الصفحات

مبدعات ليبيا يضمدن جرح الوطن بالشعر

وكأن كابوس الخريف الذى بدا فى ظاهره ربيعًا عربيًا، ثم أتى على الأخضر واليابس فى المنطقة العربية، أزاح- ودون قصدٍ من مخططى الدمار- عدة كوابيس أخرى راكدة فوق صدور وأذهان المواطنين فى عدة بلدان عربية، خصوصاً المرأة، هذا الكائن الذى تجرع مرارات تاريخية – ولا تزال - جرّاء الثقافة الذكورية المسيطرة على الذهنية العربية منذ أكثر من ألفى عام، ومن عجبٍ أن تجد الكثيرات من نساء العرب يستمرئن هذا الانتهاك القاتل لأى إنسانية!


ولكل راءٍ، فإن المرأة العربية هى التى دفعت أكبر نسبة من تكلفة خراب هذا الربيع المزيف، فى كل الأحوال، ومن منا لم يشهد متحسرًا، تلك الموصلية المسيحية أو الإيزيدية، وهى تُساق للبيع كأنها شاة أو دابة؟!. ومَن مِن أى جنسية فى الكون؛ لم تحترق مفازات روحه؟ وهو يستمع إلى المآسى القاتلة على ألسنة السوريات والعراقيات وغيرهن من جنسيات أخرى مع الانتهاك الجسدى فيما سمى "نكاح الجهاد" الذى باركته ثلة من حقراء الإفتاء مثل العريفى ومفتى الناتو القرضاوى وغيرهما، ممن لا تزال البرمجة المخربة لجماجمهم، لا ترى فى المرأة سوى سلعة، أو آلة جنسية وكفى!
وبعد تلك التقلبات التى يحلو للبعض تسميتها بالثورات، فى البلاد التى لا توجد بها قواعد عسكرية أمريكية، وتم اختصاص بلاد الحضارات والتاريخ مثل مصر وسوريا وليبيا والعراق وتونس واليمن بهذه الانتكاسات، وبدا لكل ذى عين أن هذه التقلبات والأحداث الدامية التى تم التدبير لها بليلٍ، لم يكن لها هدف سوى تدمير ذاكرة الحضارات، وكما رأينا أنها- أى الأحداث- كلفت أول ما كلفت هذه البلاد أجزاءً كبيرةً من تراثها الحضاري، وهو ما تمثل فى نهب المتاحف وتكسير التماثيل الأثرية، ما بدا معه وبكل تأكيد أن مؤامرة سايكس بيكو القديمة لا تزال تتجدد فى محاولة تقسيم المقسم، باللاعبين ذاتهم، وأضيف إليهم بعض الخونة والمتعاونين من البلدان العربية والمسماة إسلامية ( قطر – السعودية- تركيا) ولم يحدث أى تغيير يذكر فلا الرفاهية طالت اليمن ولا الديمقراطية عمت العراق ومصر وليبيا، رغم ما لوحت به الدعاية الأمريكية، وهى تقوم بإزالة رؤوس بعض الأنظمة؛ سواءً طواعية (مصر- اليمن) أو بالقتل (ليبيا) أو بالاحتلال الأممى (أمريكا وبريطانيا وخدامهم من الدول الخليجية) وبالإعدام ( العراق) أو بمحاولة إزالة الأخرى بتكسير الجيوش (سوريا- العراق).

غير أن المبدعات فى كثير من الأقطار العربية التى عانت ولا تزال مثلما فى العراق وليبيا وسوريا، تحملن وحدهن عبئين، عبء الاحتراق بنار القتل والتدمير لأسر وعائلات؛ بل قرى بكاملها، وهناك كثيرات من بنات سوريا و العراق واجهن تلك العصابات الإرهابية بالسلاح مثل الرجال بل أكثر وأصدق، والعبء الثانى الذى تكبدته المرأة العربية المبدعة، كان فى محاولات استيعاب ذلك كله ومكابدات التعبير عنه أو طرده خارج أرواحهن، ومحيط بلادهن، بالكتابة.

وعبر موقع "فيسبوك" وجد الكثيرون من البشر؛ نساءً ورجالًا، فتياتٍ وشبابًا، متنفسًا لبث أوجاعهم، والتعبير عن آرائهم، بشتى الصور، شعرًا و رسمًا وكتابات حرة، ومقالات، أو تدوينات قصيرة تحمل المعنى المراد توصيله، وفى هذا البراح الواقعى الذى كنا نسميه افتراضيًا، تعرفت إلى أصوات شعرية كثيرة، لمبدعين ومبدعات من عدة أقطار عربية عبر صفحة " نص ولوحة" التى أنشأها كاتب هذه السطور، وعبر الصفحة حاولنا خلق التفاعل بين اللوحة والنص الشعرى أو القصصي، وما إلى ذلك من شتى تجليات الكتابة الإبداعية الحرة، وكان الفضل فى التعريف بالشاعرات الليبيات الشابات أو الجديدات على للصديقة الشاعرة حنين عمر، ولفت نظري، حين خصصت الصفحة أسبوعين لنشر إبداعاتهن، ذلك الثراء والزخم الإبداعى لدى شاعرات ليبيات واعدات، معظمهن فى سنى الشباب الأُوَل، مثل منيرة نصيب وحنين عمر وأمانى محمد عبد الدايم ومناى إبراهيم وبسمة سالم وغزل عبد الهادى ومناجى بن حليم وخلود الفلاح وغادة البشارى ورود يونس ونسرين البشارى وأمل بنود، وغيرهن الكثيرات، إضافة بطبيعة الحال إلى المبدعات المتمرسات، مثل حواء القمودى وعائشة المغربى وغيرهن.

والرائى عن قرب للمشهد الشعرى فى كثير من الأقطار العربية، وخصوصًا ما تنتجه المرأة الشاعرة، يلمح أن هناك تغييب تام للمتابعة النقدية أو على أضعف الإيمان ترك مساحة لهذا الضوء الشعري، كى يرى ما يريد ويكون كاشفًا عما آلت إليه الأحوال، وليس المشهد الشعرى الليبي، وبالتحديد النسائى منه، هو وحده الذى يعانى الغبن والتحجيم، بفعل سطوة الثقافة الذكورية التي- ويا للغرابة- تتبناها كاتبات وشاعرات وكأنهن يعملن ضد روحياتهن سواءً انصياعًا أو عبر اقتناع زائف!

وتتحمل الأجيال السابقة و المعاصرة إثم بل جريمة غض الطرف عما جرى فى النهر من مياه جديدة، أو بالحرى إهماله عمدًا لصالح تكريس ما هو مستقر وراسخ، خوفًا من أى جديد، يكشف عفن وزيف هذا الراسخ المستقر الذى لم يتحرك لا فى إطاره الفردي، ولا أحدث أى نقلة نوعية فى تخوم الفن اللامحدودة، لذلك لم تكن مفاجأة على المستوى الشخصي، ونحن بصدد إعداد ملف عن الشاعرات الليبيات الجديدات سواء كنّ من الشابات أو سواهن، أن تصدمنى إحدى الشاعرات (الكبيرات سنًا) وممن بروزهن الإعلام الذكورى الغبي، بقولها " إننى لا أعرف أحدا.. أنا الشاعرة المعروفة وكفى، لست مسئولة عن غيري" !!! وبالطبع علامات التعجب من عندى لما زلزلنى من هول الذهول!

وكما قال صلاح عبد الصبور فى مسرحية "ليلى و المجنون" على لسان بطله: " قل شعرًا فهو أخف الأضرار"، فمن الأفضل والأجدى لنكن مع الشعر، ومكاشفاته لنه عبر عدة نصوص مما أتيح لنا قراءته عبر صفحة " نص ولوحة"، هذه القصائد تمثل عينة لا بأس بها من الشاعرات الليبيات، ممن تمت الإشارة لهن فى قلب هذه السطور، كل منهن تمثل عالمًا مختلفًا، ولكل شاعرة منظورها الرؤيوى المغاير، للذات وللمجتمع وللعالم من حولها، بطبيعة الحس الإنساني، وفى القلب من هذا وذاك لكلٍ منهن مذاقها الشعري، بما تنتجه الصور و استخدامات وتشغيل المفردات.

فى "حالة مالحة للغياب"، تبكى "الشاعرة عائشة إدريس المغربي" شارع الذكريات، وتتعدد مستويات التذكر هنا، وتتطور من دلالة الشارع المكانية إلى تخوم اللون الذى يتأرجح فى لا زمانية لا تستكين مابين ماضٍ يسكن شفق الروح وهو ما يمثله تجليه " البنفسجي" وبين حاضر محترق؛ إن بالشوق الداخلي، أو بما ارتكبه الأبالسة من جرائم طالت الشارع الليبى وجعلت من صورة الأجساد المحترقة التى لن تنساها الذاكرة لأجيال، دليل إدانة كل من عبث بشفقية هذا الشارع وواقعه السحري، اللون هنا لدى عائشة المغربى يؤشر إلى واقع معيش مؤلمٍ ومؤذٍ، وواقعٍ مُوجع الفقد؛ متخيل فى الذاكرة فى آن واحد، فما الذى أحال "شارع الذكريات البنفسجي" إلى "الشارع الذهبى المكتظ بأجساد محترقة"؟!

لنقرأ ونرى كيف تتبلور الصورة وتتطور فكريا لدى الشاعرة فى مقطع مجتزأ من القصيدة:
الشاعرة مناجى بن حليم

( سأبكي
وأنا أجرى فى شارع الذكريات البنفسجي
أبحث عنك
أفتش قلب العام بأصابعى المحمومة بالتوق والحبر
أجرى إلى الشارع الذهبي
المكتظ بأجساد محترقة
على رصيف الخريف
سأبكى كثيرًا
وأنا أنقر قلبك المنسى فى الفراش)
إلى أن تقول:
( أنا هنا فى هذا العام
أتمدد فى اتساعه
دون خريطة تدلنى عليك
سأبكى بضحكة تفيض
حتى أتبدد فى المحيطات
علنى ألمسك فى الماء
وألتصق بك كالملح
وأشدك لليابسة
قاربا يشتهى النجاة بي! )

وفى عالم موازٍ يتشكل الفقد أيضًا كصورة شعرية حادة، وإن اختلف المنظور والمآل هنا، لا تشير فقط أو تومئ شعريًا، بل بفأس الشعر، تواجه "الشاعرة منيرة نصيب" أزمتها، بل أزمات بنات جيلها، إن لم تكن أزمة الأنثى العربية بشكل عام، فما أن تفتح عينيك، أنثى كنت أو رجلاً، تصفعك موانع الفعل والتقدم وكاسحة التأمل وتحقيق الذات، وهى ما تتمثل فى كلمة " حرام !"، ولا يتوقف الحرام عند إدعائه الديني؛ بل يتسرسب إلى الاجتماعى والثقافى والمعيش بشكل عام، وإن نجحت هذه الكاسحة فى كبح كثير من الأفعال الإنسانية، فهى لن تنجح فى كتم أفاعيل الروح، والتعاطى السرى للحياة، وإلى مقطع للشاعرة منيرة نصيب، يرصد ذلك بوضوح، ويتغلب عليه سريًّا داخل الأنا، حتى ولو باللعن أو بتحقيق التواصل رغما عن كل هذه السياج بالجلد بعطر الحبيب الغائب أو الممنوع لقائه:
( أخى يقول أن الشعر حرام
زميلتى تقول أن الموسيقى حرام
جارنا أيضاً يقول أن العطر حرام
وأنا ؟
أنا لا أقول شيئاً
فقط ,
ألعن عينيك
ألعن ضحكتك
ألعننى ..
وأجلدنى بعطرك وأنام! )

الشاعرة حنين عمر

غير أن لغة شعرية، تتجلى نتاج تزاحم أفكار وتصارعها مع بعضها البعض أو تتشاكل مع الواقع المطلوب معايشته؛ وعبر ذلك تلتقط "الشاعرة حنين عمر" سر المأساة الإنسانية، إنه ذلك الصراع الأبدى بين المتوهم والمعيش، بين الفيزيقى والميتافيزيقي، بين ما يؤمن به العامة والدهماء وممن أراحوا رؤوسهم إلى ماهو جاهز، بين ما يراه الشاعر/ة، بين السكون والتمرد، لذا فهى ترتحل فى الزمان، وإن ذهنيًا إلى حيث البدايات الأولى، قبل تشاكل القشرات المسماة حضارية، وطمسها لمعالم النقاء الفكرى والرؤيوى فى بكارتها، قبل إثقالها بميراث من العنت وقبل أن يتم سجن فكرة المطلق وخصخصتها فى بنايات محدودة، بعد أن كان طليقًا يمتلك حريته ليتجلى فى ضوء النار، أو فى رائحة خبز " الحياة" تصنعه امرأة عادية لأطفالها، إلا أن الكهنة الجُدد حولوا هذا الجمال إلى مسخٍ ما حسب مقاييسهم، وصار مثل اللاشيء فى فراغ، غير أن ما يحسب للشاعرة حنين هو توظيفها للمفردات العادية جدًا والبسيطة بساطة السعى نحو التحدث بلغة الشارع، حتى تستحيل بتجاورها وتشاكلها مع بعضها البعض أو مع الحالة المراد طرحها إلى كيان شعرى متفجر:

( أريد أن أجرب لأعيش
كامرأةٍ عاديةٍ
تحتطبُ من الغابة
وتشعلُ النار
لتصنع الخبزَ بيديها
فى آخر النهار
كنساء القرية هنا..
حتى أرى الله
إنه لا يعيش فى الفراغ
كما يزعمون
ولا فى الزوايا كما يظنون
ولا بالمآذن
ولا حتى بأجراس الكنائس )

وبعد الخروج (على) فكر القطيع، شاهرةً رؤاها الشعرية وهى كل ما تملك، ها هى الشاعرة حنين عمر، تواصل فى قصيدة أخرى، محاولاتها للخروج (عن) القافلة/ القطيع، فى إطار رؤيوى أيضًا، بعد أن تم تقتيلهن بصلبهن، تتصاعد خيالاتهن أرواحًا، ولا تترقب الشاعرة سوى ظلال الذئاب على البرك/الدماء، ولا يبقى صوت كلاب تتعارك:
( يصلبوننا على أبواب المدينة
فى وضح النهار
الخيام منتصبة
وعصا الراعي
تهش القطيع
والذئاب التى احتشدت
تنعكس ظلالها فى
البرك المجاورة
أنا أصرخ
هى تصرخ
تلك تصرخ
تتردد صرخاتنا بالفراغ
والكلاب يعلو نباحها
تتعارك
والضوء خافت داخل الخيمة
الجو خانق
خلف ستائر الخيام
امرأة ترنو للهروب)

خلود الفلاح

غير أن شاعرة مثل "خلود الفلاح"، لم ترد التورط لغويًا أو شعريًا فيما يدور، بل اختارت المفردات المحايدة، التى تجعلها ترقب ما يدور على بُعد، وإن لم تنقذها تلك الحيدة من التورط انفعاليًا وشعوريًا، على الأقل مع هذا الفراغ الذى تملأه حكايا الفتيات الصغيرات عن آبائهن أو آباء غيرهن الذين ذهبوا إلى الحرب ومابين عدم عودتهم أو ربما استشهدوا وأولئك الصغار لا يدرين ما الذى حدث، خاصة وأن هناك من يملأن الفراغ أو قل الخراب بصناعة الفرح وهن الأمهات
( الفتيات الصغيرات
يملأن الفراغ
بحكايات قديمة
عن أباء ذهبوا إلى الحرب
وأمهات يصنعن الفرح
الفتاة الصغيرة
برفقة الدمية الوحيدة
تتأمل بكاء الضيوف
على أباء ذهبوا إلى الحرب)


الشاعرة حواء القمودي

وفيما رأينا طفلة خلود الفلاح " فى القصيدة طبعًا" تنتظر مع دميتها الوحيدة، لا تتفهم بكاء الآخرين على آبائهم أو آباء غيرهم الذين ذهبوا إلى الحرب ولم يرجعوا، ها هى "الشاعرة حواء القمودي" بوعيها المتمرس شعريًا؛ ترقب العالم ينهار فى قصيدتها "أرقبُ العالمَ ينهارُ"، ولا يتمظهر انهيار العالم فى الخرائب التى تراها العين، وكفى، ولا فى الدماء التى طالت أكواب شاى صباحاتنا المدماة منذ أكثر من 6 سنوات، فحسب، بل فى الحالة التى تسبق رصد كل هذا ، منذ بدء القصيدة: (إنهم فى انتظارك.. يسمونك قصيدة جديدة.. يترقبون هطولك فى روحي.. تشكل قسماتك بين يدي.. وأنا فاغرة القلب) هنا يتبدى الخراب داخل الروح قبل أن يتمظهر خارجها فى البنايات المهدمة، والدماء التى تغطى البياض، والجثث التى تنتظر قبورًا ترتاح فيها، والأشياء التى طالتها التشوهات، إلا أنه هناك هذا المخلص الكامن داخل الشاعرة، ربما يكون شخصًا أو معنىً، أو وردة تنبت بين هذه الخرائب، فالروح الشاعرة لا تحتضن الخرابات رغبة فيها بل لتعيد تشكيلها وفق ما تصبو إليه من جمال، قد يتحقق فى قصيدة، تغير فى متلقيها من حاملى آلام وعذابات الخراب، ولا يدرون ماذا يفعلون، فهناك الكثير من الحب ولو اقتضى الأمر أن نمشى حفاة، وهى أى الشاعرة واثقة أن ما بداخلها سيغير هذا العالم أو على الأقل يرطب روحه من حروقات القبح " فأنا أكتبك.. أقاوم الخراب بك"
( إنهم فى انتظارك
يسمونك قصيدة جديدة
يترقبون هطولك فى روحي
تشكل قسماتك بين يدي
وأنا فاغرة القلب
أرقب هذا العالم الخرب ينهار
الدم يغطى البياض
والصلوات لم تعد تعرف .. أين تذهب
وأنا انتظرك
وأتسمّع وقع خطواتك الواجفة
نعم
هذا العالم صار مقبرة
لكن الشمس تشرق والنسائم تداعب خدود الصبايا
والبحر لا يغادر زرقته
والخطيفات تخبرنى أن طفولتى مخبوءة تحت جناحها
وثمة ولد يترقب قبلة من فم حبيبته الشهي
هناك الكثير من الحب
والجمال
والضوء
لذا يمكنك الهطول
والطيران
والمشى حافية
فأنا أكتبك
أقاوم الخراب بك)

وفى نفس شعرى مغاير، بل لا مغالاة إن قلنا أنه تجريبي، بمعنى هروبى من تبعات الواقع وحضوره الكثيف فى نصوص أخريات، مما أثقل المس الشعرى فى تلك النصوص، لكن ها هنا تتطوح "الشاعرة مناى إبراهيم"، وهى تبحر بمفردات خاصة جدًا، تنتج بلا شك صيغ شعرية مضادة للواقع المعيش وإن تأسست على نقضه أو إيجاد صورة جحيم بديلة، وكأنها تؤسس لشعرية اللاوجود، الذى يتحقق فيه كل الوجود للروح الشاعرة :
( الجحيم فى القاعه السادسة
تلك التى لا نوافذ بها
يلهو منها القمر
قرب طاولة بها إطار
لا يذكرنا بوجه أحد
كعب لا قدم يشاغبه
رقعة شطرنج يلعبها ثلاثة!
موسيقى تعزف للغرباء
مواسم نكسر بها كؤوسنا
فارغين من الحب )

وتتبدى مظاهر الاغتراب، لدى مناى إبراهيم- الشاعرة الشابة التى لم تتجاوز منتصف العقد الثانى من العمر- بل التمركز حول كل ما هو افتراضي، فى هذا الاعتناء بكل ما هو متوهم، مع إدراك ذلك تمامًا، تتوسل الشاعرة عبر " تشييء" حواسها وأجزاء من جسدها، بتصورها أو محاولة جعلها أشياء تساعدها فى التواصل المتوهم أيضًا، وما يحسب للشاعرة هنا هو تركها للحالة تفرض لغتها ولا تفتعل هى لغة مقعرة أو تجهد فى انتقاء مفردات ومصكوكات تم استهلاكها كثيرًا، هنا مفردات من حالة التشيؤ و الواقع الوهمى الافتراضى ( صندوق الدردشة، أطوى أذنى كطائرتين ورقيتين)
البارحة رأيتنى
أفعل ذات الأشياء
المكررة التافهة
أفتح صندوق الدردشة
عشرات المرات
أفتش عن فمك!
أطوى أذنيّ
كطائرتين ورقيتين
وأوصيهما ..
أن يعودا ركضاً
بلهاثك)


الشاعرة عائشة المغربي

وتستمر هناك، على جانب آخر، محاولات للخروج من أسر الواقعى الجاثم فوق صدر الإنسان، كما يتبدى ذلك فى قصيدة لـ " الشاعرة مناجى بن حليم" التى تحتمى فى البدء برؤى الغائب فى الظواهر الطبيعية التى تحاول أنسنتها لتصير مساندًا لها فى تحمل الوجيعة " غيمة كسولة حبلى بالوجع"، حتى أن الوجود لا يتحقق إلا حلميًا، ويتجوهر الشغف بالغائب أيضا إلا من سطوة حضوره فى مفازات الروح، وعبر التوسل بتوهُّم رومانسية التوحد " تُدوْزِن الأنثى -المتحدثة فى القصيدة- إيقاعها على نبض الحبيب الغائب، ولا تملك الشاعرة سوى الانتظار عبر الأبواب المواربة، لعل شيئا يحدث، يهشم تلك الأقفال المعنونة أو الموقعة بخيبات متكررة، هنا محاولة من الشاعرة نسج حالة من حالات التوحد بالغائب الحاضر دومًا فى كل اللحظات، حتى فى لحظة الاعتراف الثكلى التى تخلو من كل شيء عدا غيابه، أليس هذا تأكيد على الحضور المستمر حتى فى أحلك الأوقات؟!
(أتفيأ غيمة كسولة حُبْلى بالوجع
أتحسس كفى المكتوبة نصًا لوزيًا كعينيك
أدور حولك برشاقة الحلم
أدوزن إيقاعى المضبوط
كساعة وُقِتت على نبضك المتسارع فيَّ
وعلى حافة الاعتراف الثكلى إلا من إلاك
تترصد بابك الموارب على مكامن سطوتك فى روحي
تستبد بك مواطئ الانتصار
تكسر مغاليق صناديقك الممهورة بخيباتى المكرورة )

يوسف وهيب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.