تبدأ كتابة/قراءة الدكتور عبد اللطيف سعيد التي تحمل عنوان "ما هي "أنشودة الجن" التي جن الناس بها جنونا؟" بعبارة عير مألوفة قصد منها صاحبها لفت الانتباه إلى خصوصيته ككاتب وإلى خصوصية كتابته، وهي "من له أدنى مسكة من أدب". وبعدها تنطلق المقالة لتأتي بأحكام جزافية لا مكان لها في التقويم النقدي الصارم مثل "لا تجد في السودان من له "أدني مسكة من أدب" إلا وهو يحفظ قصيدة "أنشودة الجن" للشاعر الكبير التجاني يوسف بشير"... ويضُم هذا الإدعاء كلمة جديدة على اللغة العربية هي "ادني".. لن أتوقف كثيراً عندها، ولكني سأمضي لأقول إن الذي لا شك فيه هو أن هنالك من لهم "مسكة من أدب" وهم لا يحفظون "أنشودة الجن". ولكن يبدو أن الدكتور قد أدرك سريعاً أن ما يزعمه لا يستقيم مع واقع الأمر فيتراجع عنه ليضيف "أو إن من لم يحفظها كلها يحفظ جزءا أو أجزاء منها". ثم من غير فصلٍ أو وقفٍ يمضي ليقول في ذات النفس "وهي دائرة على الألسن بسبب اللحن الراقص الجميل الذي وضعه ويغنيها به الفنان سيد خليفة..." ولا تنتهي الجملة هنا إذ أنها تمضي لتقول: "ومما ثبت هذه القصيدة في الأذهان هو أنها مقررة في منهج الأدب في المدارس ولذلك صارت متداولة بين أجيال المتعلمين من السودانيين". وأخيراً تأتي نقطة الوقف بعد كل هذا الفيض من الكلمات والإدعاءات لتُتيح للقارئ فرصة أن يسترد بعضاً من أنفاسه، وتأتي معها إمكانية أن يتمعن ويُقدِر ويحكم ليتبين خطل تلك الادعاءات. ولا يفوتني أن أذكر هنا أن هذه ليست أطول جٌمل الدكتور والتي يتجاوز بعضها المائة كلمة.
قد يعود الأمر في ابتداع كلمات جديدة، وكذا العزوف عن التوقف الجزئي أو الكلي، إلى عدم توخي الصرامة في الكتابة، وإن كنت أظن أن الأمر يتجاوز ذلك. ولكن مهما يكن فعلى الكاتب أن يتحمل ذلك وفوقه مسئولية الأحكام غير المؤسسة التي يُطلقها، والتي في حال د. عبد اللطيف سعيد لا تكاد تتوقف: "ولكني لما تفحصت القصيدة فوجدت بأننا نفعل كل ذلك مع أنه لا أحد منا يعرف : ما هي : أنشودة الجن"؟ وأول ما قد يلاحظه القارئ هنا هو التركيب الغريب للجملة: "ولكني لما تفحصت القصيدة فوجدت" .. والقراءة الصحيحة قد تكون: "ولكني لما تفحصت القصيدة وجدت"، أو "ولكني تفحصت القصيدة فوجدت". ولكن الأكثر أهمية هو أن الدكتور يقول إنه تفحص القصيدة فوجد أننا نفعل معها وبسببها ما نفعله مع أنه لا أحد منا يعرف ما هي "أنشودة الجن"؟ ولهذا ومن أجلنا، نحن الذي لا نمتلك القدرة على التمييز، تجشم مشقة أن "يتفحص" ليجد نيابة عنا جميعاً أن لا أحد يعرف ما هي "أنشودة الجن"! يقول الدكتور هذا في يقينٍ مطلقٍ وهو غير منتبهٍ أو غير مبالٍ بأنه قد يكون من بين "جميع" أهل السودان الذين يحفظون القصيدة أو أجزاء منها من يعرف أو يتوهم أنه يعرف ما هي "أنشودة الجن".
ثم يمضي الدكتور ليسأل عن أشياء لا يسأل الشعراء عادةً عنها مثل "من هو طرير الشباب؟ أو من هو عبقري الرباب، وما هو حرم الفن؟" يقول هذا رغم علمه أننا نتكئ في قراءتنا للشعر واحساسنا به على بنيانٍ أدبي شامخ وعمرانٍ شعري باذخ يخاطب فيه الشعراء الدمن والمضارب والأطلال والخلان والظاعنين والمعشوقات تصريحاً حيناً وتلميحاً أحايين أخرى دون مطالبتهم بتقديم الحواشي لمتن ما يقولون. .
فعندما يقول إمرؤ القيس: "أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريبٍ للغريب نسيب" لا نسأله من هي تلك الجارة الغريبة؟ كم كان عمرها عندما توفيت؟ وبأي علة لاقت ميتتها؟ وعندما يقول المتنبي: "وحبيب أخفَوه مني نهاراً فتخَفّى وزارني في اكتئام"، وعندما يقول صفي الدين الحلي "إلى محياكَ ضوءُ البدرِ يعتذرُ، وفي مَحَبّتكَ العُشّاقُ قد عُذِرُوا.. وجنة الحسن في خديكَ موثقة ونار حبكَ لا تبقي ولا تذر"، أو عندما يقول السياب: "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر.. أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر.. عيناكِ حين تبسِمان تورِقُ الكُروم.. وترقصُ الأضواء كالأقمارِ في نهر.. يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر." لا نسألهم من؟ وأين؟ ومتى؟ وكيف؟ وإنما نكتفي بأن نحسن الإصغاء، ثم نحاول معايشة ما أصابهم وأصابوه كتجربة وجدانية نحتفي بها لأنها تجمع بين المتفرد والمشترك وتستنطقهما بشكل مألوف وغير مألوف في ذات الوقت. ولكن الدكتور يريد أن يطرح أسئلة أعد إجاباتها مسبقاً، ليس ذلك فحسب وإنما يريد أيضاً أن يُضفي على أبيات القصيدة طلاسم ليست هي أصلاً فيها. وهو يفعل ذلك لأنه يريد أن يفك شفرة تلك الطلاسم بتأويلاتٍ من عنده يزيد من عِظم تأثيرها وشدة أسرها أنها طلاسم وتأويلات في حجم دعوة إبراهيم والرسالة المحمدية والإسراء والمعراج وسدرة المنتهى وبيت المقدس والأنبياء والمزامير!
ولهذا يقول الدكتور:
"من هو طرير الشباب هذا ؟ الذي يطلب إليه الشاعر أن يغني لهم أنشودة الجن .. فلا نحن نعرف طرير الشباب ولا نعرف أنشودة الجن بل إن كل ما نعرفه عن طرير الشباب هذا هو أنه حلو ومستطاب ! كما وصفه الشاعر، ثم يطلب الشاعر من طرير الشباب ذاك أن يقطف له الأعناب (وان يعصرها طبعا) ليملأ له بها دنه .. لكن العجيب في الأمر أن هذه الأعناب ليست من بستان كسائر الأعناب ولكنها من عبقري الرباب ومن حرم الفن .."
ثم يمضي الدكتور ليسأل في استعلاء عجيب، ويجيب في تعالٍ يمشي على أثره "لأن الناس لا يسألون وكلهم يعجبون ويرقصون" كمجاميع مسلوبة الوعي والفكر والإدراك والإرادة. ثم يتقدم ليرينا براعته في إطلاق الطلاسم من عِقال الغائب وأسر المجهول، فيبدأ أولاً بما يشبه السؤال "أيكون" ولكنه سرعان ما ينسى ذلك أو يتناساه فينطلق قُدماً مُطمئنا لسلامة ما يقول وهو يرتكز على يقين التأكيد وأكيد التقرير عندما يزعم: "لكنه يرمز بهما هنا إلى الأنبياء السابقين"، وهكذا يستمر ليقدم تأويله الشاطح الغريب:
"أيكون التجاني هذا المثقف الراسخ يشير بطرف خفي إلى رحلة الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون أنه صلى الله عليه وسلم قد مسح وطمس على الرسالات السابقة ونسخها ومع أنّ زرياب ومعبد مغنيان معروفان في تاريخ الغناء العربي لكنه يرمز بهما هنا إلى الأنبياء السابقين وخاصة إلى ” المزامير” مزامير داؤد وغيره من أنبياء الله التالية للصحف الأولي (هكذا) بأصوات آسرة ، فهو بتلاوة القرآن قد مسح على سابقيه من (زرياب) (ومعبد) الأنبياء الأوائل .. ثم إنه في معراجه قد ( مشى على الأحقاب) إذ جمع له الأنبياء مع اختلاف أزمانهم وصلي (هكذا) بهم مطوفا على المربد وهو هنا رمز ( لبيت المقدس) حيث ربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابهم ثم إنه عليه السلام يغشي (هكذا) كنار الغاب والكنار طائر فالأرواح في حواصل طيور خضراء ( رمز لأرواح المؤمنين ) والغاب هناك هو (سدرة المنتهي) (هكذا) ( وهدأة المرقد) هو مرقد هذه الارواح الطيبة التي هي هادئة في مرقدها النهائي الذي ليس بعده نجعة، ثم إذا هو رجع حدث (أعراب) مكة عن روعة المشهد" !
وقبل أن أتقدم إلى الأمام لا بد لي من التوقف عند كلمات "الأولي" و"صلي" و"يغشي" و"المنتهي" إذ يبدو أن الدكتور العتيد، خريج آداب جامعة الخرطوم، والذي يحمل درجات البكالريوس والماجستير والدكتوراة في اللغة العربية، ويمارس الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، ويقوم بتدريس الأدب والنقد في جامعة تحمل اسم العالمية لا يستطيع التمييز بين الألف المقصورة والياء. وعلى الرغم من التساهل السوداني المعهود مع القواعد اللغوية والخروج عنها، إلا أن هنالك فارق كبير في النطق والمعنى بين الأولى والأولي، وصلى وصلي، ويغشى ويغشي، والمنتهى والمنتهي، مع التنويه إلى أن هنالك من قد يتساهل مع الذي يُسقط النقطتين عن الياء المتطرفة، ولكنه سيجد صعوبة في التساهل مع من يضيف نقطتين إلى الألف المقصورة. ولا أريد أن أكون هنا قاسياً أكثر مما يجب بتوجيه سؤال لئيم، ولكنه مشروع، مثل: هل من الممكن أن تثق في تفسير وتأويل أشعار اللغة العربية من شخص لا يستطيع التفريق بين حروفها؟
وعلى الرغم من أن إجابتي على سؤالي هي قطعاً بالنفي، إلا أني سأمضي في تعاملي مع قراءة الدكتور لقصيدة "أنشودة الجن" بالجدية التي بدأت بها لأقول إن الدكتور يخلُص بعد ذلك إلى أن "أنشودة الجن" قصيدة شاقة ومخيفة"، وإثباتاً لذلك يحاول جهده تقديم قراءة موغلة في جموح تأويلها. وقراءة الدكتور للقصيدة ليست فقط موغلة في جموحها، وإنما أيضاً ملتبسة في منهجيتها التي تستعين وتستعير أو تستفيد، قصداً أو عن غير قصدٍ، من أكثر من مدخل.
ومن بين خليط تلك المداخل نظرية التلقي التي تمنح أفضلية توليد المعاني إلى المُتلقي، والتي قد تسمح للدكتور - في أقصى حالات تساهلها- أن يقول ضمن تُرهات أخرى إن زرياب ومعبد يقومان في القصيدة مقام الأنبياء السابقين. وداخل إطار تلك النظرية يمكنني أن أقول إذا قسرت نفسي على ذلك: إن "طرير الشباب" هو السودان، وإن "زرياب" هو النيل الأزرق بسمرته الداكنة، وأن "معبد" هو النيل الأبيض، يلتقيان عند "المربد" الذي هو المُقرن. كما يمكن لمتلق آخر أن يقول أشياء أخرى عن سدرة المنتهى والرباب والوهاد والغابة والصحراء والأحقاب وعلوة والنوبة والمقرة والنخيل وكرومة وسرور وما إلى ذلك. وكل هذا قد يجوز وقد لا يجوز، ولكن الذي لا يجوز قطعاً أن أزعم، أو يزعم غيري، أن ما نظنه ونطرحه هو ما أضمره التجاني كما يفعل الدكتور.
وقراءة الدكتور، التي أزعم أنها تقتفي في بعض ما تدعي آثار نظرية التلقي، تعكس أيضاً بعض أهداف ومرامي وغايات نظرية "موت المؤلف" كما ينادي بها رولان بارت، والتي لا يرى فيها في المؤلف "غير ناسخٍ، يغترف من معين اللغة، وبمجرد أن يفرغ من مهمته.. الاستكتاب، التي اوكلت إليه كما تدل عليها الكلمة في أصل وضعها اللغوي، يتوارى معلناً نهايته أو موته، ومبشراً بميلاد قارئ يأتي من بعده كاستراتيجية نصية تربض في شقوق الكلام وفجواته". والدكتور، على الرغم من إعجابه الواضح بالتجاني شخصاً ومثقفاً ومُبدعاً، يقتل في قراءته مؤلف "أنشودة الجن" ويعيد بعثه في ذات الوقت. يموت عنده المؤلف عند اعتماده قراءة لا يهتم فيها كثيراً أو قليلاً إن كان الشاعر قد توخاها أو لم يفعل، ويعيده إلى الحياة ليضع على لسان حاله ومقاله ما يظنه هو:
"ليت شعري ماذا سيقول هذا المثقف الضخم وهذا الصوفي المعذب حينما يطل علينا من برزخه ونحن نرقص ونغني على أنغام طلاسمه التي عذبته وعنته أتراه سيقول مبتسما في حيرة : “اللهم أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون؟"
وفي قراءتي لعرض الدكتور أشعر بوجود مدخل آخر "يقتحم" به عالم "أنشودة الجن" الذي يفيض طرباً وبشاشة. فعلى الرغم من إسقاطات التلقي، ورُخص التفكيك، وتجاوزات التأويل تظل القراءة المهيمنة عند الدكتور قراءة أيدلوجية. والقراءة الأيدلوجية، والتي هي بالضرورة قراءة مُغلقة، تتنازع السيطرة هنا مع القراءات التي تسترشد بالتفكيكية، أو التلقي، أو التأويل، والتي هي، نظرياً على الأقل، قراءات مفتوحة. فعلى الرغم من السماحة الفوضوية الظاهرية للقراءات المفتوحة لمقال "ما هي "أنشودة الجن" التي جن بها الناس جنونا؟" فإن القراءة ذات الكلمة الأخيرة لقصيدة "أنشودة الجن" هي قراءة مُغلقة. وبغض النظر عن توجهها يساراً أو يميناً فإن كل قراءة أيدلوجية تظل مُغلقة في طرحها وفي غايتها ومنتهاها ذلك أنها عادة وطبعاً وتوجهاً لا تسعى لتفسير المُعطى، وإنما تستخدمه كبرهانٍ على صحة منطلقاتها، وهي هنا علو كعب الرسالة المحمدية على غيرها والذي مكنها من أن تمسح على الرسالات السابقة وأن تنسخها. وهذا أمر يوافق عليه ويؤمن به كل مسلم، ولكنه لا يتأتي تلقائياً من قصيدة تقول بعض أبياتها:
سُح في الربى والوهاد واسترقِص البيدا
واسكب على كل ناد ما يسحر الغيدا
وفجر الأعواد رجعاً وترديدا
ولكن على الرغم من صرامة الأيدلوجيا الإسلاموية التي يستظل بها الدكتور، وربما بسببها، تُطل علينا من بين ثنايا القراءة التي تكاد أن تكون قمعية، هرمسية حيية تُضيف بُعداً آخر لتعددية المداخل. ولكن سواءاً زادت المداخل أو تناقصت فمن الغالب أن ينشأ من بين تداخل القراءات الكثير من التعقيد، وذلك لأن الجمع بين القراءتين، المُغلَقة والمفتوحة، يُحوِل النقد في كثير من الأحيان، أراد صاحبه أم لم يرد، إلى دعاوى رنانة تجعل من أكبر منجزاته البهلوانيات اللفظية على غِرار:
"ومن عجيب ما اتفق في وهمي هو أن فعل الأمر (قم) موجود في سورتي “المدثر” و”المزمل” وأمررتهما على قلبي فوجدت ذلك كذلك ثم إني وجدت في السورتين أفعال أمر متتالية يحاكيها تتالى أفعال الأمر عند التجاني"
ويتبع هذا أن قراءة النص بهذه الطريقة التي يحاولها د. عبد اللطيف سعيد لا ترمي للكشف عن خباياه وخفاياه، إذ أن كل ما ترمي إليه هو إظهار الحذق وإثارة الدهشة و"اللعب"، كما عبر عن ذلك أمبرتو إكو في بعض كتاباته. وطالما جاء ذكر أمبرتو إكو فلن أتردد عن القول إن بعض نتائجه التي ترتبت عن محاولاته تلمس العلاقة بين هرمسية الاعتقاد والمعتقد، وهرمسية الفكر والتفكير، قد تُلقي بعضاً من الضوء على تداخلات التفكيك والتلقي والتأويل والأيدلوجيا في مقال "ما هي "أنشودة الجن" التي جن بها الناس جنونا؟" وقد تكون هنالك ثمة فائدة في استعادة ما يقوله أمبرتو إكو في سياقٍ مشابه: وكما كانت هرمسية القُدامى تؤمن بوجود معنى كوني قابلٍ للتأويل، فإن هرمسية التفكيك لا تؤمن على الاطلاق بوجود معنى ثابت أو نهائي، لأن التأويل عبارة عن لعبة لا متناهية من الإحالات في عالم سديمي منعدم المرجعيات، وغائم الملامح، ومطموس المعا
وفي هذا السياق، وفي غيره، يمكن القول إن أي قراءة تأويلية لأي نصٍ هي تغولٌ لدرجةٍ ما على سلطة الكلام المكتوب المقروء أو المنطوق. وعندما يكون التأويل جامحاً وشاطحاً، كما هو الحال معنا هنا، فإنه يشكل خروجاً على دلالات النص ومدلولاته، وانتهاكاً لسلطانه. وتأتي أهمية هذه الإشارة في محيطنا الثقافي والفكري من أن التأويل ظلّ معضلة تواجه النص القرآني والنص الشعري على حد السواء. والأمثلة على هذا قد تُعد وتُحصى، ولكنها تظل متعددة ومتنوعة تتأرجح بين وديع التأويل وجامحه. وكمثال لهذه الممارسة تفسير وتأويل آية "التين والزيتون". فبينما يقول جمهور المفسرين إن"التين هو ما تأكلون والزيتون هو ما تعصرون"، يأتي تأويل مستساغ مثل "التين هو الجبل الذي تقوم عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. ثم تأتي بعض التأويلات على أنهما مسجد أهل الكهف ومسجد النبي عليه السلام، أو تذهب بعيداً متجاوزة الجموح إلى شطط الشطح في أنهما الحسن والحسين!
وعلى الرغم من تحفظي على الكثير من دعاوى التفكيك والتلقي والتأويل، فإن المُناداة هنا ليست لاعتماد قراءة تقليدية أحادية لا تقبل الخروج أبداً عن حرفية النص، وإنما الابتعاد عن ذلك كلما كان ذلك ممكناً. كما أن الحديث هنا ليس عن التناص وتداعياته، وإنما عن قدرة النص على أن يتشظى وينشطر ويلتئم ويتجدد لينتج بداخله إمكانات قراءات جديدة له تنبثق من بين أوردة حروفه وشرايين كلماته. ولكن لا بد لتلك القراءات المفتوحة التي تنتج من أن تستند على النص المقروء الذي لا تنفصم عرى علاقته عن مؤلفه. كما أنه لا بد للقراءات الجديدة والمتجددة من أن تخضع إلى دلالات ألفاظ النص، وتسترشد بمعاني عباراته. وعليه يظل لزاماً على القراءة كعملية معرفية من أن تُدرك وتُقِر بأن تفسير العمل ليس على نية المتلقي أو حتى المؤلف، وإنما على ما توجبه معاني ألفاظه. ولربما يكون مستغرباً عند البعض أن هذا الرأي لا يأتي من أركيلوجيا (حفريات) فوكو، أو ميثولوجيا بارت، أو تفكيك دريدا، أو سيميولجيا أمبرتو إكو، وإنما يأتي من بين مرعيات النقد العربي الذي تضمه، حتى تكاد أن تخفيه، كتب التراث.
والعودة إلى مرعيات النقد العربي لا أقصد منها إطلاقاً درء شبهات الاغتراب والاستلاب. ودون إضاعة أي وقت في الدفاع عن شرعية أو مشروعية الاستغاثة والاستنجاد بأطروحات النقد الغربي، أود التأكيد على أن النقد العربي كان له، ولا يزال لديه، ما يقوله عن فض مغاليق النصوص الشعرية، وما ينصح به حيال مغبة الانزلاق إلى وهدة تأويل جامح مثل:
"وأغشى كنار الغاب" يمكن أن تفسر بأنه "عليه السلام يغشى كنار الغاب والكنار طائر فالأرواح في حواصل طيور خضراء (رمز لأرواح المؤمنين) والغاب هناك هو (سدرة المنتهي) (وهدأة المرقد) هو مرقد هذه الأرواح الطيبة التي هي هادئة في مرقدها النهائي الذي بعده نجعة ، ثم إذا هو رجع حدث (أعراب) مكة عن روعة المشهد!"
لقد أدرك النقد العربي من وقت قديم أن النص الأدبي غني بالدلالات، وأنه من أجل ذلك يحتمل وجوهاً متعددة ومقبولة من التأويل تستند على غياب المقاصد المحددة والمحصورة في كثير من التعبيرات الشعرية. فقد تناول أبو علي الحسن بن رشيق الكثير من إمكانات التأويل في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" تحت باب الاتساع، وذلك "أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى.." ويأتي التأويل مسموحاً به ومقنناً أيضاً عند الذي قال عنه المتنبي إنه أعلم بشعره منه، وذلكم هو أبو الفتح عثمان بن جني الذي تناول التأويل في "الخصائص" ضمن قضايا لغوية أخرى مثل القياس والاستحسان والعلل والمجاز وغيرها. والعملاقان، ابن رشيق وابن جني، يحرضان على قراءة تنبثق من النص وتحتفي بما فيه من إمكانات، وتنتبه إلى ما يفرزه من معانٍ وأفكارٍ تنبع من داخله وتتشعب وتزدهر خارجه، ولكنها تستند على "احتمال اللفظ وقوته واتساعه"، ولا تبنى على ما يحمل عليه النص قسراً، أو يفرض عليه فرضاً، أو حتى يُضفى عليه خضوعاً لرغبة أو هوى أو مذهب، كما فعل د. عبد اللطيف سعيد في التأويل أعلاه.
ولا بد لي من التأكيد على أني لا أنشد هنا تقديم قراءة بديلة لقصيدة "أنشودة الجن" لأن ذلك ليس همي، أو حتى بعض همي، إذ أن كل همي، هو تناول قراءة د. عبد اللطيف سعيد لرائعة التجاني التي تمضي في طريق سبقتها إليه، وتبعتها عليه، العديد من روائع الشعر العربي التي تؤكد أن أجمل الشعر أجزله لفظاً وأرقّه معنى. ذلك الذي إذا نشدته وأنشدته تسلل إلى أعماق دواخلك متدفقاً تدفق الجدول الرقراق ليغسل عن روحك التعاسة والحزن. ويقيني أن هذا ما سيحدث لك إذا ترنمت بكلمات عمر بن أبي ربيعة:
"أمن آل نُعم أنت غادٍ فمبكر.. غداة غدٍ أم رائح فمهجر/ لحاجة نفس لم تقل في جوابها.. فتبلغ عذرا والمقالة تعذر/ تهيم إلى نُعم فلا الشمل جامع.. ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر/ ولا قرب نُعم إن دنت لك نافع.. ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر." ولسوف تأخذك معها إلى حيث تذهب كلمات ابن زيدون وهو يتأسى: "ودع الحب محبٌ ودعك.. ذائع من سره ما استودعك/ يقرع السن على أنه .. لم يزد تلك الخطى إذ شيعك/ يا أخا البدر سناء وسنى.. حفظ الله زمانا أطلعك." وستشعر بلوعة الشجن ومتعته وأنت تردد مع المتنبي: "أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق..وجوى يزيد وعبرةٌ تترقرق/ جُهد الصبابة أن تكون كما أرى.. عينٌ مسهدةٌ وقلب يخفق/ ما لاح برقٌ أو ترنم طائرٌ.. إلا انثنيت ولي فؤادٌ شيق." وقد تروح في ما يشبه الغيبوبة من النشوة وأنت ترحل مع مظفر النواب في وترياته الليلية:
"في تلك الساعة من شهوات الليل
و عصافير الشوك الذهبية تستجلي
أمجاد ملوك العرب القدماء
و شجيرات البر تفيح بدفء مراهقة بدوية
يكتظ حليب اللوز و يقطر من نهديها في الليل
و أنا تحت النهدين إناء
في تلك الساعة حيث تكون الأشياء بكاء مطلق
كنت على الناقة مغموراً بنجوم الليل الأبدية
أستقبل روح الصحراء..
يا هذا البدوي الممعن في الهجرات تزود قبل الربع الخالي بقطرة ماء!"
وإلى هذا الموروث الذي يفيض عذوبة وطلاوة ووجعاً وشوقاً وشجن تنتمي "أنشودة الجن" لفظاً ونبضاً وحساً وفكراً وشعورا:
"قم يا طرير الشباب.. غن لنا غن/ يا حلو يا مستطاب.. أنشودة الجن/ واقطف لي الأعناب.. واملأ بها دني/ من عبقري الرباب .. أو حرم الفن/ سح في الربى والوهاد.. واسترقص البيدا/ واسكب على كل ناد.. ما يسحر الغيدا/ وفجر عواد.. رجعاً وترديدا/ حنى ترى في البلاد.. من فرحة عيدا/ وامسح على زرياب.. واطمس عل معبد/ وامشي على الأحقاب.,. وطف على المربد/ واغشى كنار الغاب.. في هدأة المرقد."
وأبيات القصيدة لا تزال حاضرة في ذهن القارئ أسارع لأقول إنه على الرغم من جموح التأويل الذي اجترحه الدكتور إلا أنه تأويل رعديد وشديد الانتقائية. ذلك لأنه يبدأ من نقطة يظن صاحب التأويل أنها آمنة، لذلك يظل عندها ويدور حولها. فهو لا يستطيع أن يقول إن "التجاني ذلك المثقف الراسخ" يرى من طرف خفي أو غير خفي أن طرير الشباب، الذي هو حلو ومستطاب، والذي تمت مخاطبته بفعل الأمر "قم" هو "المدثر"، وهو أيضاً "المزمل"، وهو في نهاية المطاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك اختار أن يتجاهل كل الأبيات التي تبدأ بأفعال الأمر التي رصدها وأحصاها، وهي تحديداً أفعال قم وغن واقطف واملأ وسح واسكب واسترقص وفجر، ليس فقط لأنها لا تنسجم وجلال النبوة، وإنما لأن ما يترتب عنها أمر يتناوشه الخطر. وبمقدوري هنا إيراد العديد من أمثلة التجاوزات الصوفية الفادحة، ولكني لن أفعل لأنها ليست نيتي ابتزاز الدكتور أو جر خلافي مع تأويله إلى دائرة الإيمان والعقيدة، لأني أريد لخلافي معه أن يظل على ساحة الأدب حيث يمكنه ويمكنني أن نقول أخفقت وأخطأت، وليس كفرت وأشركت.
وعودة إلى ساحة الأدب حيث نُخطئ ونُصيب أقول يالها من عبقرية، ويالها من قصيدة تحتفي بالحياة وهي تعبر عن نفسها من خلال ألفاظٍ مُنتقاة ساحرة، وأخيلة بديعة آسرة، وصور شعرية رائعة، وموسيقى تصدح بها كل كلمة. ومع هذا فإن الأعناب تظلُ هي الأعناب، والرباب تظلُ هي الرباب، وكذلك الرُبى والوِهاد، وزرياب هو ذات أبو الحسن علي بن نافع الموصلي الذي نعرف، وكذلك معبد الذي يكنى بأبي عباد. والأحقاب هي الأحقاب، ومثلها كنار الغاب، والمربد هو سوق البصرة القديم الذي شهد نقائض جرير والفرزدق. وهكذا حتى "يجف الشراب.. في حافة الكأس"، من غير إسراءٍ أو معراجٍ، أو سدرة منتهى أو منتهي (كما يقول الدكتور).
وأعود لأسترشد هنا ببعض قواعد النقد العربي الذي رغم إقراره أن النص الأدبي غنيٌ بالدلالات فقد ظلّ يضع اعتباراً عظيماً لحرفية النص ودلالاته اللغوية تفوق درجة اعتباره للمقصودية التي يظن الناقد أن المؤلف قد أرادها. وفي هذا الإطار تنهض القاعدة النقدية الكبرى التي أشرت إليها آنفاً والتي جاء بها أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي في "الموازنة بين الطائيين: أبي تمام والبحتري". ففي تلك الموازنة بين الطائيين يورِد الآمدي العبارة المُهمة والمُلهِمة التي تؤسس لقاعدة نقدية تصلح لأن توضع عليها قواعد الشرح والتفسير والتأويل: "ليس العمل على نية المتكلم، وإنما العمل على ما توجبه معاني ألفاظه." إن النص وحده هو المخول بإعطاء الدلالات، والتبليغ صراحة أو تلميحاً بمدلولات المعنى المراد ابلاغه. في كلمات أخرى، يبدأ من النص كل شيئ، وإليه يعود. وإن لم يكن ينتهي عنده كل شيئ، فمنه وحده تُستنبط الأحكام، وتُستخرج المفاهيم، وتُطور الدلالات، ووفقاً لذلك يحتفظ النص بهيبته ومكانته وسلطانه، ولا يجور عليه معتدٍ مهما بلغت درجة اعتداده بنفسه وبقدراته.
والذي أريد قوله هنا، للدكتور عبد اللطيف سعيد، ولغيره من المهتمين، هو إن صلاحية القارئ، أو سطوة المتلقي، أو سلطة الناقد، خلافاً لما يقوله التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي وأنصار التأويل تظل خاضعة لسلطان النص المقروء، وتبقى محكومة بدلالات ألفاظه، ومعاني عباراته. وعلى الرغم من أن سلطان النص ليس سُلطاناً مُطلقاً بلا حدود أو قيود، فإنه لا يسمح للمتلقي أن يسلبه حقه في أن يكون ذاته عن طريق تأويله كما يشاء، أو يقرأه على هواه، حتى ليقولّه ما لم يقل، أو يُنطِقه بما لم ينطق به.
أخيراً، التجاني يوسف بشير مفكرٌ كبير، وشاعرٌ منيف، ومثقفٌ جسور قادر على أن يقول ما يريد صراحة وبراعة، وأن ينتزع معانيه من بين شدقي غول اللغة عنوة واقتدارا، وأن يفصح عن مكنونات صدره غير هيابٍ من غير تأويلٍ أو وجل. ومن نِعم عبقريته علينا أن تظل "أنشودة الجن" جزلة وجذلة وعذبة ومُستطابة. وستظل كذلك على الرغم من أن د. عبد اللطيف سعيد في "ما هي "أنشودة الجن" التي جن بها الناس جنونا؟" حاول، بين "موت المؤلف" وإعادته إلى الحياة وبتأويله الجامح والشاطح لكلمات التجاني، اغتيال نص "أنشودة الجن"، ومحاولة القضاء على ما يزهو به من إشراقٍ وبشاشةٍ وطلاقةٍ غيلة وغدرا، ومع سبق الإصرار والترصد.
-
*أحمد حسب الله الحاج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.