -لبعضٍ منَ الوَهم- أو يَتناسى حُلولَ الخريفْ
على وجنتَيْه قُبَيْلَ الأوان
خُلاصةَ حشدٍ منَ الذّكريات الحميمة لم يبقَ منها
سوى رَعَشات صَدى
وإرثاً منَ الأمنيات الفريدة قد صوَّحَتْ وتلاشَتْ سُدى
وبالرَّغم منْ كلّ هذا أَلَستُ بخيرٍ كما أدَّعي يا صديقي؟
وكلُّ أُموري أليسَتْ تسيرُ على ما يُرامْ؟
(3)
أنحنُ بخيرٍ صديقي؟
يقولونَ إنّا بخيرٍ،
وإن الأمورَ تَسيرُ، وسوف تسيرُ، كأفضل ما يكون المسيرُ بفعلِ حصافتِهمْ
أو بِوَحيِ قريحتهمْ
أو بما نجهلُ من براعتهمْ في اجتراح العجائبِ أو باكتناهِ الخفايا وما قد يكنُّ وراءَ الغيوبِ،
فلا تنتقدْ ضحكتي إن سخرتُ، فشرُّ المصيبةِ ما يُضِحكُ الأشقياءَ،
وأقصِد أمثالَنا الخارجينَ على منطقِ الإختناقِ بصمتٍ على ضفّة المهزلَةْ.
يقولونَ إنَّ النماذجَ من أمثالِنا المدمنينَ على النبشِ في المجرياتِ
وغربلةِ المبهَماتِ وقَلْبِ ركام المعاني ليستنطقوا فيها المجازَ،
وكلَّ الذين توسوسُ فيهمْ شكوكٌ بجدوى الخضوعِ لواقعِنا (التابُوِيِّ) يجوزونَ حَدَّ المحرَّم،
يستهزئونَ بصكّ الوصايةِ،
يحترفونَ مخالفةَ الإصطفافِ الصبورِ بيادقَ تنتظرُ (النَّقلةَ) المقبِلةْ
وإنّا نُحايدُ أُسَّ الحقائقِ كي نستضيءَ بوهمٍ ووعيٍ عليلٍ وسَقْطِ كلامٍ ونحن نلوكُ رؤانا،
ونهتِف دوماً لـِما لن يجيءَ،
ونحملُ صلبانَنا في طريقِ الصعودِ إلى الجلجلةْ
ونستهلكُ أرواحَنا بالصراخِ وجَلْدِ الذواتِ بسَوْطِ الندامةِ والولولَةْ
وحين الوقائع تجري خلافاً لما نشتهي نبالِغُ إذ نُستثارُ فنصدر أحكامنا بارتجال على كل ما حولنا،
ونتوهُ عنِ المنطقيِّ ونوغِلُ في فبركاتِ الخيالِ خلالَ عطالتِنا المخجِلةْ
وإنّا، كما يوقنونَ، دُمىً تستجيبُ لإيماءةٍ من مغرضينَ لهم ما لهم من نوايا تُحرِّض فينا النزوعَ إلى الإنفلات من الواقعيّة كي نُعاقِرَ أحلامنا، ونُبدِّدَ أيامَنا بارتيادِ المتاهاتِ في ترّهاتِ النقاشِ وفوضى الجدالِ،
وإنّا نَهيمُ بلا وُجهةٍ في غَياباتِ أيامِنا الــمُهمَلةْ
وهذي الدماءُ التي ضرَّجتْنا زماناً صدىً لخطيئتنا ولِتهويمنا خارجَ القافلةْ
وهذا الوقوفُ على حافّة اليأسِ كمينٌ،كما يدّعونَ،
أُعدّ لنا كي نلوذَ جميعاً برؤيا سرابٍ ونغرقَ في جحيمِ قناعاتنا الجاهلةْ
فنحنُ خوارجُ هذا الزمانِ، ونحنُ جريمةُ آرائنا وصنيعةُ أهوائنا الموحلةْ
نضجُّ، نهيجُ، نموجُ، نزجُّ بأنفسنا في المعضلةْ
نُكرِّرُ سَقْطاتِنا، ونُكرِّسُ خُطْواتِنا الفوضويّة نحو مصيرِ مُريبٍ,
نثرثرُ سخطاً على ما حولنا،
ونجحَدُ بالأعطياتِ،
نُجَدِّفُ بالمنجزاتِ،
وننبِذُ ما لا يلبّي ولاءاتِنا الباطلةْ
لهذا فنحنُ، كما يدَّعونَ، قطيعٌ من الــمُجبَرين على الإمتثالِ لجمرِ الوقائعِ والمرحلةْ
ونحن الحضورُ المعمّى، الغيابُ المسمّى حضوراً،
ونحنُ مجرَّدُ حشدٍ من الكائناتِ الهلاميّةِ الذاهلةْ
تمارسُ دورَ القطيعِ على هامشِ اللحظة الفاصلةْ
ونحنُ غروبٌ يلطِّخُ أفْقَ ذُبالاتِهِ هذيانُ النهارِ الأخيرِ، نبادلُ أنفسَنا عثراتِ نهاياتنا، ونُساقُ إلى حتفِنا هرولةْ
أليسوا محقّينَ صديقي؟
أليست مَشاهدُ هذي الحياةِ تُنبِّئُنا بالشواهدِ والأمثلَةْ
بأنّا جميعاً بأحسنِ حالٍ، كما يدَّعون،
وأنَّ علينا اتّباعَ طرائقهم في اقتناصِ تفاؤلنا المشتهى وانتخاءِ رجولتنا كالذكور الأشاوسِ في المنحلةْ
وأنَّ علينا اختيارَ الطريقةِ في الإنصياعِ لِسَيْلِ الوصايا التي عُمِّدَت باغتيالِ القصائدِ
والأغنياتِ وبوحِ الحمائمِ والأقحوانِ وفَوْحِ نَبيذِ القلوبِ،
وأنَّ علينا اختيارَ الرحيلِ بحدّ الحسامِ أوِ القنبلةْ
فبالرغم من كلِّ ما يحدث الآن شرقاً وغرباً، هنا أو هناك،
وبالرغم من حيِّزٍ للهواء النقيِّ يضيق رويداً رويداً على شاغِليه وهم يكتبون بصمت وصاياهُمُ العاجلةْ
وبالرغم من نَفَقٍ مظلمٍ يستطيل بهم..
يستطيل إلى لانهاية خطْواتهم في ضبابٍ كتيمٍ وهم يبحثون عن المخرج المشتهى دون أيِّ دليلٍ يُضيءُ معابرَنا الــمُقفَلةْ
وبالرغم من موكب الراحلين بلا أمل يحرثون رمادَ الجهات بأقدامهم منذ أن خذلتهم عناوينهم،
ونفتْهم إلى أعماقهم كنِثارِ رمالٍ،
وفُتاتِ خرائطَ تعبثُ ريحُ الشتاتِ بها ولظى الأسئلةْ
وبالرغم من كثرة العابرين إلى أقدارهم دونَ كِسرة حُلْمٍ منذ أن أورثتهم كوابيسُهم آفةَ الإنتظارِ على حافّةِ الزلزلةْ
وبالرغم من سُرى التائهين بلا وجهةٍ مُطفِئين قناديلَهم،
حاملينَ عذاباتهم فوق أكتافهم،
ذاهبينَ بأحلامهم وبقايا تواريخهم في مدىً يتمادى اضطراباً إذا ما تتالت عليهم ليالي الفجيعةِ والأخيلةْ
وبالرغمِ من سيولِ الدماءِ الشهيدةِ باسمِ الخلاصِ المقدَّسِ نحوَ الدُّنى الفاضلةْ
فبالرغم من كل ذلك ثَمَّةَ وقتٌ للغناء على جثة الوقت المصابِ،
ورقصٌ على مسرح الأمنياتِ الفسيحِ،
وزغردةٌ في الفضاءِ المطرَّزِ بالملصلقاتِ،
المسوَّرِ بالأحجياتِ ووقْعِ الأناشيدِ والمقصلةْ
ولَهوٌ على شَرفِ المهرجانِ المقيمِ، نهاراً وليلاً، لذكرى انتصارِ زمانِ البَلَهْ
وثمة وقت للصلاة ووقتٌ للدعاء، وأمكنةٌ للسجودِ،
وأرصدةٌ من شجونٍ، وأفئدةٌ من حنينٍ إلى شمسِها الآفلةْ
وبالرغم من كلّ هذا وذاكَ صديقي ألسنا بخير كما يدّعونَ؟ وأنَّ نهاياتِنا (مذهِلةْ)؟
فلا تنتقدْ ضحكتي إن سخرتُ صديقي، فشرُّ المصيبةِ ما يُضِحكُ الأشقياءَ،
وأقصِدُ أمثالَنا الخارجينَ على منطقِ الارتهانِ بصمتٍ إلى واقعٍ مهزلةْ
وأمثالَنا الرافضين ارتداداً إلى شِرعةِ الغابِ وعصرِ الرقيقِ ونهجِ العبوديةِ القاتلةْ
أَلستَ بخيرٍ صديقي؟
ألسنا جميعاً بخير؟
فمازالَ كوكبُنا القُزَحيُّ يَجولُ كَعادته الأزليَّة في مَلَكوت الخيالِ
ويَمضي بنا في رحاب العجائب دونَ كَلَلْ
وما زالتِ الشَّمسُ تُزهرُ كلَّ صباحٍ
مُلبيَّةً رَغَبات الصّغار وصَبْوَ الطّيور ونَزْوَ الفَراش
وترحلُ حين ترشُّ حكاياتُ جَدّاتنا في جفون الطفولة ألوانَها
وتُنمنمُ فوقَ وسائدهم أغنيات النُّعاس
وتذبلُ كلَّ مساءٍ ودونَ ملَلْ.
ومازالت الأنجُمُ الرّافلاتُ كأُسطورةٍ في ضباب الخُرافة
ترسو على شاطئ السُّهد أُنساً
وتأسو الذينَ نَفَتْهُمْ سآماتُهُمْ في زحام الشُّجونْ.
ومازالَ ليلُ العُذوبة يوقظُ في العاشقينَ لُغات تواصُلهمْ
وفُنونَ تَاَلُّقهمْ وطُقوسَ تَفَرُّدهمْ بالبراعة
كي يُفعموا وقتَهُمْ بسُلاف ابتكاراتهمْ ورَذاذ الذُّهولْ.
وجَمرُ التَشرّد مازالَ يُشعلُ في الشُّعَراء دَفينَ احتشاداتهمْ
كي يَصوغوا جُنونَ اعترافاتهمْ في نشيد الرَّحيلْ.
ومازالَ فَيْضُ الرَّغائب يَنسجُ للحالمينَ بما قد يجيءُ، وقد لا يجيءُ،
فضاءاتهمْ في مرايا المنامْ.
وكلُّ الفُصول تُجَدّدُ دوماً مواعيدَها
وتَمُنُّ علينا احتفالاتُها كي تُذَكّرَنا كلَّ عامْ
بأنَّ قوانينَ هذي الطبيعة راسخَةٌ لا تَزوغُ
وأنْ لا مَخافةَ منْ أنْ يَحُلَّ اضطرابٌ بها قد يُخلُّ بسرّ تَناغُمها
وثَبات حَصافتها المطلقةْ.
أَلَسْنا جميعاً بخيرٍ إذاً يا صديقي؟
فبالرّغم ممّا نَنُوءُ به منْ هواجسَ سوداءَ مُلْغَزَةٍ تستَبدُّ بنا فَجأَةً
ووَساوسَ مُحرجةٍ تَستفزُّ نوازعَنا في مَهَبّ الظُّنونْ
وبالرَّغم من بوصلاتٍ تُحايدُ سَمْتَ اشتهاءاتنا
وتُخاتلُنا في متاهاتنا المغلَقَهْ
وتُومي إلى حيثُ لا نبتغي أنْ نكونْ
فثَمَّةَ رَجْوٌ، خلافاً لما يَدَّعي الأشقياءُ -كأمثالنا المولَعينَ بفكّ رموزِ الرؤى المقلِقةْ
يُهَيّئُ للمُتعَبينَ وَثيرَ الأرائك كي يستريحوا أخيراً
وهَدْهَدَةً من هديل الهوى كي يناموا عميقاً.. عميقاً
ويَنسَوا خسائرَهُمْ في احتلاك السّنينْ.
وثَمَّةَ أُفْقٌ، وطبقاً لما يوقنُ (الحُكَماءُ)،
يُوَطّدُ للخائفينَ ملاذاً حصيناً
يُحرّرُهمْ من مخاوفهمْ، ويُباركُ فيهمْ طُمأنينةً لا تَروغُ
وثَمَّةَ ضوءٌ يُمَهّدُ للهائمينَ دُروبَ الخلاص
ليُنقذَهُمْ من إسار مآزقهمْ واختلاط الشُّكوك بجَدوى اليقينْ.
فلا خَوفَ من أيّ خوفٍ، فنحنُ بخيرٍ
ووَحْيُ البَداهَة يَقضي بألاّ نخافْ
وممَّ نخافُ؟ أليسَتْ أزقَّةُ هذي الحياة سَتوصلُنا ذاتَ يومٍ
إلى مُستَقَرٍّ لَنا آمنٍ في ختام المطافْ؟
لماذا إذاً لا نكونُ بخيرٍ وكُلُّ الأُمور تسيرُ بلا عَوَجٍ و(تَمامَ التَّمامْ)؟!!
(2)
ألَستُ بخيرٍ صديقي؟
وكلُّ شؤوني أليستْ تسيرُ إلى ما يُرادُ لها أنْ تسيرْ؟
وإنْ كانَ في الصَّدر شَكٌّ بأنَّ الطريقَ
إلى ما أُريدُ الوصولَ إليه يَسيرْ.
ألَستُ بخيرٍ؟
فمازالَ قلبيَ يَخفقُ، لَوْ باضطرابٍ نَزقْ
ويَشرَعُ في الرَّقص مُنتشياً كَسُنونُوَّةٍ أفلَتَتْ
من كَمين الصَّقيع وسَطْوِ الكآبة
إنْ زَقزَقَتْ ضحكةٌ في بَراح الطُّفولَة ذاتَ أمانْ.
ومازالَ يَجمَحُ مثلَ حصانٍ نَفورٍ يُجَنُّ
ويَصهلُ تَوقاً إلى صَولَةٍ يستردُّ بها روحَهُ الجبليَّةَ
بالرَّغم منْ عثَرات انكسارٍ تُباغتُهُ كلَّ حينْ
وبالرَّغم منْ خَلَلٍ في لُهاث الدّماء
وخَلخَلَةٍ في التّوازُن تَفجَؤُهُ في مضائق هذا النّهارْ.
ومازالَ يُطلقُ، كالعادة، القهقهاتِ الطَّويلةَ منْ عُمق أعماقه
لتَرُجَّ دُخانَ اللّفائف في جَنَبات المكانْ
وتنبُشُ في سَهَرات الرَّزانَة رُكنَ الصَّخَبْ
إذا ما رَوى أحَدٌ منْ رفاق كُهولَته نُكتَةً بذكاءٍ ولَمْزٍ خَبيثَيْن
بالرَّغم منْ تَوأمَيْه اللَّدودَيْن: حزنه والتَّعَبْ.
أَلَستُ بخيرٍ صديقي؟
فمازلتُ أقوى على خَلْس شيءٍ منَ النَّوم
في غَفلَةٍ منْ جُموح الصُّداع
وأقوى على حُلُمٍ مُزمنٍ مُؤْتَلقْ
وفي كلّ صبحٍ أُفاجئُ نفسيَ بالإندهاش
لأنّيْ استطعتُ الإفاقةَ ثانيةً
بعدَ ليلة وَجْسٍ ثقيل وهَذْيٍ طويلٍ.
وأقوى على بعض صبرٍ، لَوْ لوقتٍ،
وَوَقتيَ يَصدأُ في هُوَّة الإنتظارْ.
وأقوى على الإعتراف بأَنّيْ ألوذُ ببَعض البكاء
إذا ما خَلَوْتُ بيأْسيَ في لَحَظات الحصارْ.
ألَستُ بخيرٍ صديقي؟
فقلبيَ هذا العَجوزُ الشَّغوفُ الشَّرودُ القَلقْ
وبالرَّغم منْ عَبَثيَّة أيامه
لا يَزالُ يُقَدّسُ سرباً منَ الأُغنيات النَّبيلةِ
تلكَ التي يَحتسيها مُعَتَّقَةً كنبيذ القصائد في حانة الرُّوح
ويُدمنُ نُبْلَ الجَمال الأنيق يُرَنّمُ في كلّ لونٍ شَفيفْ
ويعشقُ -مُحتَفلاً بصُداح الشَّذى-
مَيَسانَ الأُنوثَة في كلّ خَطوٍ رهيفْ
ويَنسى -لبعضٍ منَ الوَهم- أو يَتناسى حُلولَ الخريفْ
على وجنتَيْه قُبَيْلَ الأوان
خُلاصةَ حشدٍ منَ الذّكريات الحميمة لم يبقَ منها
سوى رَعَشات صَدى
وإرثاً منَ الأمنيات الفريدة قد صوَّحَتْ وتلاشَتْ سُدى
وبالرَّغم منْ كلّ هذا أَلَستُ بخيرٍ كما أدَّعي يا صديقي؟
وكلُّ أُموري أليسَتْ تسيرُ على ما يُرامْ؟
(3)
أنحنُ بخيرٍ صديقي؟
يقولونَ إنّا بخيرٍ،
وإن الأمورَ تَسيرُ، وسوف تسيرُ، كأفضل ما يكون المسيرُ بفعلِ حصافتِهمْ
أو بِوَحيِ قريحتهمْ
أو بما نجهلُ من براعتهمْ في اجتراح العجائبِ أو باكتناهِ الخفايا وما قد يكنُّ وراءَ الغيوبِ،
فلا تنتقدْ ضحكتي إن سخرتُ، فشرُّ المصيبةِ ما يُضِحكُ الأشقياءَ،
وأقصِد أمثالَنا الخارجينَ على منطقِ الإختناقِ بصمتٍ على ضفّة المهزلَةْ.
يقولونَ إنَّ النماذجَ من أمثالِنا المدمنينَ على النبشِ في المجرياتِ
وغربلةِ المبهَماتِ وقَلْبِ ركام المعاني ليستنطقوا فيها المجازَ،
وكلَّ الذين توسوسُ فيهمْ شكوكٌ بجدوى الخضوعِ لواقعِنا (التابُوِيِّ) يجوزونَ حَدَّ المحرَّم،
يستهزئونَ بصكّ الوصايةِ،
يحترفونَ مخالفةَ الإصطفافِ الصبورِ بيادقَ تنتظرُ (النَّقلةَ) المقبِلةْ
وإنّا نُحايدُ أُسَّ الحقائقِ كي نستضيءَ بوهمٍ ووعيٍ عليلٍ وسَقْطِ كلامٍ ونحن نلوكُ رؤانا،
ونهتِف دوماً لـِما لن يجيءَ،
ونحملُ صلبانَنا في طريقِ الصعودِ إلى الجلجلةْ
ونستهلكُ أرواحَنا بالصراخِ وجَلْدِ الذواتِ بسَوْطِ الندامةِ والولولَةْ
وحين الوقائع تجري خلافاً لما نشتهي نبالِغُ إذ نُستثارُ فنصدر أحكامنا بارتجال على كل ما حولنا،
ونتوهُ عنِ المنطقيِّ ونوغِلُ في فبركاتِ الخيالِ خلالَ عطالتِنا المخجِلةْ
وإنّا، كما يوقنونَ، دُمىً تستجيبُ لإيماءةٍ من مغرضينَ لهم ما لهم من نوايا تُحرِّض فينا النزوعَ إلى الإنفلات من الواقعيّة كي نُعاقِرَ أحلامنا، ونُبدِّدَ أيامَنا بارتيادِ المتاهاتِ في ترّهاتِ النقاشِ وفوضى الجدالِ،
وإنّا نَهيمُ بلا وُجهةٍ في غَياباتِ أيامِنا الــمُهمَلةْ
وهذي الدماءُ التي ضرَّجتْنا زماناً صدىً لخطيئتنا ولِتهويمنا خارجَ القافلةْ
وهذا الوقوفُ على حافّة اليأسِ كمينٌ،كما يدّعونَ،
أُعدّ لنا كي نلوذَ جميعاً برؤيا سرابٍ ونغرقَ في جحيمِ قناعاتنا الجاهلةْ
فنحنُ خوارجُ هذا الزمانِ، ونحنُ جريمةُ آرائنا وصنيعةُ أهوائنا الموحلةْ
نضجُّ، نهيجُ، نموجُ، نزجُّ بأنفسنا في المعضلةْ
نُكرِّرُ سَقْطاتِنا، ونُكرِّسُ خُطْواتِنا الفوضويّة نحو مصيرِ مُريبٍ,
نثرثرُ سخطاً على ما حولنا،
ونجحَدُ بالأعطياتِ،
نُجَدِّفُ بالمنجزاتِ،
وننبِذُ ما لا يلبّي ولاءاتِنا الباطلةْ
لهذا فنحنُ، كما يدَّعونَ، قطيعٌ من الــمُجبَرين على الإمتثالِ لجمرِ الوقائعِ والمرحلةْ
ونحن الحضورُ المعمّى، الغيابُ المسمّى حضوراً،
ونحنُ مجرَّدُ حشدٍ من الكائناتِ الهلاميّةِ الذاهلةْ
تمارسُ دورَ القطيعِ على هامشِ اللحظة الفاصلةْ
ونحنُ غروبٌ يلطِّخُ أفْقَ ذُبالاتِهِ هذيانُ النهارِ الأخيرِ، نبادلُ أنفسَنا عثراتِ نهاياتنا، ونُساقُ إلى حتفِنا هرولةْ
أليسوا محقّينَ صديقي؟
أليست مَشاهدُ هذي الحياةِ تُنبِّئُنا بالشواهدِ والأمثلَةْ
بأنّا جميعاً بأحسنِ حالٍ، كما يدَّعون،
وأنَّ علينا اتّباعَ طرائقهم في اقتناصِ تفاؤلنا المشتهى وانتخاءِ رجولتنا كالذكور الأشاوسِ في المنحلةْ
وأنَّ علينا اختيارَ الطريقةِ في الإنصياعِ لِسَيْلِ الوصايا التي عُمِّدَت باغتيالِ القصائدِ
والأغنياتِ وبوحِ الحمائمِ والأقحوانِ وفَوْحِ نَبيذِ القلوبِ،
وأنَّ علينا اختيارَ الرحيلِ بحدّ الحسامِ أوِ القنبلةْ
فبالرغم من كلِّ ما يحدث الآن شرقاً وغرباً، هنا أو هناك،
وبالرغم من حيِّزٍ للهواء النقيِّ يضيق رويداً رويداً على شاغِليه وهم يكتبون بصمت وصاياهُمُ العاجلةْ
وبالرغم من نَفَقٍ مظلمٍ يستطيل بهم..
يستطيل إلى لانهاية خطْواتهم في ضبابٍ كتيمٍ وهم يبحثون عن المخرج المشتهى دون أيِّ دليلٍ يُضيءُ معابرَنا الــمُقفَلةْ
وبالرغم من موكب الراحلين بلا أمل يحرثون رمادَ الجهات بأقدامهم منذ أن خذلتهم عناوينهم،
ونفتْهم إلى أعماقهم كنِثارِ رمالٍ،
وفُتاتِ خرائطَ تعبثُ ريحُ الشتاتِ بها ولظى الأسئلةْ
وبالرغم من كثرة العابرين إلى أقدارهم دونَ كِسرة حُلْمٍ منذ أن أورثتهم كوابيسُهم آفةَ الإنتظارِ على حافّةِ الزلزلةْ
وبالرغم من سُرى التائهين بلا وجهةٍ مُطفِئين قناديلَهم،
حاملينَ عذاباتهم فوق أكتافهم،
ذاهبينَ بأحلامهم وبقايا تواريخهم في مدىً يتمادى اضطراباً إذا ما تتالت عليهم ليالي الفجيعةِ والأخيلةْ
وبالرغمِ من سيولِ الدماءِ الشهيدةِ باسمِ الخلاصِ المقدَّسِ نحوَ الدُّنى الفاضلةْ
فبالرغم من كل ذلك ثَمَّةَ وقتٌ للغناء على جثة الوقت المصابِ،
ورقصٌ على مسرح الأمنياتِ الفسيحِ،
وزغردةٌ في الفضاءِ المطرَّزِ بالملصلقاتِ،
المسوَّرِ بالأحجياتِ ووقْعِ الأناشيدِ والمقصلةْ
ولَهوٌ على شَرفِ المهرجانِ المقيمِ، نهاراً وليلاً، لذكرى انتصارِ زمانِ البَلَهْ
وثمة وقت للصلاة ووقتٌ للدعاء، وأمكنةٌ للسجودِ،
وأرصدةٌ من شجونٍ، وأفئدةٌ من حنينٍ إلى شمسِها الآفلةْ
وبالرغم من كلّ هذا وذاكَ صديقي ألسنا بخير كما يدّعونَ؟ وأنَّ نهاياتِنا (مذهِلةْ)؟
فلا تنتقدْ ضحكتي إن سخرتُ صديقي، فشرُّ المصيبةِ ما يُضِحكُ الأشقياءَ،
وأقصِدُ أمثالَنا الخارجينَ على منطقِ الارتهانِ بصمتٍ إلى واقعٍ مهزلةْ
وأمثالَنا الرافضين ارتداداً إلى شِرعةِ الغابِ وعصرِ الرقيقِ ونهجِ العبوديةِ القاتلةْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.