⏪⏬
*علي المسعودالسينما ليست مجرّد وسيلة تسلية وإمتاع، بل هي عالمٌ معرفيّ وثقافيّ ونفسيّ شديد الوقع والتاثير ، وسواء شئنا أم أبينا، فإنّ هذا الفن، الذي يتجلّى بالدرجة الأولى في صناعة الأفلام الطويلة ، هو أحد أهم صنّاع الثقافة والأفكار والرأي العام والقيم في المجتمعات
البشرية كافّة ، كما إنّ أحد التطوّرات الكبرى التي حصلت في السينما في العقود الأخيرة ، كان ما يرتبط بالتعمّق في الشخصية الإنسانية وحالاتها الروحية وخصالها ونزعاتها ، الأمر الذي وفّر فرصة مهمّة للإطلالة على هذا العالم الكبير ودراسته وتحليله واستخلاص الكثير من الدروس والعبر منه. وقد أمّن التلاقي العجيب بين الكثير من معطيات علم النفس الحديث والإنتاج السينمائي مثل هذه الفرصة المميّزة، كما يمكن أن يحصل على صعيد العلوم والبيئة والكون وغيرها من المجالات ، يمكن اعتبار إشكالية ربط السينما والفضاء السمعي بصري بالمجال التربوي قضية محورية وملحة تهم في ذات الحين المدرسة والمجتمع ، وإذا انطلقنا من الواقع اليومي الذي يبرز ظاهرة اقتحام الصورة والمنتوج الإعلامي لكل الفضاءات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، فإن التفكير في خلق جسور بين السينما والمدرسة والتربية المنزلية يصبح ضرورة حتمية لا يمكن غض الطرف عنها ، فالعلاقة بين السينما والتربية رهينة أهداف لا يمكن الاستغناء عن أي منها ، وغالباً ما يتوقع الجمهور من الأفلام التي تدور حول المدارس والطلاب نوعاً من المعالجة التي ألفوها ، فكثرت الكليشيهات المكرورة مرة بعد أخرى، حتى ضاقت مساحة التوقعات ليأتي فيلم “السيد لزهر” للمخرج الكندي فيليب فالارديو عام 2011 ، ليمنح
حكاية المدرسة و أسلوب التعليم ألقاً مختلفاً لا سيما وإن أخذنا في الاعتبار مبدئياً أن الحكاية في حد ذاتها مدهشة ومختلفة كلياً عن النمط المعتاد من أفلام المدارس . تدور أحداث الفيلم حول “السيد لزهر” وهو مهاجر جزائري عاطل ذو خمسة وخمسون عاماً يقرأ في الجريدة ذات يوم خبر انتحار مدرسة في إحدى المدارس الابتدائية الكندية (إقليم كيبيك) .
يبدأ الفيلم في يوم شتائي ثلجي ولقطة من الاعلى لتجمع الصبيان الطلبة في باحة المدرسة و في مستهل عام دراسي جديد ، الطالبة الصغيرة ( أليس) تطلب من زميلها ( سايمون) وهو أحد طلاب الصف الخامس، ويقوم بدوره – إيميلون نيرون ، بجلب الحليب لهما من داخل المدرسة ، وعندما يتوجه الى داخل المدرسة و يتسلل الطفل (سايمون) ـ وهو أحد طلاب الصف الخامس، ويقوم بدوره – إيميلون نيرون ـ إلى الردهة الداخلية للمدرسة كي يأخذ صندوق الحليب لأصدقائه في الساحة ، فيسارع خطاه لكنه يفاجأ بأن باب قاعة الدرس مقفلة ومن خلال الزجاج يلمح المعلمة “مارتين لاشانس ” مدرسة اللغة الفرنسية وهي معلقة بحبل وسط قاعة الصف الدراسي ، والمعلمة “مارتين لاشانس ” لا نرى لها حضوراً في الفيلم سوى في صورة يتيمة تظهر لاحقاً- معلقة في زاوية الفصل وقدماها متدليان فوق كراسي الفصل الصغيرة . مشهداً صادماً لا يستطيع عقله الغض استيعابه . مشهد الانتحار هذا سوف يصدم طفلة أخرى في المدرسة هي (آليس) وتقوم بدورها – صوفي نيليس ـ والموت الاختياري هنا رغم أنه تجسّد في لقطة خاطفة وسريعة إلا أنها ستكون اللقطة المحورية للفيلم برمته ، يسقط من يدي الطفل “سايمون” صندوق الحليب ويهرع راكضا من هول الصدمة نحو إدارة المدرسة لتأتي المعلمات بعجالة لإخراج التلاميذ مرة أخرى إلى الباحة ، وحدها إليس تقترب بريبة من صندوق الحليب المبعثر على الأرض ثم يمتد نظرها نحو الصف ليتلقى ذلك المشهد الفاجع قبل ان تتلقفها أيدي المعلمة لتسحبها بعيدا . هنا تبدأ إدارة المدرسة في محاولة رأب الصدع النفسي الذي حل بالطلاب عن طريق استدعاء معالجة نفسية ، لكن الأمور تبدو أعقد من ذلك ، عينت مديرة المدرسة مدام فايانكور طبيبة نفسية للتحدث مع الطلاب ومساعدتهم على تجاوز الصدمة ، وأعادت طلاء الفصل وإخفاء أي متعلقات أو آثار للمعلمة المنتحرة لمارتين من المدرسة ، طاقم التدريس نفسه لا يعرف كيف يتعامل مع الموقف ، خاصة إذا تعرض أحد الطلاب لانهيارعصبي، هناك أيضًا مشكلة أخرى، وهي عدم وجود بديل يشغل مكان المعلمة لمارتين يدرس للطلاب . وهنا في هذه اللحظة الحاسمة ، يظهر رجل تبدو عليه سيماء الطيبة والكياسة والاحترام ، ألا وهو السيد “بشير لزهر” ـ الجزائري الأصل ـ جاء كي يعوض الفراغ الذي تركته المدرسة المنتحرة (مارتين لا شانس) ، بعد أن قرأ خبر أنتحارالمعلمة في الصحف ووجود شاغر في المدرسة ، ويقدم نفسه بمزاعم أنه أستاذ مدرسة و له خبرة 19 عاما في التدريس في مدارس الجزائر ، ويعيش بشكل دائم في كندا ، تخبره المديرة أنه ليس بهذه السهولة القبول بعرضه ، بل هناك أجراءات عليهم الواجب أتباعها ، يرد عليها السيد بشير لزهر انه الان متفرغ وأنتم بحاجة الى أستاذ ، وهو يحب الاطفال وله شغف بالتعليم ، وبعد تقديمة للسيرة الذاتية الخاصة به يبين إستعداده للعمل بدوام نصف يومي أو كامل أو ساعات أضافية، توافق أدارة المدرسة على تعيينه دون مماطلة حتى تسد الفجوة النفسية الكبيرة التي تركها الغياب المأساوي للمعلمة المنتحرة، و يباشر عمله في المدرسة وفي نفس الصف الذي كانت تديره المعلمة لامارتين ، وعدما يخط أسمه على السبورة ( بشير لزهر)، يبدا بشرح معنى أسمه وهوبشير يعني حامل الاخبار الجيدة ، وماهي تلك الاخبار الجيدة ، تسال أخدى الطالبات ويرد عليها :” لامزيد من الوظائف في حصص بشير . ولزهر يعني محظوظ ، والاخبار الجيدة أنني محظوظ لوجودي معكم ، أما بالنسبة لأصلي فأنا من الجزائر”. يبدأ بشير بالتدريس الطلاب ويجده الطلاب أسلوبه غير مألوف ومختلف ، فهو يقوم بإملائهم مقطع من قصة للكاتب الفرنسي الشهير هنري دي بالزاك ، ويجدها الطلاب غير مفهومة، بشير له تعريفات مختلفة لقواعد النحو الفرنسي عن تلك التي يعرفها الطلاب، نظرًا لاختلاف الفرنسية التقليدية عن الفرنسية الكويبيكية ، سيبني المعلم ( بشير لزهر) علاقته معهم سريعاً، وفي نفس الوقت ، يجابه المدرس الجديد ومنذ يومه الأول بتحديات خارجية صعبة ، وبأسئلة داخلية أكثر صعوبة حول الأسباب التي دفعت المدرسة مارتين لاختيار غرفة التدريس مكاناً لانتحارها وييجد صعوبة بتغير الصف الذي حدثت فيه الحادثة التي أثرت على نفسية الطلاب الى حد ان ذوي إحدى الطالبات وهي (شانيل ) قدمت نقل الى مدرسة أخرى بسبب الكوابيس التي تلاحقها ، السيد “بشير لزهر” – يؤدي دوره الممثل الجزائري الفرنسي محمد فلاق- الذي يبدي رغبته في التعاون وحل محل معلمة الفصل الراحلة، يبدا بالتغير من مقاعد جلوس الطلاب المرتبة بشكل قوس من الدائرة ويعمل على تغيرها ووترتيب المقاعد على شكل صفوف مستقيمة . وعندما يردع الطالب سيمون بضربه على رأسه ترد عليه الطفلة زميلته ، “أستاذ عليك ان تعتذر لسيمون لآننا لسنا في السعودية”، يفاجئ الاستاذ بهذا ويرد ” شكرا لله لأننا لسنا في السعودية ، وعندما تاتي الاختصاصية النفسية الى الصف ، يفاجئ السيد لزهر بطلبها منه بالخروج من الصف وعندما يسأل عن السبب ، تخبره ” من ألافضل أن لايكون أستاذهم حاضراَ، لانها تريد أن تفصل بين العلاج بالتحليل النفسي وبين أصول التعليم ، كي يتمكنوا من الحديث بحرية”. من ناحية أخرى ، الكوابيس تطارد السيد لزهر من ماضي قاسي يطارده ، في قاعة المحكمة ، وفي جلسة الأ ستماع المخصصة للبت بأمر قبول طلبه للجوء أو رفضه ، والتي ستنكشف من خلالها مأساته الشخصية التي خلفها وراءه في الجزائر، نكتشف أن السيد بشير ليس مقيمًا دائمًا كما أخبر أدارة المدرسة ، بل على العكس هو مقيم غير شرعي ويسعى لتقديم أوراق لجوئه لكندا، ويتبين لنا أيضًا أن بشير هو الآخر تعرض لصدمة كبرى، حين يسأل عن التهديدات التي توجهت الى زوجته وللعائلة بعد أصدارها لكتاب وعند وصفه للتهدات ونوعها يرد” تكلموا عن الخيانة ، عن الاعدام و الموت ، تهديدات بالقتل “، وعندما يسال أنت معلم ، يخبرهم ” لآ ، زوجتي كانت معلمة ، أنا موظف حكومي حتى عام 1994 ، بعدها أدرت مقهى ” وعند السؤال ماالمشكلة في كتابها ؟ خصوصا أن فترة التسعينيات عادت الجزائر الى طبيعتها حسب علم المحكمة” ، السيد لزهر، يخبر المحكمة ” الجزائر ليست بالوضع الطبيعي بالكامل ، يرد محامي السيد لزهر ” الهجمات لم تتوقف ، في الشهر الماضي كان هناك خمس هجمات” ، وحين يطلب منه الحديث عن كتاب زوجته فيخبرهم ” أنه ينتقد سياسة المصالحة الوطنية ، حيث ان الكثير من المجرمين قد تم شمولهم بالعفو ، المتطرفون ألاسلاميون وكذالك رجال الشرطة والجنود الذين أرتكبوا جرائم القتل ، والاكثر خطورة عندما يكون هذا الكلام صادر من إمراة “، وعندما يواجه بالسؤال لماذا لاتاتي عائلته المهددة معه وتقدم على طلب اللجوء ؟، “ذكرت أن عائلتك في خطر ومع ذالك أتيت وحدك “، وكان رده بأن زوجته ماتت وكذالك عائلته كلهم ماتوا، عندما كانت زوجته
مختبئة في شحنة التسليم وكانت تخطط للهرب الى تونس مع الاولاد ، في تلك الليلة أحترق المبنى ، عندما هجم الإرهاببين ليشعلوا النار في العمارة التي يقطنوها فتموت الزوجة والطفلان ، أما ألابنة أنيسة فقد رمت بنفسها إلى الشارع خوفاً من أن تلتهمها النيران ، وماتوا جميعهم .
هذا التراكم الكبير من الأسى الداخلي سوف يدفعه للبحث عن علاج سلوكي ونفسي متبادل بينه وطلابه المتأزمين مثله ، والذين يمكن للمسة حانية أو شحنة عاطفية أن تعيد لهم الصفاء المفتقد واستقرارالحالة النفسية التي باتت قلقة ومتعبة. يتمثل التحدي أيضاً في رغبة السيد “لزهر” القوية في دفع الطلبة إلى تخطي هذه التجربة المريعة والغامضة بالنسبة لهم، ورغم الملاحظات العنصرية التي يبديها الآباء تجاه أسلوبه في التعليم ، ورغم امتعاض المديرة من بحثه عن مسببات الانتحار، إلا أن الاستاذ ” مسيو لزهر ” يصر على أسلوبه التربوي المختلف الذي يميل للاسلوب الشرقي في التربية و التعليم وتغليب العاطفة وأساليب الترغيب والتوبيخ المتبعة في بلده . يكشف لنا المخرج سبب اهتمام” السيد لزهر” بدوافع انتحار المدرسة، عندما لا يواجه الأستاذ بشير مشاكل حقيقية في الفصل عند شروعه بتدريس الفصل، وفي ذلك استثمار ناجح لفكرة أن الطلاب صغار وفي المرحلة الابتدائية مع اعتبار الحادث النفسي الرهيب الذي مروا به، لكن ذلك لا يعني أن الأمور كانت تجري بسلاسة و سهولة دون وجد المطبات و الهفوات ، طلاب من أعراق مختلفة يحاول ردم الهوة النفسية لهم من خلال التقرب لحياتهم الدراسية وانشغالاتهم العائلية مندفعا بشعور الحزن والأسى الذي غلف حياته لتجنيب نفوسهم الغضة هكذا إحساس، لكن حماسه يصطدم بتزمت الإدارة الملتزمة وكذالك بيروقراطية القوانين التعليمية الأشبه بقيود تحد من سلوك المعلم وتقتل تفاعله مع تلاميذه ، فالسيد بشير بحاجة للكثير من الأشياء ليتعلمها من أجل القدرة على النفاذ إلى عقول وقلوب الأطفال الذين يبدون مستوى ذكاء وإدراك أكثر مما يتصور، لكنهم رغم ذلك لا يعتقدون أن بلزاك مناسب لتدريسهم اللغة الفرنسية ، السيد بشير لزهر هو الآخر لا يجد حرجاً في التعلم وتغذية معلوماته الناقصة حول كل ما في المدرسة ، فهو ودود ولطيف وسهل المعاشرة، لكن خلف هذا القناع المبتسم والمتعاون تكمن معاناة إنسان محطم يحاول اللجوء إلى كندا بسبب عملية إرهابية كانت ضحيتها أسرته وبعض جيرانه، ما يجعل الفيلم ينطلق في استقصاء الردم النفسي الذي يتم على شكل عملية تبادل لكلا الطرفين المعلم وطلابه ، لكن السيد بشير يبدو قادراً على أن يكون متوازناً حتى اللحظة الأخيرة في عدم توريط طلابه في تجربة أخرى، تجربته الشخصية!!. “السيد لزهر” يصبح على مقربة من هؤلاء الأطفال ﻷنه عرف كيف يعاملهم. أخيرا ينال السيد لزهر قبول طلبه باللجوء بعد سجالات المحقق والقاضي معه حين مُس شغاف قلبه لينثال اسى حكايته المفجعة، وكمعادل رمزي لسيرة الحياة وتغيراتها كان الربيع قد أتى مزهوا بخضرته الفاتنة في تبدلات فصلية شكلت معيارا لمسارات النفوس الغضة وانعطافاتها ليرتفع نسق الحكاية نحو التفاؤل وأمل ينمو، قبل أن توقفه بيروقراطية وصرامة سلك التعليم عن العمل في المدرسة نظراً لقصور مؤهله، وتنهي شيئاً كان بحاجة إليه بقدر ما كان الأطفال وأولياء أمورهم بل والمدرسة بحاجة إليه ، وتختم رحلته التعليمية بقرار المديرة في إنهاء خدماته لاستمراره بفتح موضوع الانتحار مع طلابه وأولياء أمورهم رغم التحذيرات ، ليطلب منها إكمال محاضراته معهم لذلك اليوم بدل المغادرة دون وداع مثل رحيل المعلمة مارتين فتوافق ، وكان قد وعدهم بكتابة حكاية في درس الإنشاء مثلهم حيث يتشاركون النقاش والتصحيح، وفي درسه الاخير يطلب منهم ” ألان اذا أردتم ان تصححوا القصة الخاصة بي ” فيصرخ الطلبة وبفرح طفولي نعم ، “حسنا ساقرأ وأذا وجدتم خطأ أوقفوني ” ، ويبدأ بقراءة قصته( الشجرة و اليرقة ) بقلم بشير لزهر ، وبصوت متهدج وحزين يخفي وجع فراق طلبته الذين صاروا جزءاً من حياته :” بعد أن جاء الموت بشكل ظالم لايوجد شيء لأقوله لاشئ على الاطلاق ، بعد ان تسلل الألم بين أغصان شجرة الزيتون، حيث تعلقت هناك يرقة صغيرة زمردية اللون ، غداٍ ستكون فراشة بعد أن تتحررمن الشرنقة . الشجرة سعيدة لرؤية اليرقة تنمو، ولكنها أرادت منها البقاء لعدة لسنوات فهي تقيها من العواصف وتحميها من النمل، لكنها يجب أن تغادر في الغد لتواجه حياتها الجديدة حيث الحيوانات المفترسة والجو السيئ في تلك الليلة اشتعلت النار في الغابة ولم تتحول اليرقة إلى فراشة ، عند الضحى برد الرماد وبقيت الشجرة واقفة هناك لكن قلبها أصبح متفحما تغمره المرارة كانت خائفة من اللهب والأسى، منذ ذلك الوقت كلما حط طائر عليها تحدثه عن اليرقة التي لم تستيقظ أبدا ، فيتخيلها الطائر بجناحيها المفرودين عبر سماء زرقاء صافية ، ثملة برحيق الحرية وشاهدة على قصص حبنا السرية . يغادر السيد لزهر المدرسة وسط دموع الطلاب وحزن الطفلة الصغيرة ( أليس) ، فالتلميذة الجميلة التي تحب معلمها وتضع صوراً من الجزائر داخل طاولتها لا تعرف شيئاً عن معلمها سوى اسم بلده والتي تعلقت به وبحكاياته كتعويض عن حرمانها من الاب وغياب الام الدائم لظروف عملها لكونها تعمل مضيفة في الخطوط الجوية .
تشارك السينما والمدرسة الارشاد و التوجيه التربوي وفي كلاهما وسيلة للتواصل الجماهيري ، وكلاهما يسعى إلى تمرير مجموعة من القيم والمعارف إلى الجمهور المتلقي . ويقول «السيد لزهر» في إحدى مداخلاته مع الطلبة : (الفصل هو بيت للصداقة والعمل مليء بالحيوية، حيث تكرّسون حياتكم فيه، ولا تلوموا المدرسة بشأن يأسكم وإحباطكم)، وهو نفس الهَمّ الذي يَعكس من خلاله تجربته خارج وداخل كندا، ويركز عليها المخرج فيليب فلاردو وهي فكرة الفيلم، عن طريقة وشكل التربية . مثل ذالك التلميذ الذي يلتقط الصور، لا يعرف شيئاً عن اضطرابات معلمته السابقة التي قد تكون راحت ضحية صرامة التعليمات المتعلقة بعدم الاحتكاك جسدياً بالتلاميذ وسوء الفهم ، ثم إن السيد لزهر نفسه لن يكون معلماً في الأساس، وكما هي العلاقات في الحياة التي تحمل التباسات كثيرة، كذلك الفيلم يبني العلاقات بين شخصياته وفق تلك الالتباسات دون انعطافات مفتعلة أو ارتجالات طارئة، وانتصار للمشاعر العفوية كما ستكون عليه نهاية الفيلم. الهَمّ الذي يَعكسه المخرج فيليب فالاردو من خلال عرض الفيلم ، هي رؤيته عن طريقة وشكل التربية و التعليم ، وعن المجتمع في صورته الحقيقية ، والذي لن يصبح قادراً على خلق جيل سليم بدون تعليم صحيح ، وعن التنشئة بمعناها العميق ، دون مواجهة مشاكله وتجاوز عيوبه . لغة الفيلم السينمائية هادئة وهي تتنقل رغم هدوئها بحيوية شديدة تستقي أجواءها من فصول الدراسة التي تبتدئ بالشتاء وتنتهي في الربيع في إشارة ربما كانت لها دلالة ما، وأحداث الفيلم في سياقها الزمني مبنية على قفز مدروس في تيار الزمن، الأمر الذي يمنح المشاهد ذلك الشعور باستمرار الحياة رغم الموت الجاثم على مخيلة الأطفال الذين هم أكثر شغفاً بالحياة وأقل استيعاباً للموت وتداعياته ، المخرج الشاب ” فيليب فالارديو” حقق عملاً مميزاً من خلال إدارة فيلمه وممثليه باقتدار بالغ وعلى رأسهم الممثل الجزائري – الفرنسي ” محمد فلاق “الذي حاز على كثير من التقدير لأدائه المميز، كما استحق جائزة مهرجان “جيني” الكندي بأونتاريو عن فئة أفضل ممثل في دور رئيسي، كما حاز المصور “رولاند بلانتي” على ترشيح آخر على إنجازه في التصوير، لكن مجمل الجوائز والترشيحات كانت من نصيب فالارديو الذي برز منذ أول أفلامه التي تبلغ أربعة بفيلمه هذا ، والذي ترشح في فئة أفضل فيلم أجنبي في الحفل الرابع والثمانين للأكاديمية الأمريكية . الفيلم واعٍ جداً ويسير في خطوط مدروسة بعناية، كما أن لغة حواراته على الرغم من سلاستها، كانت شديدة الشاعرية وتحمل في طياتها دفئاً إنسانياً نادراً، حتى في أحلك مواقف الفيلم مثل جلسة التحقيق في طلب السيد “بشير” حق اللجوء السياسي ، قد يرى البعض أن الفيلم يناقش قضايا أخلاقية متعلقة بالشرف والصدق وربما الأخوة الإنسانية التي لا تعرف جغرافية المكان أو أيديولوجية المعتقد، لكن الفيلم وإن عكس بعضاً منها كطيف ، إلا أنني أظنه يجسد ترميم الأرواح بما بقي في داخلها حياً، تلك القدرة على المواساة والتعزية رغم كل ندوب الحياة، لكن الوصول لتلك الحالة كان لا بد له من المرور من بعض المآزق من خلال روابط الطلاب مع ذويهم، والذين لا يزالوا يذكرون السيد “بشير لزهر” بطيبته وبغفلته عن إدراك اختلاف هويته الثقافية والاجتماعية وفي مساحتها الأقل حضوراً، الأمر الذي كان يربكه ويجعله فريسة لحالة من الاستغراب البالغ، لكن الفيلم رغم كل ذلك متخم بالتسامح في كل مسار من أحداثه . الفيلم مقتبس عن مسرحية “بشير لزهر” للكاتبة الكندية ” كاترين دي شانلييه ” وهي مسرحية ذات فصل وحيد وشخصية وحيدة بنفس الاسم، وفق المخرج ” فيليب فالاردو ” في تحويل النص المسرحي الذي لم يتجاوز 25 صفحة إلى فيلم تجاوز الـ90 دقيقة ، على جانب آخر قدم كل من المخرج” فالاردو” والكاتبة “دي شانلييه” نصًا يتعاطف مع اللاجئين وأزمتهم في الاندماج من خلال تقديمهم لشخصية لزهر، بشير شخص يريد العيش الكريم ويعمل بجد من أجل مساعدة الأطفال وإحداث تغيير إيجابي في حياتهم ، فيلم كهذا رد قوي لقوى اليمين المتطرف المناهض للاجئين في أوروبا وأمريكا . إستكشف فالاردو عالم المدرسة وتأثير الحادثة على الأطفال من أجل إبراز المعضلة الواقع بها بشير بشكل خاص وطاقم المدرسة بشكل عام، الأطفال يمرون بحالة من الصدمة وأغلب آبائهم غير قادرين على التواجد معهم نظرًا لظروف العمل الخاصة بهم . يحسب للمخرج الكندي لفالاردو أنه استطاع تجنب المبالغة والابتذال في إخراج نص ذي موضوع حساس ومعقد مثل هذا، أداء الممثلين ابتعد عن البكائية والمبالغة، استخدام الموسيقى كان محدودًا ومحددًا ومؤثرًا، المخرج فالارادو طرح العديد من الأسئلة ولم يضع أي إجابات لها كوسيلة لوضع المشاهد في نفس مكان أبطال العمل بالأخص بشير وطاقم التدريس، اعتمد فالاردو ومدير التصوير رونالد بلانت على الألوان الباردة والإضاءة الساطعة في التصوير واستخدما أسلوب تصويرأقرب للوثائقي من خلال استعمال الكاميرا المحمولة وتنوير موقع التصوير بدلًا من تنوير الممثلين . التميز للمخرج الكندي(فيليب فالاردو) في رابع تجاربه السينمائية هو أظهاره قدرا كبيرا من الذكاء من ناحية اختياره لشكل اللقطة أو زاويتها محاولا جعل الكاميرا ساندا للحوار ومفسرا له دون ان يترك المتلقي عرضة للملل من خلال مونتاج سلس وتوقيتات زمنية محسوبة بدقة كبيرة مما منح الفيلم تجديدا لأحداثه رغم محدودية المكان المتأتي ، عرض الفيلم في مهرجان لوكارنو في 2011 ولاقى حفاوة نقدية كبيرة ، ثم رشحته كندا للأوسكار في فئة أحسن فيلم أجنبي ، وخسر أمام الفيلم الإيراني” إنفصال ” للمخرج ألايراني”أصغر فرهادى”.
بطل العمل (محمد فلاج) جزائري ومثل شخصية ثرية ومدهشة لمدرس جزائري على الشاشة خلال رحلة ممتعة داخل الفصل لتلاميذ وطالبات من مشارب مختلفة في المجتمع الكندي، شكل كل هذا مع حرارة المشاعر النابضة في الفيلم عاملا مساعدا لتلطيف حرارة الجو، وعاش الجميع عمق البعد النفسي، والتداخلات المتراكمة لشخصيات العمل، وخرجوا بانطباع جميل عبر الكثيرين فيه عن الامتنان لهذا الاختيار الذكي واللافت لصراع الثقافات وللانتصار لصورة المسلم والمشاعر الإنسانية .
قام بدور بشير لزهر الممثل الفرنسي الجزائري الأصل ( محمد فلاق) ، وهومن أشهر ممثلي الكوميديا في الجزائر وفرنسا، حصل على الدور بعد أن رشحته دي شانلييه للمخرج ” فالاردو ” ، هنا وفي هذا الفيلم نراه قد غيرَ من جلده ، فلا توجد مشاهد كوميدية هنا على الإطلاق، بل يجسد فلاق إنسانًا يسعى للاندماج بمجتمعه الجديد ومندهشًا من الإجراءات التي يتخذها النظام التعليمي التي يزعم أنها لحماية الطلاب بينما هي تمنع الطالب من التعبير عن حزنه وصدمته من الحدث، استطاع فلاق أن يجسد العزلة التي تشعر بها الشخصية نتيجة الصدمة التي تعرض لها في الجزائر والتي على إثرها طلب اللجوء لكندا . حاز الممثل الكوميدي الجزائري “محمد فلاق” على جائزة أحسن ممثل رئيسي، عن دوره في الفيلم “السيد لزهر” الفرنسي، خلال الدورة الـ32 لحفل توزيع جوائز “العبقري”، أو ما يعرف بالأوسكار الكندي، وقال الممثل محمد فلاق لإذاعة “أر تي آل” الفرنسية مباشرة بعد الإعلان عن الجائزة: ” أنا جَدّ سعيد بهذا التكريم، الذي أناله عن فيلم يعد تجربة فنية مميزة بالنسبة لي” . وأضاف “الأمر لا يتعلق بمجهودي لوحدي بل لكل فريق الفيلم، خصوصا مخرجه. وكنت أود أن أكون حاضرا في مدينة تورنتو بكندا، لكن لم أتمكن من ذلك لارتباط مهني”، وختم يقول “أهدي جائزتي لجمهوري في الجزائر وفرنسا وكل عائلتي”. قامت بدور الطالبة أليس الممثلة”صوفي نيلسن ” ، الطفلة صوفي نيليس جسدت دور فتاة مصابة بالصدمة من الحدث وتحاول بشتى الطرق التواصل مع الآخرين لإخراج ما في داخلها بشكل مذهل ، وقدمت أداء مذهلاً ومتفوقاً، خصوصاً في المشهد الذي اعترفت فيه بمدى إحساسها بالفقد مع غياب المدرسة مارتين، وإصرارها في الوقت ذاته على أن المدرسة مكان جميل وسيظل جميلاً رغم الحزن المهيمن عليها، وهذا ماعبرت عنه عند كتابة مشاعرها في مادة الانشاء و التعبير ، واستطاعت من خلال تماهيها مع حس البراءة المعذبة للأطفال أن تلامس هذا الوتر الرهيف الذي يرنّ في دواخلنا عند مرورنا بحوادث مأساوية فادحة ، قام بدور الطفل سيمون الممثل “إيمليون نيرون “، والذي جسد شخصية طفلًا يخفي حزنه وشعوره العميق بالذنب عن طريق صخبه وإزعاجه أليس وبقية زملائه بالفصل، نيرون له مشهد في نهاية الفيلم سيثير الدموع لدى المشاهدين لصدقه الشديد . في النهاية ، فيلم ” مسيو لزهر ” يقدم درسا في التربية و التعليم ، ويساند اللاجئ وقضية اندماجه مع مجتمعه الجديد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.