الصفحات

الورقة الزرقاء | وليد.ع.العايش


هسيسُ أوراق الشُجيرات الصغيرة يلفحُ النافذةَ بهدوء، الريحُ كانتْ نائمةً في ذاك المساء ، غيومٌ عابرةٌ تُلقي التحية على أرضٍ مازالتْ تحتفظُ ببقايا أملٍ على صمودٍ دامَ سنوات عِجاف ، ستارةٌ كحليّة اللون , مُهشّمةَ الأطراف , وكأنّها لتوِّها خارجة من جبهةٍ ساخنة ، تترنحُ معَ نسمةٍ غضّة ، المطرُ بخجلٍ يتواجدُ من تحتِ قبّة سوداء ، ينسابُ خِلسةً منْ بينِ ثنايا الظُلمةِ الحاضرة ، السهرةُ ماتزالُ في بداياتِ ربيعها ، مدفأةٌ تُعانِقُ جذوةَ النارِ المُتهافتة ، تتجمّهرُ العائلةُ بِتحلّقٍ دائريّ ،
تستنجِدُ بنيرانِ المدفأة ، محتفلة بحبيباتِ المطرِ العابقة برائحةِ الأرضِ خلفَ ستارةِ النافذةِ العذراء ، تتعالى نُكَاتٌ كئيبة , ترتسِمُ معها اِبتساماتٌ ساخرة على ذُرا ثغورٍ شاحبة ، الزوجةُ ترفعُ طبقَ القشّ الخاوي منْ طعامهِ , بعدما داهمتهُ أفواه صغيرة ، ظِلُّ النور المُنبعث منْ عُمقِ دائرةِ المدفأة يتلألأُ على زُجاجٍ مُتغطرسِ الحواف ، لينسُجَ لوحة مُطرَزة , شَدَّتْ نظرات الطفلِ ذو العشر سنين ، شقيقتهُ الأكبر بقليلٍ فقطْ , كانتْ تُداعِبُ دفترها المدرسي في رُكنِ الغُرفةِ الساخنة ، تُديرُ الزوجةُ مسمارَ خزانِ وقودٍ عتيق ، أحكمتْ إغلاقهُ , قبلَ أنْ تدعو زوجها القابع على طرفهِ الأيمن إلى سريرها الرابض في غرفةٍ صغيرةٍ مُجاورة ، ( سآتي بعدَ قليل ) ، قالَ الزوجُ دونَ أنْ يرفعَ نظراتهِ عن نارٍ تحترقُ على ضفافِ زُجاج ، كانَ يكتبُ شيئاً ما ، تتناولُ الزوجةُ أقلامَ زِينتها ، تُحرِرُ ضفائِرَها من قيدِها النهاري ، تبدو وكأنّها عروس الليلة ، تبتسِمُ في سِرّها ( لابُدَّ بأنْ أُعجبهُ اليوم ) قالتْ وهي تُحمْلِقُ بمرآةٍ كُسِرَتْ ساقها مُنذُ زمنٍ ، فُستانُ سهرتِها يتجلى بسوادٍ جميل ، ترمي الفتاةُ بدفترِها إلى قعرِ حقيبةٍ زهريّة ، الطفلُ يأوي لفراشهِ استعداداً لانبعاثِ يومٍ آخر، الصمتُ يغطُّ في سُباته ، الكلبُ وحدَهُ يكسِرُ سكونَ الليل ، لا يلبث أنْ يُعاودُ الصمتُ أدراجه ، المطرُ غادرَ منذُ لحظات ، عيونُ الرجلِ تتشبثُ بِجبينِ الطفلِ الذي بدأتْ عيناهُ تذويان , وشقيقته الشقراء التي بدتْ في فراشها كدمّية ، رَمقهما بنظرةٍ أخيرة ، أدارَ ظَهرهُ ... خطوة .. اثنتان ... يتوقفُ ثُمّ يُعاود ، امتدتْ يدُهُ اليُمنى إلى جيبهِ المنكوب ، أخرجَ ورقةً زرقاءَ منْ فئةِ المئةِ ليرة ، دنا مِنَ الطفلِ برزانتهِ المُعتادة ، تركَ على ثغرهِ قُبّلةً باردة ، ثُمَّ دسَّ بالورقةِ الزرقاء تحتَ وسادته ( لكَ ولأُختِكَ ياولدي ) قالها ثمّ اتجهَ صوبَ الغُرفة التي كادتْ أنْ ترقُصَ فرحاً ، النورُ الخافتُ كانَ كافياً لكَسْرِ العتمة ، الزوجةُ المُنتشيةُ قبلَ لحظاتٍ تَغُطُّ بنومٍ سحيق ، تَمَلْمَلَ الرجلُ قليلاً قبلَ أنْ يستسلمْ ، عندما أشعلتْ الشمسُ جذوتها الأولى ، كانَ الطفلُ يُمسِكُ بالورقةِ الزرقاء ، بينما جَمْهرةٌ غريبةٌ عنهُ تُغادِرُ المنزل للمرةِ الأخيرة ، ذاتَ ليلةٍ شبيهة بعدَ عقودٍ ثلاثة مرّتْ ، كانَ الطفلُ يقصُّ على ولديّه حِكايةَ مدفأة ليلة سوداء ، قبلَ أنْ يَختُمَ قِصّته ، أخرجَ منْ جيبهِ ( الورقة الزرقاء ) ...
__________
وليد.ع.العايش
15/12/2016م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.