الصفحات

يا ليتني و الموسيقا | عبد الحميد دلعو ـ راوند

http://mdoroobadab.blogspot.com
يا ليتني و الموسيقا :
نقراتُهُم على البيانو تُتْلى ، أولَى لعبقريَّتهم فأَولَى ... ثم أولَى لعبقريتهم فأَولَى ...
أناس مجبولون من وعي أعلى ، من ذكاء أرقى ، و وحي أبقى ...
أناس تتمنى لو أن يداً مقدسة امتدت إلى أرواحهم لحظة خروجها و جذبتها إلى أجسادهم مرة أخرى ، فأعادتهم أحياءً و بَرعَمَت عروقهم حيويَّة و نماءً ...!

تتمنى ذلك لأن بارومتر المعارف الإنسانية يرتفع بشكل ملحوظ في كل لحظة إضافية يعيشونها .... فتشعر بانقطاع الإبداع لحظة إنزالهم في قبورهم ....و لسان حالك أن ليت عزرائيل تجاوزهم لغيرهم ! فتعض على أصابعك بوهن العجز و تصرخ من حرقان قلبك: أن عد أيها العبقري إلى الحياة لحظة أو لحظتين ... لتسكُبَ من إبداعك كأساً أخيراً .. فقد يكون علامةً فارقة في تاريخ البشر ، و دمعةً تحول دفة القدر.
أناس فرضت مادتهم الدماغية و تركيبتهم العصبية نفسها على كَمِّ التراث البشري ... فالعبقرية تمخر أدمغتهم بأبعادها الثلاثية جيئة و ذهاباً ... طلوعاً و نزولاً ... غرباً و وَرْباً...
تراهم و الذكاء قد خاواهم ... و الدهاء إذ ما مرضوا داواهم ... و من ثم الفطنة ديدنهم و مسعاهم... أما النباهة فمبدأهم و منتهاهم....
إبداع صافٍ على حِلِّه .... و رخام يقف بجبروت شمسِهِ على ظِلِّه ... و تطوير يُلَخِّصُ ببعض تاريخ عصرهم كُلِّهِ.
من هؤلاء الجهابذة و العتاة الأبالسة ، العبقري الموسيقي ... ذلك الدماغ الذي كان يضخ 3 مليار كيلو متر مكعب من الألحان الرائعة على يد واحدة مضاهيا بغزارته سَدَّي ناصر و الفرات معاً ... ذلك (المَكَنَة) التي كلما شغَّلتَها تفجَّرت ألحانا.... ذاك الذي كان يلاعب الجميع على وتر واحد ..... و يغرق الكون بنصف شبر مكعب .... ذاك الذي دهن العالم الموسيقي كله بلون عوده ... من ( الرفاق حائرون ) إلى (موعوده) ... من (النهر الخالد ) إلى ( من غير ليه) ... (من عيون القلب) إلى (على الربابة) ...
لازلت أتمعن بتلك التركيبة العصبية الرهيبة القابعة في جمجمة جسده البشري الصغير ، تلك الروابط الدماغية العجيبة التي أتحفت تراثنا البشري بكميات ضخمة من موسيقا التطريب و الترنم .... لكأن رأسه وكراً لملايين البلابل الطنانة ، و الكناريات الرنانة ، ثم الحساسين الفنانة .... يعزفون عزفة رجل واحد ... و ترف أوتار أجنحتهم رفة وتر واحد ... و يردحون ردحة ناي واحد ...
مضخة ألحان لا تنضب ولا تمل ، و كل لحن فيها لا يعرف أخاً و لا شبهاً ، تراه قائما على نفسه بلا ظل ...
إنه عفريت السلالم الموسيقية ، جِنِّيُّ الأوتار القيثارية ، بهلوان الإيقاعات البيانونية .... ها هو يرسمها بصمت و هدوء و ضجيج و حرية .... من (الربيع ) إلى ( أول همسة) ... ثم ( على بابي واقف قمرين ) ...
ذاك الذي بعث الأرض عندما غنى لها ، لكأنه بعروقه و نبرته لحنها ... فأخرجها من ستين ألف قبر تحت الأرض ... إلى ستين ألف سماء فوق سابع كون.
موسيقي حتى يتعفن النخاع ... يرسم بالأوتار على صفحة السماء من الموسيقا قلاعاً تهتز لها قلاع ... فيأخذ الأبصار و تألفه الأسماع ... ليكسر في نهاية الطريق من الحب كله... و الأطلال و الأوجاع....
هذا الذي بزَّ الجميع و تسلق على أجداث الأفكار بعد أن حولها لأشباح فجلس على عرش الحقيقة...... ليستفز حاسة السمع لدينا( فيكلبشها) بالسلاسل كشرطي لا يعرف الرحمة ثم ليحكم عليها بالمؤبد .... فترى نفسك مضطراً أن تكون رحبانيا كل صباح ... فيروزيا مع زخات الأقاح..... يوميا بلا كل و لا مل و لا ارتياح....
أناس بشخابيرهم على السلالم الموسيقية يأسرون العقول هاجت ألحانهم فراجت ثم اهتاجت و ماجت ثم لربها ناجت ...
خذ مثلاً ذاك البليغ البليغ ... فالناس لكل ألحانه تستسيغ ... حيث دار بالشرق في حنجرة صباح (عاشقة وغلبانة) ...و خبأ الغرب في جيب داليدا (حلوة يا بلدي) ... و صب على شادية سكر ... فهرهر على عدوية فزادها حلاوة كعيون بهية ....
إنه المظلوم في فوضويته ، المطحون بشاعريته ، الميئوس من توقف عبقريته ...
إنه الموسيقي .... صانع الألحان ... فتحية إكبار و حب إلى كل ملحن ...إلى كل كاتب نوتة .... إلى كل راسم لقصيدة .... إلى كل فنان ... إلى مصمم السعادة على الورق ...
لو عاد بي الزمن إلى الوراء لاحترفت التلحين كي ألاعب الضوء بالحروف.

عبد الحميد دلعو ـ راوند

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.