الصفحات

لن أعتذر مني ...*فرح العريضي

⏪⏬
أكتبُ كمن تفتّش عن كلماتها في حقل ألغام. أخطّ جملة وأنتفض عليها فأنسى ما يليها وأعيد الكرّة. لن أعتذر مني. لن أعتذر من بلاغتي ومن كلماتي التي لا تأتي. فأمشي بانتظار الكلام والمدينة. أمشي، ولا يأتي الكلام، ولا المدينة. أحملُ أشلاء مدينةٍ على ظهري وأمشي بين حطامها — بقايا زجاج ورذاذ أحاديث وركام حكايات وأنين ذكريات. وناس ذهبت ولن تعود.

أحملها مدينة ليست نفسها وأمشي بين جيفها وخرير أرواحها السائلة. أمشي بين نَتَفات طريق وشقوقها، على دماء تفتّقت من شرايين المدينة السالتة. أمشي لا أدري من أنا. فكأنّني أصبحت حضوراً خارج نفسي، خارج جسدي. فأنا لم أعد أنا.

ولكنّني لا أبحث عني. فما بقيَ منّي يتصبّر جماداً أمام هول صدمة سريالية وخشوعاً في ركعة أمام مدينة كانت ولم تعد.
لا تشفع صلاة في مدينة علّموها النهوض ما بعد السقوط المستمر وحرموها من رصاصة الرحمة.

لا تشفع في المدينة مئات الأساطير وطيور الفينيق التي شبعت بيروت من رياء خطاب صمودها. فهنا ذُبحت الأساطير ونُهبت آلاف المرات ولم نعلم. لم نتعلّم. لم نتعلّم خطورة الأمل وظلمه في مدينة تعاني من الديسلكسيا. فليس مصيرنا وصيرورتنا الأمل المستدام وإنما الألم غير المؤجل والمحتّم.

لن أعتذر مني. لن أعتذر على كلام يبدو في ثنياه أنّه قد تخلّى عن اندفاعه الثوري. فأنا لست أنا. ولم يعد باستطاعتي التعرّف على نفسي. إنّه الخوف والجفول والفراغ والغضب. فأشعر بلا شيء وبالشيء في آن. وكأنّني قد تحوّلت إلى إناء متكسّر لا أكثر، إناء يُبالغ بمحتواه لكيلا يتلاشى حطاماً، لا يحتويه إلا بقايا كلام لا يُنطق وصمت صارخ يُصدّع ما بقي منهَ سليماً.

لن أعتذر مني، ولا من ضعفي أمام انكسار مدينتي، ولا من خوفي من ضياعي بين حطامها. لن أعتذر من عدم قدرتي على النهوض. لن أشيح بنظري عن شوارعها التي فقدت شيئاً لا اسم له بعد، ولا عن أصواتها التي خفتت. لن أتركها ولكنّي لن أكذب عليها. ولن أعتذر.

أُصبح كمن لا ترى شيئاً رغم انقشاع الضباب وغيم الخراب بعد التفجير. لقد مرّ أكثر من شهر. ولم يحدث شيء. لا في التحقيق ولا في المحاسبة ولا في التعويض عن الخسائر المادية الفاضحة. أما تلك المعنوية، فقد قالت المنظومة الحاكمة كلمتها: لستم سوى حطام، نرميه، نكسره، نبيعه، ونستبدله بكلّ ما يلمع، بكلّ من يغضّ النظر، بكلّ من ينظر في المرآة ويرى ما نرديه أن يرى. أنتم لا شيء.

أتحايل على نفسي. أتذكر موعداً في الأمس القريب، تدنو ذاكرته مني وكأنه حدث خارجي، اختبرته في حياة سابقة. مار مخاييل، بداية سنة جديدة. ٢٠١٩. آخر شتاء. باحة بار خارجية، درج طويل. كأسا ويسكي. القليل من الذرة المحمّص. الكثير من القصص. وحديث لم ينتهِ بعد. مطر. الكثير من المطر. ركض في أحياء الجعيتاوي. وضحك. الكثير من الضحك. نسلك طريقاً طويلاً. فالطريق المختصرة لا حكاية فيها. سطح بيت مهجور. وبيروت تحت أنظارنا. وسيجارة.

ذهب البار. والدرج. وسطح البيت المهجور. والمدينة. وبقيت الحكاية.

في طريقي الى منزل والديّ في الجبل، بُقعة تطلّ على بيروت. كنت كلما أمر بها، أخفف من سرعة السيارة، وابتسم لمدينة تعرفني، تعرف كل شيء عني، كل أسراري وخطواتي، كل آمالي وأحلامي، كل خيباتي وجراحي، كل قصصي وروايتي. في ٥ آب ٢٠٢٠، مررت من هناك، ولم أجدها. ضباب كثيف، وعتمة حالكة، وأصوات هالكة. لم أجدها ولم أجدني.

لم يتغيّر شيء بعد شهرٍ على الجريمة. ما زلت أكتب كمن تفتّش عن كلماتها في حقل ألغام. أخطّ جملة وأنتفض عليها فأنسى ما يليها وأعيد الكرّة. لن أعتذر مني. لن أعتذر من بلاغتي ومن كلماتي التي لا تأتي. فأُواصل المشي بانتظار الكلام والمدينة. أمشي ولا يأتي الكلام، ولا المدينة.
-
*فرح العريضي
كاتبة من لبنان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.