اليوم التقيته تحت دالية أصابتها الحرب في القلب فكانت كالبطة العرجاء ، عيدان الخشب تنحني بخجل ، والقش الذي كان يحتويها من سطوة الشمس رحلت إلا بعض متمرد وربما لم تطاله رصاصات حمقى .
كان يجلس في زاوية مقابلة عطشى لكل شيء في الحياة ، مطأطأ رأسه صوب قدميه ، بينما كنت أقبع على أريكة مهترئة في زاوية مقابلة .
استرقت النظر على استحياء فهنا لابد للخشوع أن يحضر ، أول ما وقعت عليه عيني المتعبتين شعره الكثيف الأبيض وهو ما أثار استغرابي ، فكيف لتسعة عقود أن تدع هذا الرأس يحمل الشعر دون أن يغتاله ، لم يكن مصففا كما يفعل شاب في بداية العمر ، تركه يتمادى ثم يتهادى كيفما شاء .
مازال يصوب نظراته إلى بين قدميه دون أن يرفع نظره ولم أكن أدري إن كان يراني وأنا أتابعه ، التجاعيد تتسلق نحو الأسفل من بداية حاجبيه العريضين الكثين إلى وجنتيه لتتكاثر في تناغم موسيقي وهي تصل إلى عنقه الأجرد ، إنها السنوات الطوال تحفر خنادقها عميقة دون أن تعرف معنى الرحمة ، يداعب يديه فتتشابك الأصابع حينا وتنفرج حينا آخر ، دون أن تشفع لها تلك التماوجات الأسطورية ،
للتو يرفع وجهه ويبادلني نظرة سريعة لكنها حكت الكثير في ثوان قليلة ثم أزاحه باتجاه آخر دون أن يتركني أعلم بما كان يفكر في تلك اللحظة .
الآن تظهر عيناه الزرقاوان اللتان تعتبران الأجمل في جسد تهالك على مقعد خشبي ( كم من مرة أخبرته بأني أتمنى لو أهداني لونهما لكنه كان يضحك ويشير إلى زوجته ) فأعلم بأنها هي التي أهدتني لون عينيها ولم تترك له خيارا كي يمنحني ما أريد .
الغريب في هذا أنهما كانتا تمتزجان مع وجه أسمر مائل إلى السواد أكثر ، لكنهما الآن تبدوان أكثر بريقا ولمعانا بل هما أجمل بمرات مما كنت أعرفه عنهما طيلة عقود طويلة جدا ، هل هي غلبة السمرة أم هناك أسباب أخرى خفية لا أدريها ...
لف ساقيه على بعضهما البعض دون أن يكترث لنظراتي التي مازالت تجترح أشياء لم أرها من قبل .
فجأة قفزت إلى رأسي المنهك ذكريات شتى عبرت مهرولة وأنا أتابع رحلتي التي جعلت بعض الدمع دفاقا فكتمتها بمنديل متظاهرا بالرشح الذي يرافقني منذ أيام ولعله كان منقذا مهما في موقف حرج للغاية .
هذا الرجل كان ذات يوم ينتعل جزمته البلاستيكية والرفش الحديدي المطعم بالخشب ليمضي نهاره بين حقل مترامي الأطراف ، يسقي هنا ويرمم هناك ويستعين ( بشماخه الأحمر والأبيض ) ليبعد العرق المنهال على جبينه وأحيانا يلجأ إلى قطعة فخارية رمادية لاحتساء بعض الماء .
الرفش يستجيب مرغما لقدم تضربه بقوة فيخترق الأرض ليفتح طريقا واعدا للمياه كي تروي عطش الحنطة ، وشجيرات الزيتون ، يتناول رغيف خبز دسه في جيب سرواله مع قطعة جبن فيلتهمه واقفا كنخلة من بلاد الرافدين .
كم كان يحبذ الصمت وهو عائد من نهار طويل كعنق زرافة ، لا يعير اهتماما لتمتات زوجته البيضاء ذات العينين العسليتين ، فيضع رفشه في مكان آمن ، يغسل يديه بماء ممزوج بالتراب ، ويبدأ سهرته معنا تحت سقف طيني .
هناك كل يوم حكاية من حكايا كانون البارد ، نضحك أحيانا وننام في أحيان أخرى قبل أن يصل إلى خاتمة الحكاية .
كثيرة هي الذكريات التي قفزت إلى رأسي ، ربما لن أستطيع سردها دفعة واحدة ، لكنها تروي قصة رجل كان شامخا قويا رغم زرقة عينيه وهو الآن يجلس مطأطأ الرأس دون أن يستطيع أي شخص أن يخترق تفكيره ليصل إلى جعبة كبرى من الأفكار التي تخط طرقا متعرجة في ذاكرته التي أصبحت على وشك الابيضاض .
أشعل سيجارة على مهل ، نفث دخانها إلى السماء ، مد يده إلي بواحدة فأشعلتها أنا أيضا وفعلت ذات فعله فتشابك دخان السيجارتين قبل أن يصعدا في رحلة التلاشي الأخير .
( هل لي بسؤال يا أبي ) ... نظر صوبي متفاجئا ( ماذا يا بني ... مابك هل يؤلمك شيئا ما ) ... لذت بالصمت لبعض الوقت ثم تداركت : ( نعم يا أبي ... نعم ... أنت من يؤلمني ) ...
-
*وليد.ع. العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.