ينطوي الحديث عن القصة القصيرة الفلسطينية على صعوبات متعددة، يرتبط بعضها بمرونة هذا الجنس الأدبي، ويشير الآخر إلى مأساة الوضع الفلسطيني الصادر عن الاحتلال والشتات. فالقصة القصيرة، كأداة كتابية، تحتمل الخاطرة والحكاية وما دعي "بالقصة القصيرة جداً"، التي مارسها محمود شقير بنجاح كبير، بقدر ما تحتمل سرد "وقائع كبيرة"، كما هو الحال في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، التي رأى فيها بعض النقّاد "قصة قصيرة طويلة".
ولعل مرونة القصة القصيرة، هو ما جعل الروائيين الفلسطينيين، يتعاملون معها بمقادير متفاوتة. فقد مارسها كنفاني قبل دخوله إلى العالم الروائي، وذلك في مجموعتين واضحتي التميّز هما: "موت سرير رقم 12" (1961) و"أرض البرتقال الحزين" (1963)، نقل فيهما الكتابة الفلسطينية من مدار التفجّع والحنين الميلودرامي إلى مستوى تعبيري قائم على المساءلة.
ومع أن جبرا ابراهيم جبرا بدا روائياً "احترافياً"، في رواياته السبع، فقد كتب القصة في مطلع مساره الكتابي ونشر مجموعته "عرق" في بيروت سنة 1956، التي ضمت قصصاً كتبت في الوطن وأخرى في المنفى، واعتبرها بعض النقّاد عملاً أدبياً طليعياً، له أبعاد فلسفية. بل إن سيرته الذاتية الرائعة "البئر الأولى"، لم تكن ممكنة من دون تمكّنه من القصة القصيرة وسيطرته عليها. وما كان طريق إميل حبيبي مختلفاً، فقبل "المتشائل" كتب قصته الشهيرة "بوابة ماندلبوم" وأقام كتابه "سداسية الأيام الستّة"، الذي أعقب هزيمة حزيران/ يونيو، على مجموعة من القصص القصيرة الموحدة الموضوع والمفعَمة بالفكاهة السوداء.
وإذا كان توزع الأدباء الفلسطينيين، بأشكال متفاوتة، على الرواية والقصة يواجه الباحث بصعوبة معينة، فإن صعوبات أكثر اتساعاً تأتي من شتات الشعب الفلسطيني المتواتر، الذي وزّع أدباءه على أقاليم بعيدة وعلى دول عربية مجاورة، حال حسن حميد الذي يعيش في دمشق، ومحمود الريماوي وفاروق وادي "الأردنيين"، وآخرين ماتوا بعيداً عن فلسطين، مثل "نجاتي صدقي، القاص اليساري القديم، الذي حمل شيخوخته وتوزع على بيروت واليونان.
وإذا كان في توزّع الأدباء الفلسطينيين على مناف متعددة ما يثير الأسى، فإن أسى تخالطه الفكاهة السوداء يتكشّف في وضع القصة داخل فلسطين ذاتها، حيث على الباحث أن يذهب إلى "الخط الأخضر"، أو ما دعي ذات مرة "بعرب إسرائيل"، ويمر على قطاع غزة، قبل أن يتوقف أمام كتّاب القصة في قدس منتصف الستينات، التي سبقت هزيمة حزيران.
فعلى الرغم من التمزّق والحصار اللذين وقعا على قطاع غزة، فقد استطاع أن ينتج عدداً من كتّاب القصة القصيرة، مثل عبد الله تايه، زكي العيلة، وغريب عسقلاني وصبحي حمدان وغيرهم، من الذين "قاتلوا" كي يعطوا القصة مكاناً معترفاً به في المشهد العربي والفلسطيني. وعلى الرغم من أن الكمّ لا يشكّل معياراً أدبياً، فإن فيه ما يحيل على المناخ الأدبي ولو بقدر. لقد بلغ عدد كتّاب القصة القصيرة في غزة 37 كاتباً وكاتبة في الفترة الواقعة بين 1967 و2009. اتخذ هؤلاء الكتّاب من "الحصار" مجازاً واسعاً في كتاباتهم متقاسمين، ولكن في ظروف مختلفة، هواجس كتّاب "الخط الأخضر" الذين جعلوا، ولفترة طويلة، من "الحكم العسكري" (1948- 1966) مادة إبداعهم القصصي معطين، في النهاية، أسماء أدبية مرموقة، مثل محمد علي طه في مجموعاته القصصية: "لكي تشرق الشمس"، "سلاماً وتحية"، وصولاً إلى عمله الأفضل "جسر على النهر الحزين". وكذلك سلمان الناطور (1949- 2016)، المثقف الموهوب، الذي عالج الترجمة والمقالة الساخرة والقصة القصيرة ("ما واء الكلمات"- 1972) وقصصاً تسجيلية عن النكبة، منها: "وما نسينا" (1983)، و"خمارة البلد" (1987)... وكان كاتب القصة الموهوب توفيق فيّاض قد عالج وجوه الاحتلال في عمله "الشارع الأصفر" (1968)، قبل أن يستقر، نسبياً، في بيروت ويقدم مجموعته الممتازة "البهلول"، التي تمازج فيها عسف الاحتلال بوجوه فلسطينية "شعبية".
وخلال دفاع الأدباء الفلسطينيين عن وطنهم وحقّهم في الكتابة معاً، أصدروا مجلة "الأفق الجديد" المقدسية (1961- 1966)، متكئين على إرادة وطنية جامعة وثقافة أدبية حديثة، وعلى رغبة بالتجريب والتجديد، ومنهم على سبيل المثال: محمود شقير، ومحمود إبراهيم غنّام، وماجد أبو شرار... وكان زملاؤهم، في منطقة "الخط الأخضر"، قد "لاذوا"، قبل زمن، بصحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي الممثلة بمجلة "الجديد" وصحيفة "الاتحاد"، حيث آزرهم إميل حبيبي والمؤرخ إميل توما والشاعر توفيق زياد، وغيرها من الأسماء.
يتراءى في الملاحظات السابقة واقع مأساوي ثلاثي الأبعاد: غياب المكان الموحّد الذي تترافد فيه الجهود الأدبية، وغياب المرجع المؤسساتي الذي يوحّد الجهود ويدعمها، وعدم إمكانية الحوار، إلا بشكل مجزوء، بين كتّاب القصة الفلسطينيين. ولهذا لا تتكشّف "الهوية الوطنية في الأدب" واضحة، إلاّ في جهود الروّاد الأوائل، وفي الجيل القصصي الفلسطيني الذي استأنف طموحه، قبل "النكبة".
يعتبر خليل بيدس (1874- 1949)، على المستوى التاريخي، مؤسس القصة القصيرة الفلسطينية، بعد أن تعلّم اللغة الروسية في مدينته الناصرة، فقرأ بها وترجم عنها، وتعرّف على أجناس الأدب الحديث، ومنها القصة القصيرة، التي اقترب منها في عمل شهير هو "مسارح الأذهان"، جمع بين التأمل والتحريض، وفي قصص أخرى أشهرها "الحسناء المتنكّرة" (1911). أستأنف جهود بيدس، وفي مجال القصة القصيرة تحديداً، أدباء آخرون، أبرزهم محمود سيف الدين الإيراني، الذي استهل نشاطه الكتابي بقصة "أول الشوط" (1937)، ونجاتي صدقي، وعارف الغزوني، واسكندر خوري، في انتظار زمن ما بعد النكبة، الذي عرف أسماء متعددة منها: لطفي ملحس، خارج فلسطين، وحنا إبراهيم داخلها، المعروف بعمليه "بعد عشر سنين" (1959) و"أزهار برية" (1972).
في حدود جهود أدبية مستمرة، ووعي وطني يوحّد بين الأدب والسياسة، أعطى الفلسطينيون ثلاثة أسماء، في القصة القصيرة، أسهمت في تطوير القصة الفلسطينية والعربية معاً: غسان كنفاني الذي أدرج في القصة الرمز والتداعي الحر والحكايات الشعبية وصيّرها إلى مجال إبداعي واسع قوامه المأساة والمقاومة، وسميرة عزّام (1927- 1967)، التي قرأت مأساة الفلسطيني في مأساة الإنسان المقهور، واعتمدت الرمز الكثيف، وصالحت بين السرد القصصي والحوار المفتوح على الحياة. يظهر هذا في عمليها: "أشياء صغيرة" (1954) و"الظل الكبير" (1956). ومن المحقق أن عزّام، التي ولدت في عكا لم تأخذ، حتى اليوم، ما هي جديرة به من احتفاء وتقدير. وثالث الأسماء هو محمود شقير، الذي عُني باللغة عناية خاصة، من عمله الأول "خبز الآخرين"، وتميّز بتطور مثمر نقله من القصة البسيطة إلى القصة المركبة، ومن النثر إلى لغة صقيلة تتسم بالاقتصاد والشعرية معاً، كما في "ابنة خالتي كوندوليزا".
انفتحت القصة القصيرة الفلسطينية، منذ ولادتها، على السؤال الوطني، وزاملته في أحواله المختلفة، ولا تزال تسائله بكتابة لا تكفّ عن التطور. ولعل هذا القَدَر الصعب هو الذي ضيّق "مساحة الموضوع" الذي تعالجه. فإذا كانت القصة القصيرة، تعريفاً، تصف "حيزاً محدداً من الحياة اليومية"، فإن هذه الحياة، كما عاشها الفلسطينيون، تتشابه ولا تعرف إلا القليل من الاختلاف. ولهذا لم تعرف سميرة عزام، في بداية مسارها الكتابي، مجالاً اجتماعياً واسعاً يشبه ذاك الذي كتب عنه السوري زكريا تامر، ولن يعرف محمود شقير الفضاء الكتابي المتنوّع، الذي تحرّك فيه المبدع المصري المتميّز محمد المخزنجي، ولم يسمح ظرف الفلسطينيين للمبدع زياد خدّاش أن يدخل في تجربة كتابية تشبه تجربة الأردني د. هشام بستاني.
حاول كتـّاب القصة القصيرة الفلسطينيون "توسيع أزمنتهم"، منذ أواسط التسعينيات، بأدوات جمالية متعددة، قوامها العناية بالنثر وتأمل الحياة اليومية العارية من الأوهام، والدخول إلى عالم الإنسان الداخلي المليء بالصور والاحتمالات. ظهر هذا في محاولات زياد خداش، وزياد بركات، ونبيل عبد الكريم، الذين شاؤوا منظوراً كتابياً لا أوهام فيه عنوانه، ربما: الواقعية الجديدة في الكتابة.
ف. د.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع مختارة:
عباسي، محمود. "تطور الرواية والقصة القصيرة في الأدب العربي في إسرائيل، 1948– 1976". حيفا: مكتبة كل شيء، 1988.
فاعور، ياسين. "القصة القصيرة الفلسطينية: ميلادها، تطورها، 1990- 1924". دمشق: اتحاد الكتّاب العرب، 2001.
محمود شقير. "مختارات من القصة القصيرة الفلسطينية". عمّان: منشورات أمانة عمان الكبرى، 2002.
عباسي، محمود. "تطور الرواية والقصة القصيرة في الأدب العربي في إسرائيل، 1948– 1976". حيفا: مكتبة كل شيء، 1988.
فاعور، ياسين. "القصة القصيرة الفلسطينية: ميلادها، تطورها، 1990- 1924". دمشق: اتحاد الكتّاب العرب، 2001.
محمود شقير. "مختارات من القصة القصيرة الفلسطينية". عمّان: منشورات أمانة عمان الكبرى، 2002.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.