الصفحات

قراءة في كتاب ـ لغز المتنبّي ــ لكتاب ـ لغز المتنبّي ــ للدكتور نزار بريك هنيدي | بقلم :طاهر مهدي الهاشمي

العودة إلى المتنبّي , هي استعادة لشاعر كبير يخرق جدار الزّمن , وأن يتخطّى القرون المتوالية فارضاً نفسه على المعترك الشعريّ الراهن , والمعاصر الحداثيّ , ومرسّخاً شخصيته التي لم تتأثّر بما تعرّضت له من حملات عدائية , وبما واجهت من مواقف نقدية , وكان وما زال ظاهرة حيّة , وسرّاً من أسرار العبقرية الشعريّة , وشخصية إشكالية حافلة بالألغاز .... ).
هذه المقولة من جملة ما قدّمه للكتاب الدكتور علي القيّم معاون وزير الثقافة في سوريا .

وأرى أنّه حين يكتب شاعر متميّزٌ في عصرنا هذا كالدكتور نزار بريك هنيدي بكل مالديه من تألّق وشاعريّة وثقافة وحسٍّ نقديٍّ لمّاح , عن شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس وما زال ويزال ملوّحاً بقامته الشّمّاء , تلك القامة الفكرية العتيدة المطلّة على كلّ العصور بباذخ ثرائها وبهيّ حضورها , فيعني ذلك أن خير من يكتب عن الشعر شاعر , وأجدر من يفهم شاعراً شاعرٌ مثله في هذه الآونة التي نحن فيها أحوج ما نكون إلى عروبة الفكر والسلوك , وإذ تصدر الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة في دمشق كتاب (لغز المتنبي) للدكتور الشاعر نزار بريك هنيدي , ملحقاً بمجلّة المعرفة الشهريّة العدد 643 تاريخ أيلول 2015م فذلك بمثابة اعتراف بأهميّة الشّعر والشّعراء والحيز الذي يشغلونه في دائرة الثقافة .
يضمّ الكتاب تسعة أقسام يتناول أولها : أسطورة المتنبّي الشخصيّة وفيها يستعرض الكاتب مولد وأصل وبيئة المتنبّي متناولاً حياة هذا الشاعر بما حفلت به من سمات تدهش الناس وتثير إعجابهم , فهو يتميّز بالجرأة والاندفاع والثورية , هذه السّمات التي عانى في سبيلها المتنبّي الكثير , لكنّه لم يتخلّى عنها رغم السجن والتشرّد , مما أثار عواطف الناس معها في كلّ مكان وزمان . يقول الدكنور نزار : ( وهذا ما نلاحظه حتى في الشخصيات الروائية المتخيّلة التي مثّلت الفتى المتمرّد على شروط واقعه , الذي يكافح من أجل قناعاته , ويدفع الثمن غالياً دون أن يرضخ أو يستسلم للعوامل التي تحاول الحدّ من ثورته واندفاعه ) .
ويشير الكاتب إلى طبع من طباع المتنبّي يلازمه إلى آخر يوم من حياته ألا وهو (الطبع السندبادي) كما سمّاه الناقد الكبير إيليّا حاوي . فهو في سفر دائم , باحثاً عمّا تاه عنه , متوهّماً في كلّ مرّة أنّه عثر عليه , ليتبيّن له أنّه ضلّ عنه وخدع في الوصول إليه .ليعاود بحثه من جديد , وما كانت هذه الأسفار والرحلات المضنية في البراري والقفار إلّا تعبيراً عن (القلق النفسي والتحيّر والنزوح الوجوديّ و الماورائيّ , وكأنّ النفس تتحرّى عن ضائع لا قبل لها بأن تعثر عليه في هذا العالم ) . وهذه الأبيات تؤكّد ما ذهب إليه الكاتب :
_ فما حاولت في أرضٍ مقاماً...ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا
على قلقٍ كأنّ الريح تحتي ..... أوجّهها جنوباً أو شمالا
ثم يتطرّق الكاتب إلى علاقة المتنبّي بالحكام والأمراء التيّ بناها على أساس النّديّة والعنفوان فيظهر لنا كيف كان الناس يعجبون به لعدم إذعانه لشروط وتقاليد هؤلاء الحكام , وقد استطاع المتنبّي كما رآه الكاتب أن يضع أسساُ جديدة للعلاقة بين المثقّف والسلطة .
وهو في هجائياته لكافور الأخشيديّ وسخريته منه يجسّد تلك الرغبة الكامنة في وجدان الشعوب االتي تعاني من ظلم حكامها وتنعنّتهم . ولا يمكن أن ينسى ذلك الموقف الذي أنهى حياته التي كان بإمكانه إنقاذها حين تعرّض له فاتك الأسديّ وجماعته , فقاتلهم قتالاً شديداً ثم فرّ منهم لولا أن غلامه قال له : أين قولك : الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم .
فقال : قتلتني قتلك الله , ثم قاتل حتى قتل . هذه الموقف الرائع من المتنبي حفظه له التاريخ وحاز احترام الأجيال .
ينتقل الكاتب إلى موقف المتنبّي من الزمن , فيدخل على الزمن من منظور ما يعترض البشرية من ظلم وجور وفقر ومرض , وما يطغى فيها من انخفاض منسوب الأمن والعدالة , الذي أصبح الزمن بموجبه محط النقمة والشكوى والتذمّر :
يقول المتنبّي في توصيفه للزمن وشروره : _
(رماني الدهر بالأرزاء حتى ...فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ...تكسّرت النّصال على النّصالِ ) .
لكن المتنبي كما يراه الكاتب لم يرضَ بالاستسلام , بل أخذ يقارع الخطوب , ويصارع المصائب حتى باتت نيوب الزمان تعرف قوّة وصلابة عزيمته :
_( إنّ نيوب الزمان تعرفني... أنا الذي طال عجمها عودي ) .
الدهر عدوٌّ آخر من أعداء المتنبّي , هنا يتساءل الكاتب الفطن عن سرّ عداوة الزّمن للجوهر الإنسانيّ برمّته والمتمثّل بالشاعر . إنّ الزمن في مفهوم المتنبّي لم يكن كذلك في سابق عهده أو في أوّل بزوغه فقال:
_( أتى الزّمان بنوه في شبيبته ...فسرّهم وأتيناه على الهرمِ ) .
لكن هذه الفرضية تداعت عند تأمّل المتنبّي للزمان وتقلباته , فعند بعض الناس يكون الزمان حلواً لكنّه يحتاج إلى القوّة لتحقيق تلك الحلاوة . فالعلّة في الناس وليس في الزمان .
الزمن لديه يفرّق الأحبّة ويتلف القوى , فيذهب بالصّحة والشباب , ويضعف من الشعور بالحبّ والجمال . يلصق المتنبّي بالدهر صفة الغدر فهو معطّل لطموحاته , معرقل لأهدافه , سالب لحقوقه , وبالتالي فإن المتنبي يرفض عطاء هذا الزمان الخؤون القلّب الذي لا يثبت على حال . لقد أعلن الحرب على الزّمان غير آبه لما سيجرّ عليه من ويلات , وفي غمرة هذا الصراع غير المتكافئ , كان لابدّ للشاعر من أن يعتمد وسائل أكثر جدوى , فيلجأ إلى القوّة العاطفية , والصبر والحلم .متّخذاً البطولة درعه الواقي , إلّا أنّ الوسيلة الأنجع لتطويعه هي في الفنون بأشكالها المتنوعة يؤمّها الشّعر , تلك الحقيقة الأزلية التي تتجلّى فيها سيطرة الإنسان على الزمن من خلال الإبداع وما يخلّفه من آثار خالدة لا يقوى عليها الزمان . يقول المتنبّي :
_( وما الدهر إلّا من رواة قصائدي ...إذا قلت شعراً أصبح الدّهر منشدي ) .
يرى الدكتور نزار مؤلّف هذا الكتاب بأنّ الإنسان في جوهره يسعى إلى تحقيق التكامل في ذاته من خلال سعيه إلى تجاوز محدودية وجوده , فهو في انطلاقه إلى تحقيق هذه الغاية يتّخذ من الفنّ وسيلة يفضي من خلالها بأشواقه إلى أن يكون سيّداً مطلقاً على وجوده ومصيره . ويقول : (ربّما كان المتنبّي من أكثر شعراء العربيّة تجسيداً لنزوع البشرية إلى (الإنسان الكامل ) . إن المتنبّي لا يستعظم غير نفسه ولا يقبل إلّا لخالقه حكما . وهو لا يقبل التشبيه بشيء :
_( أمط عنك تشبيهي بما وكأنّه ...فما أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي ) .
وهو أبعد ما يكون عن النقصان والعيب , لا تنقصه معرفة , إنّ علمه وعلمه بالزمان أكبر من أن تسعه الأزمان نفسها , إنّ ذاته أكبر من أن تسكن اللحم والعظم . إنّه أصل الموجودات في الطبيعة , وهي التي تسعى لأن تتشبّه به . إنّه في تخيّل نفسه مسيطراً على الليالي , قابضاً على زمامها لا تسير إلّا بمشيئته , يتجاوز فضاء النبوّة إلى مطلق الألوهة .( فالإنسان مركز الكون ولبّ الوجود , وإذا كان الدهر لفظاً , فالإنسان معناه وجوهره ) :
_ (الناس ما لم يروك أشباهُ ... والدهر لفظٌ وأنت معناهُ ) .
إنّ عروبة المتنبي كما يراها الدكتور نزار كانت الهاجس الأوّل ا لذي كان يتحكّم بسلوكه وفنّه
وهذا الهاجس يعتبر من أكبر المؤثّرات في في حياته العملية وأبلغها في حياته الفنيّة .على رأي الدكتور طه حسين . وعلى حدّ تعبير الدكتور زكي المحاسني :( أكثر شعراء عصره حماسة للقومية العربية وإحياءً لها ) . وقد تنبّه إلى ذلك المستشرقون , فلاحظ ريجيس بلاشير أنّ رواج المتنبّي في العصر الحديث عائد إلى ( التأثير القومي وفكرة الجامعة العربية اللذين دفعا المسلمين إلى البحث في الشرق الوسيطي عن رجال يواجهون رجال الغرب ) . فأصبح المتنبّي (ممثّلاً للعبقرية العربية المنتصبة في وجه العبقرية الأعجميّة) .
لقد أصبح المتنبيّ ممثلاً للشخصيّة العربية الأصيلة بما تختزنه من سمات وقيم و وتراث وحضارة , وقوّة وعنفوان .
ويتطرّق الكاتب في كتابه عن المتنبّي إلى المظهر الأكثر بروزاً من مظاهر خلود شعر المتنبّي وانتشاره بين الناس فيقول: (في الحقيقة فإن كثيراً من الأمثال الشائعة التي تدور على الألسنة اليوم هي من أبيات المتنبيّ , وقد ذاع بعضها ذيوعاً لم يعرفه أيّ كلام آخر في تاريخ اللغة العربية . بل ان الناقد الكبير إيليّا حاوي يذهب أبعد من ذلك حين يقول في كتابه عن المتنبي : ) إنّ الآية الشعرية لا تكتمل إلّا إذا نزلت عليه فيها آية حكمية توجزها وتؤكّدها وتمنحها اليقين العمومي الراسخ . وهكذا تراه يصيح وتصيح معه أفواه العصور حتى يومنا هذا :
_ (ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ...تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن ) .
إنّ الكاتب يؤكّد من خلال بحثه الدقيق والعميق في هذا اللّغز العظيم , من ألغاز الخالق والمتمثّل في شخصية المتنبّي , على عمق فهم المتنبّي لطبيعة النّفس البشريّة , وقدرته على التقاط المواقف ذات الحساسية الخاصّة بالنسبة للجوهر الإنسانيّ بالمطلق , وبراعته في تلمّس الحلول التي توافقها , وعبقريته في وضع المعادل الشّعري لها , هي التي كفلت لحكَمه وأمثاله البقاء والانتشار , كما كفلت هذه الحكم والأمثال نفسها , خلود المتنبّي كشاعر من شعراء الإنسانية الكبار , في العصور جميعها ) .
ثم ينتقل بنا الكاتب إلى ثقافة المتنبّي تلك الثقافة المتميّزة التي خوّلته ليبدع أعمالاً تجدر بالبقاء والخلود , وتصلح لتمثيل الجوهر الإنساني الأصيل .
ويسرد الكاتب المصادر التي استقى منها المتنبّي ثقافته المتنوّعة والواسعة إلى أقصى مداها من لغوية وفلسفية وصوفية مكّنته من تطويع اللّغة ومنحته القدرة على التصرف بها .
وليس أدلّ على سعة اطلاعه ومثابرته على المطالعة والدرس إلّا ما أورده الأصمعيّ في صبحه وهو ( أنّه لمّا قتل المتنبّي وُجد معه ديوانا أبي تمّام والبحتري ّ بخطّه .) .
ثم يحدّثنا الكاتب عن صناعة المجد عند المتنبّي والترويج الذاتي له فيخبرنا أن المتنبّي كان يسعى ويبذل قصارى جهده لتحسين وتنقيح ما يكتب , فهو يسهر /ولا ينام كما يدعي / على العناية بشعره والترويج له فيلجأ إلى مجموعة من الوسائل التي تحقق غايته , فادعاؤه النبوّة كان واحدة من هذه الوسائل , ومنها أيضاً استخدامه لبعض الحيل ليوهم الناس بقدرته على الإتيان بالمعجزات . وكان يهدف من وراء كلّ هذا إلى جعل الناس تلهج باسمه وتعترف به كإنسان متميّز يحوز من الملكات والقدرات ما لم يحز غيره .
كتاب ممتع , يسلّط الضوء على ما خفي عن الناس من فنون الذكاء والحنكة التي تكمن وراء عظمة المتنبّي وشهرته وخلود ذكره وشعره حتى وقتنا الحاضر بما يكمن وراء هذه الشخصية الإشكالية من حوادث وملابسات وفهم خارق للكون ولحقيقة النفس البشرية في وجودها المطلق عبر الزمان والمكان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.