الصفحات

'الفن الروائي' كتاب يعرض لنا كيف تكون المفاجأة في السرد الروائي

كتب : صبحي فحماوي
عندما تقرأ هذا الكم المدهش، وهذا النوع الراقي من الكتب الذي ترجمه ماهر البطوطي، إضافة إلى دراساته ورواياته المؤلفة، تدرك أنك أمام شخصية أدبية غير عادية.
ومن ترجماته، أجد بين يدي كتاباً، كان قد أهداه لي بعنوان "الفن الروائي" لـ ديفد لودج شعرت أنه أهم كتاب نقدي تعليمي قرأته حتى الآن في فن الرواية. وذلك لقدرة لودج - المتمكن من أفكاره - على توضيحها ببساطة، وتكثيفها بشدة، تحت مفهوم "المختصر المفيد"، في كتاب عدد صفحاته 256 من القطع الكبير، صادر عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.


والكتاب النوعي هذا يوضح قدرة البطوطي أيضاً على الترجمة الواضحة الدقيقة المختصرة المفيدة، فمن الضروري جمع التأليف الجيد مع الترجمة الجيدة، ليصدر كتاب جيد.

ومن قراءة أول "أبواب" هذا الكتاب المختص بمواصفات السرد الروائي - ولا أقول الفصول- ذلك لأن "الفصول" مرتبطة في ذهني بالفصول الأربعة.. نتعرف تحت عنوان؛ "البدايات" على قضايا كثيرة أهمها: "متى تبدأ رواية من الروايات؟ متى تنتهي بداية رواية ما؟ ما هي الجملة الافتتاحية لرواية ما؟ .. هل يضع الكاتب مخططا للعمل المبدئي؟

ونجد المؤلف قد وضع أمثلة على ذلك، موضحا أن هنري جيمس قد وضع ملاحظات لروايته "أسلوب بوينتون" تكاد تقارب الرواية نفسها.. حجما، وأهمية.

وعن "الجملة الافتتاحية الشهيرة" لرواية "فورد مادوكس فورد" يقول لودج إنها حيلة واضحة لجذب اهتمام القارئ. وقد يبدأ الروائي بخطوة فلسفية، كقول ل. ب. هارتلي: في روايته "الواسطة": "الماضي هو بلد أجنبي؛ إنهم يقومون بأشياء مختلفة هناك." وتبدأ رواية جيمس جويس "مأتم فينيجان" في وسط الجملة: "نهر يجري عبر حواء وآدم، من انحراف الشاطئ إلى منحنى الخليج.."

وفي الكتاب "أبواب" فنية نقدية كثيرة، مركزة ومكثفة، يستشف منها القارئ، وحتى الكاتب، مواصفات فن الرواية، ومنها نذكر؛ باب "المؤلف المتطفل"، إذ يقول في صفحة 16 من الكتاب: "أبسط طريقة لرواية قصة، هي حكايتها بصوت الراوي.. بصفته (المؤلف المتطفل). كما هو في القصص الشعبي"؛ "كان ياما كان في سالف العصر والأوان..." ولكن في بداية القرن العشرين صار صوت "المؤلف المتطفل" غير مرغوب.

وفي باب "التشويق" يقول لودج: "الروايات ما هي إلا سرد، يجذب اهتمام جمهوره، عن طريق إثارة الأسئلة.. وليس هناك موقف أكثر توليدا للتشويق من رجل معلق من أطراف أصابعه على سطح جرف هار.. وذلك في رواية توماس هاردي (عينان زرقاوان)".

ويوضح لودج أنه لا يمكن إطالة عنصر التشويق إلا بتأخير حل هذه المعضلات.. أو تأخير الإجابة على هذه الأسئلة.

وتستمر أبواب الكتاب وهي كثيرة، في توضيح ماهية "السرد الشفاهي"، وأسلوب "رواية الرسائل"، التي كانت رائجة رواجا كبيرا في القرن الثامن عشر، مثل روايتيّ "صمؤيل رتشاردسون الطويلتين، و"باميلا" 1741، "كلاريسا" 1747، حيث يمكن استخدام اليوميات في الرواية، وذلك من خلال أكثر من مراسل. وقد يعرض الحدث ذاته من "وجهات نظر مختلفة" مثل روايات هنري جيمس. وهناك روايات تعتمد على وضع "لغز" يحتاج إلى حل مثل روايات رد يادد كلبنج.

وفي الكتاب باب يركز على "أسماء الشخصيات"، مثل أسلوب ديفد لودج نفسه. كقوله: "وفتاة لم يتم تقديمها لك بعد.. فلنسمها (فيوليت)، لا، بل فيرونيكا، بل فيوليت.. إنه اسم غير شائع بين الفتيات الكاثوليكيات.

وفي باب آخر يوضح معنى "تيار الوعي" ويعطينا أمثلة من كتابات فرجينيا وولف.. ويتحدث مستخدما أمثلة من جيمس جويس، عن كيفية كتابة "المونولوج الداخلي".

وعن "إزالة الألفة" كما في روايات شارلوت برونتي، و"الإحساس بالمكان" كما في روايات "مارتين إيميس". واستخدام قوائم الأشياء فحوى الرواية، كما في روايات سكوت فتزجيرالد، وعن تقديم الشخصية الروائية، يسطر لنا لودج في كتابه أمثلة من روايات كريستوفر إيشروود.

ويعرض لنا الكتاب كيف تكون المفاجأة في السرد الروائي، ويعطينا أمثلة من كتابات وليم ماكبيس ثاكري. وقضايا كثيرة أخرى في السرد الروائي يعرضها لنا لودج.

وفي كتاب لودج النادر، الذي اختاره لنا ماهر البطوطي، بعناية ومعرفة خبير بالكتب، إذ أننا صرنا نصطدم بترجمات لمؤسسات ثقافية عربية حكومية تعرض لنا كماً من الركام الثقافي غير القابل للاستفادة منه، أو الذي يطفئ في ذهن القارئ العربي جذوة القراءة، ويبعد عنه الفهم. ويشهر كتابا غربيين مغمورين من أولئك الذين يصفقون للنهج الليبرالي الاستدماري الغربي الذي يبث سمومه على العرب، ويترجم بنقود العرب، ويغمر الأسواق العربية بأعداد قد تزيد على المئة ألف نسخة سرابية.. يحسبها الظمآن ماء.. ولا يتسع الوقت لذكر أمثلة. قد يأتي تفصيلها في وقت آخر.

ولهذا تميز ماهر البطوطي، الأمين على ثقافة وطنه العربي، باختيار أفضل الكتب لترجمتها، وتقديمها بصحتها الجيدة لتبني صحة عقول القراء والكتاب العرب بما ينفع الناس.

لهذا السبب أحببت ماهر البطوطي. وكنت قد اشتريت، واستلمت كتبا من مصادر أخرى، اكتشفت أنها إما تافهة، أو غاصة بالأخطاء النحوية والطباعية، أو أنها تسرب السم في الدسم.

قد تجد كثيرا من الكتب النقدية تتحدث عن الزمن في الرواية، والطقس في الرواية، والقارئ في النص، والتكرار في السرد، والنثر المنمق، والتناص، والرواية التجريبية، والرواية الكوميدية، ورواية القهقهة الباكية، ورواية الواقعية السحرية، مثل روايات ميلان كونديرا، وغيرها وغيرها من الأساليب السردية الروائية، ولكنك لا تجد كل هذه الأساليب مكثفة وواضحة مع أمثلة عليها لكتاب مشهورين عالميا كما في هذا الكتاب الذي أحسن ماهر البطوطي اختياره أولا، وترجمته الدقيقة ثانيا، وأحسن المجلس الأعلى للثقافة بإصداره بالقاهرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صبحي فحماوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.