1- غسّان كنفاني : "لك شيء في هذا العالم، فقُمْ !"
حين فجّر جهاز الموساد سيّارته في مثل هذا الشهر قبْل أربعٍ وأربعين سنة، كان غسان كنفاني، بأعوامِه الوجوديّة الستّة والثّلاثين، في منتصف طريق العوْدة الكبرى ضِمْن خارطة القضيّة الكبرى. ومنذُئذٍ، غادر الفتى الفلسطينيّ الزّاخر بالحياة حُطامَ عربته الكنعانيّة، وموْقعَ التّفجير، ومُفَخّخات البلقنة الّتي فرّقتْ دَمَ فلسطين بيّن قبائل المعمور، ليسْتأنْفَ عوْدَته العنيدة إلى أرض لا شفاء منها. وفي كلّ دَورةٍ من هذه العوْدَة، المُتجدّدة كفصول العالم وأقاليم الحياة والموت، ظلَّ الوجْهُ المبحوث عنْه، وجه فلسطين المرتَدّ إلى ذاكرة التّكوين العالية، قارّاً ومُتجذّراً وساهراً في الأعماق، حتّى وإن كان الثّنائيّ التّراجيديّ ل "عائد إلى حيفا" سيتمزّق باستحالة استعادة طفلهما الضّائع منذ عشرين سنة، لأن "كلّ دموع
الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيرا يتّسع لأبوَيْن يبحثان عن طفلهما المفقود. ."، وحتى إن ابتعد في التّاريخ والجغرافيا حلم العثور على تلك الأرض الثابتة التي قال لغادة السمّان - الّتي أضاءتْه وألْهبتْه وأخْصبَتْه - إنّه يريد الوقوف فوقها، وحلّتْ محلّها "رقائق جليد هشّة معلّقة في الهواء. "... فهو الّذي سمِع هاتفا يناديه : "لك شيء في هذا العالم ، فقُمْ ! "، لا يتوقّف أبدا عن العوْدة إلى فلسطين، وكأنه يخاطبها بما خاطب به حبيبته "غادة" : "لا تكتبي لي جوابا. . لا تقولي شيئا . إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى الملجأ الوحيد ، وسأظل أعود : أعطيكِ رأسي لتُجَفّفيه بعْد أن اختار الشّقيُّ أن يسير تحت المزاريب"...
2- الوردة شُعْلة قلب العالَم
الورْدةَ شُعْلَةُ قلب العالَم. هَشَّةُ الأَعْضاء وشاهقَةُ الرّوح . اسْتَقْطَرَتْها الأرْضُ منْ أحْشائها بعْدَ عُصور بدائيّة طويلة من الإنْجابات العُشْبيَّة. كالكلمة تَماماً الّتي تَخَلَّقَتْ في دواخل الرّوح البَشريَّة بَعْد امْتحان طويل في تَجاويف الظُّلُمات وَطَلَعَتْ منْها لامْتلاك العالم رَمْزيّاً، وإضاءة دياجير المَجْهول، وتَجْسير مهاوي الزَّمن، والتَّفاوُض معَ فَداحات الغياب... لذلك كانت الوَرْدَةُ وتَبْقى منْ أعْلى الكائنات الحيَّة، وَأثْمَن الهبَات المُقَدَّسَة، وأعْمَق الرُّموز اتّصالاً بمَمالك الَوَجْد الأكْبر. أذْكُرُ أنَّ كوسطو، عالم المُحيطات الرّاحل، قال في واحدة منْ حلقات برنامجه الاستكْشافي الفَخْم ، فيما كانَ يَتَنَقَّلُ بيْنَ تَعْريشات غابة عذْراء، أنَّ الوَرْدَةَ انْتَصَرتْ على التّنّين في الأزْمنة البدائيّة الأولى. لَمْ يَتَعلَّق الأمْرُ هاهُنا بتَقْليعَة أُسطوريَّة، بلْ بحقيقة تسْتَندُ إلى الجنيالوجْيا النَّباتيَّة. ذلك أنَّ ظُهورَ الوَرْدَة أدّى إلى تَراجُع قامات النّباتات السّرْمقيَّة الهائلة الّتي كانتْ تَقْتاتُ عليْها الدّيناصوراتُ والبهائمُ العملاقةُ العاشبة. فاتنٌ جدّاً أنْ تكونَ الوَرْدَةُ هي القَبْر ما قبْل التّاريخي لوُحوش ما قبْل الطّوفان، والمشْكاة المُعَطَّرة العظيمة المُنيرة للقلْب العظيم...
3- هل يكون رمادُ هذه المرحلة المحترقة سماداً لما ينبتُ في التجاويف ؟
بعْدَ الانغلاق التّراجيديّ للنَّفَق الزَّمنيّ الّذي أسمَوْه خَطأً بالرَّبيع العربيّ، والّذي مكَّن الأجهزةَ الحاكمة وجماعات الضَّغْط الدّاعمة لها محَلّيّاً ودوليّاً منْ تَطْعيم وتَمْنيع نَفْسها باحْتياليَة وضراوَة غيْر مَسْبوقتَيْن، هَلْ يُمْكنُ للأمَل الّذي لا شفاءَ منْهُ أنْ يَجْرُؤَ على الاعتقاد بأنَّ ما اسْتَمَرَّ يَعْتَملُ ويَتفاعَلُ ويَتفاقَمُ منْ خَيْبات، وانْكسارات، ومَظالم، وآلام، وخَصاصات، أسْفَلَ أراضي المُجْتمعات العَرَبيَّة قاطبة هُوَ بصَدَد حَفْر نَفَق زَمَنيّ كبير ، فعّال وراسخ هذه المَرَّة، ولكنْ مفتوح على ما لا يُمْكنُ تَبَيُّن شكْله ومَداه. . .؟ هَلْ يكونُ رَمادُ المَرْحلة المُحْترقة حالياً سماداً لمَا ينْبتُ في التّجاويف غيْر المَسْموعة ؟ هَلْ سيَكونُ هولدرلين -ذو البصَر الثّاقب كَنَسْر الهاوية - على حقّ حين أَكَّدَ ، في سياق تاريخيّ مُظلم كهذا ، أنَّه "حيْثُما يكونُ الخَطَرُ تَنْمو إمكاناتُ الخَلاص" ؟
4- مهاوي ما بَيْن النَّهْرَيْن
أراضي ما بيْن النَّهْريْن... منْ أراض للبدايات المَلْحميّة إلى أراض للنّهايات المَأتميّة... منْ مَهْد للكتابة والخيال العظيم، ومائدة لطعام العالم القديم، إلى هاويَة للّيْل البَهيم... كأنّ الأسطورة فيه رأت التّاريخ في مرآة سوداء معكوسة، وبَعْد أن كان الحُبّ هو دافع عشتار إلى التّعَرّي عنْد البوّابات السّبع أثناء نزولها إلى العالم السُّفليّ لاسترداد حبيبها تمّوز من أسْره الشَّتْوي لدى خصيمتها بيرسيفونا ، تكالب عليْها، بَعْد سبعة آلاف سنة، الوندال المحلّيون والإقْليميّون والدَّوْليون، مُحْترفين وأسْياد حَرْب ومُرْتزقة ومُمَوّلين وَوُسطاء، وعَرَّوْها في كلّ أرْصفة العالم وفضائياته النّفطيّة وغيْر النّفطيّة، واستباحوا جَسَدَها البهيّ اغتصاباً وحرْقاً، وجعلوا كلّ نخلة في ديارها تنْزف، وكُلّ مُسْتضْعَف يَنْكَسرُ، وَكُلّ رَمْز يَحْترق، وكُلّ حجَر يَئنّ، وحَوَّلوا الهلال الخَصيب إلى أرض محْنَة كُبْرى تَمْتَحنُنا في كلّ لَحْظة وتَستَدْعي أَعْمَقَ ما فينا في كلّ طَرْفة عَيْن...
5- يقظة "ديوتيما" في منام هولدرلين
مباشرةً بعْدَ الموْت المُبَكّر لحبيبَته سوزيت غونتار (الّتي كان مُدَرّساً خُصوصيّاً لوَلَديْها)، دَخَل هولدرلين، ابتداءً منْ سنة 1802، ليْل الجُنون الكبير، الهادئ، الشّبيه باستقالة سرّيّة منْ زَمن العالم، والّذي دام أرْبَعَةً وثلاثين عاماً، إلى أنْ حَرّرَه منْهُ فَجْرُ المَوْت الّذي ألْحَقَهُ أخيراً بتلْك السيّدة المُذْهلة الّتي أسْماها "ديوتيما"، تَيَمُّناً بكاهنة معْبد "دلْفي" الإغريقيّة الّتي نقَلَ عنْها سقراط، في "مأدُبة" أفلاطون، تعريفها الشّهير للحُب... غيْر أنَّ اللّيْل الّذي أحْدَقَ به أزْيَدَ منْ ثلاثة عُقُود لَمْ يكُنْ ليُطْبقَ تماماً على صَوْت ديوتيما ووَجْهها في أعْماقه. فقَدْ حَدَثَ أن انْتَبَهتْ منْ "منامها" في روحه، فكتَبَ في أواخر حياته، على لسانها، قصيدةً كانتْ بمثابة رسالة تلَقّاها منْ وراء قَبْرها قالتْ لَهُ فيها:
" إذا كُنْتَ لا تَزالُ تَعْرفُني
منْ مسافة البُعْد الّتي فرَّقَتْ بَيْنَنا
وإذا كان الماضي لا يَزالُ
يَحْملُ إليْكَ بَعْضَ الخَيْر
أنْتَ يا رفيق آلامي
أخْبرْني إذَنْ كيْفَ تنْتَظرُكَ الحبيبةُ
بَعْدَ سنوات مُظْلمَة ومُخيفَة
قُرْبَ أنْهار العالم الأقْدَس القديم. . .؟
. . . . . . . . . . . .
ها أنْتَ تُؤَكّدُ أَبَداً يا حُبّي
أنَّكَ وَحْدكَ في هذا العالَم
لكنَّكَ لا تَعْرف. . ."
6- خندق ماريانا : إلى هناك تعود الطّيور والخيول بعد موتها حين رأيْتُ الصُّوَر المُذْهلة الّتي التقطها المُسْتكشف والمُخرجُ السّينمائيّ جيمس كاميرون، منْ داخل غوّاصته العلّميّة الصّغيرة، لأجراف وجبال ومهاوي خندق "ماريانا" الواقع أسفل المُحيط الهادي، على عُمْق أحد عشَر ألف متر، أحْسَسْتُ بأُلْفة فوريّة معَ هاتيك الأغوار اللاّمحْدودة، وبسَكينة عظيمة، وفرَح كبير، كما لَوْ أنَّني أمام برهان جيولوجيّ محْروس بالمياه المّظلمة على وجود قرابَة روحانيَّة مع ذلك القَلْب اللامَحْدود، الخفّاق والبَهيم مُنْذ تأسيس العالم، حيثُ تعودُ الطّيور والخُيولُ بَعْدَ مَوتها، وحيْثُ تَتَجَمْهَرُ اللّيالي كما في القَلْب اللاّمَحْدود للحُبّ اللاّمَحْدود...
7 - ماه شرف خان : القلب شرق اللّيل
... "تُضيءُ منازلُ قلْبي منْ نُور تَجَلّيكَ هذه اللّيْلة،
تبْتَهجُ الملائكَةُ في وَميض مائدَتي هذه اللّيْلة،
تَفي بوُعُودكَ للنّرْجس والزَّنْبَق هذه اللّيْلة،
خصْلَةٌ منْ شَعر رَأْسكَ تَسْتَحيلُ إكْليلاً،
وَالدُّنْيا مَليئَةٌ بالمسْك والبخُور هذه اللّيْلة،
مُفْعَمَةٌ رَاحَتي بالذَّهَب المَنْثُور احْتفاءً بكَ
فَشَمْسُكَ تُشْرقُ على رُبُوع رُوحي هذه اللّيْلة. . ."
منْ قصيدة فَخْمة للشّاعرة الكُرْديَّة ماه شرف خان 1805- 1847
حين فجّر جهاز الموساد سيّارته في مثل هذا الشهر قبْل أربعٍ وأربعين سنة، كان غسان كنفاني، بأعوامِه الوجوديّة الستّة والثّلاثين، في منتصف طريق العوْدة الكبرى ضِمْن خارطة القضيّة الكبرى. ومنذُئذٍ، غادر الفتى الفلسطينيّ الزّاخر بالحياة حُطامَ عربته الكنعانيّة، وموْقعَ التّفجير، ومُفَخّخات البلقنة الّتي فرّقتْ دَمَ فلسطين بيّن قبائل المعمور، ليسْتأنْفَ عوْدَته العنيدة إلى أرض لا شفاء منها. وفي كلّ دَورةٍ من هذه العوْدَة، المُتجدّدة كفصول العالم وأقاليم الحياة والموت، ظلَّ الوجْهُ المبحوث عنْه، وجه فلسطين المرتَدّ إلى ذاكرة التّكوين العالية، قارّاً ومُتجذّراً وساهراً في الأعماق، حتّى وإن كان الثّنائيّ التّراجيديّ ل "عائد إلى حيفا" سيتمزّق باستحالة استعادة طفلهما الضّائع منذ عشرين سنة، لأن "كلّ دموع
الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيرا يتّسع لأبوَيْن يبحثان عن طفلهما المفقود. ."، وحتى إن ابتعد في التّاريخ والجغرافيا حلم العثور على تلك الأرض الثابتة التي قال لغادة السمّان - الّتي أضاءتْه وألْهبتْه وأخْصبَتْه - إنّه يريد الوقوف فوقها، وحلّتْ محلّها "رقائق جليد هشّة معلّقة في الهواء. "... فهو الّذي سمِع هاتفا يناديه : "لك شيء في هذا العالم ، فقُمْ ! "، لا يتوقّف أبدا عن العوْدة إلى فلسطين، وكأنه يخاطبها بما خاطب به حبيبته "غادة" : "لا تكتبي لي جوابا. . لا تقولي شيئا . إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى الملجأ الوحيد ، وسأظل أعود : أعطيكِ رأسي لتُجَفّفيه بعْد أن اختار الشّقيُّ أن يسير تحت المزاريب"...
2- الوردة شُعْلة قلب العالَم
الورْدةَ شُعْلَةُ قلب العالَم. هَشَّةُ الأَعْضاء وشاهقَةُ الرّوح . اسْتَقْطَرَتْها الأرْضُ منْ أحْشائها بعْدَ عُصور بدائيّة طويلة من الإنْجابات العُشْبيَّة. كالكلمة تَماماً الّتي تَخَلَّقَتْ في دواخل الرّوح البَشريَّة بَعْد امْتحان طويل في تَجاويف الظُّلُمات وَطَلَعَتْ منْها لامْتلاك العالم رَمْزيّاً، وإضاءة دياجير المَجْهول، وتَجْسير مهاوي الزَّمن، والتَّفاوُض معَ فَداحات الغياب... لذلك كانت الوَرْدَةُ وتَبْقى منْ أعْلى الكائنات الحيَّة، وَأثْمَن الهبَات المُقَدَّسَة، وأعْمَق الرُّموز اتّصالاً بمَمالك الَوَجْد الأكْبر. أذْكُرُ أنَّ كوسطو، عالم المُحيطات الرّاحل، قال في واحدة منْ حلقات برنامجه الاستكْشافي الفَخْم ، فيما كانَ يَتَنَقَّلُ بيْنَ تَعْريشات غابة عذْراء، أنَّ الوَرْدَةَ انْتَصَرتْ على التّنّين في الأزْمنة البدائيّة الأولى. لَمْ يَتَعلَّق الأمْرُ هاهُنا بتَقْليعَة أُسطوريَّة، بلْ بحقيقة تسْتَندُ إلى الجنيالوجْيا النَّباتيَّة. ذلك أنَّ ظُهورَ الوَرْدَة أدّى إلى تَراجُع قامات النّباتات السّرْمقيَّة الهائلة الّتي كانتْ تَقْتاتُ عليْها الدّيناصوراتُ والبهائمُ العملاقةُ العاشبة. فاتنٌ جدّاً أنْ تكونَ الوَرْدَةُ هي القَبْر ما قبْل التّاريخي لوُحوش ما قبْل الطّوفان، والمشْكاة المُعَطَّرة العظيمة المُنيرة للقلْب العظيم...
3- هل يكون رمادُ هذه المرحلة المحترقة سماداً لما ينبتُ في التجاويف ؟
بعْدَ الانغلاق التّراجيديّ للنَّفَق الزَّمنيّ الّذي أسمَوْه خَطأً بالرَّبيع العربيّ، والّذي مكَّن الأجهزةَ الحاكمة وجماعات الضَّغْط الدّاعمة لها محَلّيّاً ودوليّاً منْ تَطْعيم وتَمْنيع نَفْسها باحْتياليَة وضراوَة غيْر مَسْبوقتَيْن، هَلْ يُمْكنُ للأمَل الّذي لا شفاءَ منْهُ أنْ يَجْرُؤَ على الاعتقاد بأنَّ ما اسْتَمَرَّ يَعْتَملُ ويَتفاعَلُ ويَتفاقَمُ منْ خَيْبات، وانْكسارات، ومَظالم، وآلام، وخَصاصات، أسْفَلَ أراضي المُجْتمعات العَرَبيَّة قاطبة هُوَ بصَدَد حَفْر نَفَق زَمَنيّ كبير ، فعّال وراسخ هذه المَرَّة، ولكنْ مفتوح على ما لا يُمْكنُ تَبَيُّن شكْله ومَداه. . .؟ هَلْ يكونُ رَمادُ المَرْحلة المُحْترقة حالياً سماداً لمَا ينْبتُ في التّجاويف غيْر المَسْموعة ؟ هَلْ سيَكونُ هولدرلين -ذو البصَر الثّاقب كَنَسْر الهاوية - على حقّ حين أَكَّدَ ، في سياق تاريخيّ مُظلم كهذا ، أنَّه "حيْثُما يكونُ الخَطَرُ تَنْمو إمكاناتُ الخَلاص" ؟
4- مهاوي ما بَيْن النَّهْرَيْن
أراضي ما بيْن النَّهْريْن... منْ أراض للبدايات المَلْحميّة إلى أراض للنّهايات المَأتميّة... منْ مَهْد للكتابة والخيال العظيم، ومائدة لطعام العالم القديم، إلى هاويَة للّيْل البَهيم... كأنّ الأسطورة فيه رأت التّاريخ في مرآة سوداء معكوسة، وبَعْد أن كان الحُبّ هو دافع عشتار إلى التّعَرّي عنْد البوّابات السّبع أثناء نزولها إلى العالم السُّفليّ لاسترداد حبيبها تمّوز من أسْره الشَّتْوي لدى خصيمتها بيرسيفونا ، تكالب عليْها، بَعْد سبعة آلاف سنة، الوندال المحلّيون والإقْليميّون والدَّوْليون، مُحْترفين وأسْياد حَرْب ومُرْتزقة ومُمَوّلين وَوُسطاء، وعَرَّوْها في كلّ أرْصفة العالم وفضائياته النّفطيّة وغيْر النّفطيّة، واستباحوا جَسَدَها البهيّ اغتصاباً وحرْقاً، وجعلوا كلّ نخلة في ديارها تنْزف، وكُلّ مُسْتضْعَف يَنْكَسرُ، وَكُلّ رَمْز يَحْترق، وكُلّ حجَر يَئنّ، وحَوَّلوا الهلال الخَصيب إلى أرض محْنَة كُبْرى تَمْتَحنُنا في كلّ لَحْظة وتَستَدْعي أَعْمَقَ ما فينا في كلّ طَرْفة عَيْن...
5- يقظة "ديوتيما" في منام هولدرلين
مباشرةً بعْدَ الموْت المُبَكّر لحبيبَته سوزيت غونتار (الّتي كان مُدَرّساً خُصوصيّاً لوَلَديْها)، دَخَل هولدرلين، ابتداءً منْ سنة 1802، ليْل الجُنون الكبير، الهادئ، الشّبيه باستقالة سرّيّة منْ زَمن العالم، والّذي دام أرْبَعَةً وثلاثين عاماً، إلى أنْ حَرّرَه منْهُ فَجْرُ المَوْت الّذي ألْحَقَهُ أخيراً بتلْك السيّدة المُذْهلة الّتي أسْماها "ديوتيما"، تَيَمُّناً بكاهنة معْبد "دلْفي" الإغريقيّة الّتي نقَلَ عنْها سقراط، في "مأدُبة" أفلاطون، تعريفها الشّهير للحُب... غيْر أنَّ اللّيْل الّذي أحْدَقَ به أزْيَدَ منْ ثلاثة عُقُود لَمْ يكُنْ ليُطْبقَ تماماً على صَوْت ديوتيما ووَجْهها في أعْماقه. فقَدْ حَدَثَ أن انْتَبَهتْ منْ "منامها" في روحه، فكتَبَ في أواخر حياته، على لسانها، قصيدةً كانتْ بمثابة رسالة تلَقّاها منْ وراء قَبْرها قالتْ لَهُ فيها:
" إذا كُنْتَ لا تَزالُ تَعْرفُني
منْ مسافة البُعْد الّتي فرَّقَتْ بَيْنَنا
وإذا كان الماضي لا يَزالُ
يَحْملُ إليْكَ بَعْضَ الخَيْر
أنْتَ يا رفيق آلامي
أخْبرْني إذَنْ كيْفَ تنْتَظرُكَ الحبيبةُ
بَعْدَ سنوات مُظْلمَة ومُخيفَة
قُرْبَ أنْهار العالم الأقْدَس القديم. . .؟
. . . . . . . . . . . .
ها أنْتَ تُؤَكّدُ أَبَداً يا حُبّي
أنَّكَ وَحْدكَ في هذا العالَم
لكنَّكَ لا تَعْرف. . ."
6- خندق ماريانا : إلى هناك تعود الطّيور والخيول بعد موتها حين رأيْتُ الصُّوَر المُذْهلة الّتي التقطها المُسْتكشف والمُخرجُ السّينمائيّ جيمس كاميرون، منْ داخل غوّاصته العلّميّة الصّغيرة، لأجراف وجبال ومهاوي خندق "ماريانا" الواقع أسفل المُحيط الهادي، على عُمْق أحد عشَر ألف متر، أحْسَسْتُ بأُلْفة فوريّة معَ هاتيك الأغوار اللاّمحْدودة، وبسَكينة عظيمة، وفرَح كبير، كما لَوْ أنَّني أمام برهان جيولوجيّ محْروس بالمياه المّظلمة على وجود قرابَة روحانيَّة مع ذلك القَلْب اللامَحْدود، الخفّاق والبَهيم مُنْذ تأسيس العالم، حيثُ تعودُ الطّيور والخُيولُ بَعْدَ مَوتها، وحيْثُ تَتَجَمْهَرُ اللّيالي كما في القَلْب اللاّمَحْدود للحُبّ اللاّمَحْدود...
7 - ماه شرف خان : القلب شرق اللّيل
... "تُضيءُ منازلُ قلْبي منْ نُور تَجَلّيكَ هذه اللّيْلة،
تبْتَهجُ الملائكَةُ في وَميض مائدَتي هذه اللّيْلة،
تَفي بوُعُودكَ للنّرْجس والزَّنْبَق هذه اللّيْلة،
خصْلَةٌ منْ شَعر رَأْسكَ تَسْتَحيلُ إكْليلاً،
وَالدُّنْيا مَليئَةٌ بالمسْك والبخُور هذه اللّيْلة،
مُفْعَمَةٌ رَاحَتي بالذَّهَب المَنْثُور احْتفاءً بكَ
فَشَمْسُكَ تُشْرقُ على رُبُوع رُوحي هذه اللّيْلة. . ."
منْ قصيدة فَخْمة للشّاعرة الكُرْديَّة ماه شرف خان 1805- 1847
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.